للنشر....ملتقى المصباح الثقافي
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة شارك معنا بجمع المحتوى الادبي والثقافي العربي وذلك بنشر خبر او مقال أو نص...
وباستطاعت الزوار اضافة مقالاتهم في صفحة اضف مقال وبدون تسجيل

يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة الموقع
او تريد الاطلاع والاستفادة من موقعنا تفضل بتصفح اقسام الموقع
سنتشرف بتسجيلك
الناشرون
شكرا لتفضلك زيارتنا
ادارة الموقع
للنــــشـر ... ملتقى نور المصباح الثقافي
للنــــشـر ... مجلة نوافذ الادبية
للنشر....ملتقى المصباح الثقافي
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة شارك معنا بجمع المحتوى الادبي والثقافي العربي وذلك بنشر خبر او مقال أو نص...
وباستطاعت الزوار اضافة مقالاتهم في صفحة اضف مقال وبدون تسجيل

يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة الموقع
او تريد الاطلاع والاستفادة من موقعنا تفضل بتصفح اقسام الموقع
سنتشرف بتسجيلك
الناشرون
شكرا لتفضلك زيارتنا
ادارة الموقع
للنــــشـر ... ملتقى نور المصباح الثقافي
للنــــشـر ... مجلة نوافذ الادبية
للنشر....ملتقى المصباح الثقافي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

أدب ـ ثقاقات ـ مجتمع ـ صحة ـ فنون ـ فن ـ قضايا ـ تنمية ـ ملفات ـ مشاهير ـ فلسطين
 
الرئيسيةاعلانات المواقعالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلكتاب تحت عباءة أبي العلاء / نجيب سرور 610دخول
نرحب بجميع المقالات الواردة الينا ... ويرجى مراسلتنا لغير الاعضاء المسجلين عبرإتصل بنا |
جميع المساهمات والمقالات التي تصل الى الموقع عبر اتصل بنا يتم مراجعتها ونشرها في القسم المخصص لها شكرا لكم
جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في الموقع تعبر عن رأي أصحابها فقط
هــذا المـــوقــع

موقع وملتقيات أدبية ثقافية منوعة شاملة ، وسيلة لحفظ المواضيع والنصوص{سلة لجمع المحتوى الثقافي والأدبي العربي} يعتمد على مشاركات الأعضاء والزوار وإدارة تحرير الموقع بالتحكم الكامل بمحتوياته .الموقع ليس مصدر المواضيع والمقالات الأصلي إنما هو وسيلة للاطلاع والنشر والحفظ ، مصادرنا متعددة عربية وغير عربية .

بما أن الموضوع لا يكتمل إلا بمناقشته والإضافة عليه يوفر الموقع مساحات واسعة لذلك. ومن هنا ندعو كل زوارنا وأعضاء الموقع المشاركة والمناقشة وإضافة نصوصهم ومقالاتهم .

المواضيع الأكثر شعبية
عتابا شرقية من التراث الشعبي في سوريا
تراتيل المساء / ردينة الفيلالي
قائمة بأسماء خريجي المعهد العالي للفنون المسرحية.. سوريا
موسوعة المدن والبلدان الفلسطينية
الـنـثر في العصر الحديث.
"الشاغور".. الحي الذي أنجب لــ "دمشق" العديد من أبطالها التاريخيين
سحر الجان في التأثير على أعصاب الانسان
مشاهير من فلسطين / هؤلاء فلسطينيون
قصة" الدرس الأخير" ...تأليف: ألفونس دوديه...
كتاب - الجفر - للتحميل , الإمام علي بن أبي طالب ( ع )+
مواضيع مماثلة
    إحصاءات الموقع
    عمر الموقع بالأيام :
    6017 يوم.
    عدد المواضيع في الموقع:
    5650 موضوع.
    عدد الزوار
    Amazing Counters
    المتواجدون الآن ؟
    ككل هناك 316 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 316 زائر :: 2 عناكب الفهرسة في محركات البحث

    لا أحد

    أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 1497 بتاريخ 04.05.12 19:52
    مكتبة الصور
    كتاب تحت عباءة أبي العلاء / نجيب سرور Empty
    دخول
    اسم العضو:
    كلمة السر:
    ادخلني بشكل آلي عند زيارتي مرة اخرى: 
    :: لقد نسيت كلمة السر
    ***
    hitstatus

     

     كتاب تحت عباءة أبي العلاء / نجيب سرور

    اذهب الى الأسفل 
    كاتب الموضوعرسالة
    للنشر
    الإدارة
    للنشر


    المشاركات : 3446
    . : ملتقى نور المصباح الثقافي

    كتاب تحت عباءة أبي العلاء / نجيب سرور Empty
    مُساهمةموضوع: كتاب تحت عباءة أبي العلاء / نجيب سرور   كتاب تحت عباءة أبي العلاء / نجيب سرور Icon_minitime07.04.12 0:50

    تحت عباءة أبي العلاء

    نجيب سرور


    حققه وكتب مقدمته
    د.حازم خيري


    كلمة

    نجــيب: أيها الثائر..لم لُذت بدارك؟
    أبو العلاء: "أُولو الفضل فى أوطانهم غرباء!"
    نجــيب: لم لم ترحل..
    أبو العلاء: إلى أين الرحيل؟
    أى فرق بين أن أُنفى بعصري،
    لو تروم الصدق أو أُنفى بداري،
    أو أراني ضائعا فى غير داري؟!

    نجيب سرور
    (لزوم ما يلزم)
    [b]
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    للنشر
    الإدارة
    للنشر


    المشاركات : 3446
    . : ملتقى نور المصباح الثقافي

    كتاب تحت عباءة أبي العلاء / نجيب سرور Empty
    مُساهمةموضوع: رد: كتاب تحت عباءة أبي العلاء / نجيب سرور   كتاب تحت عباءة أبي العلاء / نجيب سرور Icon_minitime07.04.12 0:52

    تابع الكتاب


    المقدمة

    "أولو الفضل في أوطانهم غرباء!"، لكم تصدق تلك العبارة العلائية الرائعة أكثر ما تصدق على هذا الكتاب القيم وصاحبه الراحل النبيل نجيب سرور. وقصة ذلك أن الكتاب الماثل ظل حبيس الأدراج لسنوات طوال، تربو على الثلاثين عاما تقريبا، عانت خلالها أرملة الكاتب الروسية السيدة ساشا كورساكوفا الأمرين في سبيل إخراجه للنور ككتاب مكتمل، بعد أن نُشرت بعض أجزائه متفرقة في مجلات مختلفة، وذلك قبل أن يرحل نجيب سرور عن دنيانا ـ أقول إن السيدة ساشا أبت إلا أن يُنشر الكتاب مكتملا، تنفيذا لوصية زوجها الراحل من ناحية، وإدراكا منها لأهمية الكتاب وأهمية موضوعه لنجيب سرور من ناحية أخرى. فلطالما كرر الرجل على مسامعها إعجابه الفائق بثلاث شخصيات، رآها تجسيدا حلوا لعالمه المنشود، أولها المسيح عليه السلام، وثانيها دون كيخوته الشهير بطل رواية ثربانتس الشهيرة التي تحمل الاسم نفسه، وثالثها أبي العلاء المعري شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء ولنا معه حديث يطول. المهم إلى هذه الدرجة أحب نجيب سرور أبي العلاء، حتى أنه أنزله تلك المنزلة الكريمة في عقله وقلبه.
    بيد أنه قد يكون ملائما قبل التطرق إلى الحديث عن الكاتب الراحل وموضوع كتابه المهم، اطلاع القارئ الكريم على طبيعة علاقة كاتب هذه السطور بنجيب سرور، وكيفية وصول مخطوطة هذا الكتاب القيم إلى يده. كنت قد فرغت لتوي من (الإنسان هو الحل)، الصادر عن دار سطور للنشر، وهو كتاب أودعته رؤيتي للنهج الإنساني أو الأنسنية Humanism كما يحلو للبعض، وأنا منهم، أن يسميها. تلك الرؤية التى تجسدت فى قولي بأن تطور التاريخ الإنساني لا يعدو كونه نتاجا لصراع ثقافي معقد بارد، أطرافه الذات الأنسنية والذات المغتربة والآخر! وذلك استنادا لتعريف إليوت الأنثروبولوجي للثقافة بأنها طريقة شاملة للحياة، وهو ما يعني كون الصراع أعم وأشمل منه عند الماركسيين، فاحتياجات الإنسان ليست مادية فحسب، فهي تتجاوز الاحتياجات المادية، على أهميتها وخطورتها.
    المهم، أخذت أبحث عن شخصية أطبق عليها ذلك النموذج الأنسني التفسيري، إيمانا مني بعلميته وواقعيته، فقادتني خطاي إلى نجيب سرور. فرحت أجمع المعلومات والوثائق عن الرجل علاوة على إقبالي على اقتناء وحصر أعماله المنشورة. والحق أني وجدت في أرملته السيدة ساشا كورساكوفا خير معين، فقد فاجأتني في لقائي الأول بها بمقهى ريش الشهير بأن دفعت إلى بحزمة من الأوراق، قالت لي إنها مخطوطة دراسة قيمة غير منشورة، كتبها زوجها الراحل عن أبي العلاء المعري، وطلبت مني تحقيقها وإعدادها للنشر! وبقدر ما أثلج الطلب المفاجئ صدري بقدر ما أخافني لوعورة الطريق وثقل العبء..
    وأراني مُجبرا، قبل المضي قدما في الحديث عن الدراسة وصاحبها أن أستطرد بعض الشيء للتعريف بالأنسنية، في عجالة، عسى أن يدرك القارئ الكريم دوافع إقبال كاتب هذه السطور على تحقيق هذه المخطوطة المهمة واعدادها للنشر وعسى أن يطمئن القارئ نفسه إلى أمانة الجهد المبذول لخروج المخطوطة إلى النور على النحو الذي أراده الراحل الكريم نجيب سرور، فالنص الأصلي لم يُمس من قريب أو بعيد، ولسوف أتحدث عن ذلك لاحقا، بشيء من التفصيل.
    الأنسنية نهج يحترم الإنسان ويُنزله المنزلة اللائقة به، فهي تقول بالإنسان كأعلى قيمة في الوجود، وهدفها هو التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. ففي رحاب الأنسنية لا يوجد سوء تأويل لا يمكن مراجعته وتحسينه وقلبه رأسا على عقب، و لا يوجد كذلك تاريخ لا يمكن استعادته، إلى حد ما، وفهمه بشغف بكل ما فيه من عذابات وإنجازات. وبعبارة أخرى، تنسف الأنسنية جذريا الأطروحة القائلة بان تبجيل ما هو تراثي أو إتباعي يتعارض حتما مع التجديد المستمر للمعطيات المعاصرة. وإذا اتخذنا التاريخ كمثال، نجد أن الأنسنيين يرونه مسارا غير محسوم، قيد التكوين، لا يزال مفتوحا على حضور الناشئ والمتمرد وغير المستكشف وغير المقدر حق قدره وما يطرحه من تحديات. كما أنهم يرون أن الإنسان هو صانع التاريخ، ومن ثم فهو قادر على اكتناهه عقليا، وفق المبدأ القائل بأننا كبشر ندرك فقط ما نحن صانعوه، أو بالأحرى، نراه من وجهة نظر الإنسان الصانع، فأن تعرف شيئا ما يعني أن تعرف الكيفية التي بها صنع ذلك الشيء.
    وطبقا للأنسني الفذ إدوارد سعيد، ليست الأنسنية طريقة لتدعيم وتأكيد ما قد عرفناه وأحسسناه دوما، وإنما هي وسيلة تساؤل وإقلاق وإعادة صياغة للكثير مما يقدم لنا اليوم على أنه يقينات مسلمة، معلبة، مغلقة على النقاش، ومشفرة على نحو غير نقدي، بما فيها تلك الموجودة فيما اصطلح على كونه آراء وأعمال خالدة يجري تغليفها برقائق المحرمات الثقافية. فثمة صعوبة في القول بان عالمنا الفكري والثقافي كناية عن مجموعة بسيطة وبديهية من خطابات الخبراء، فالأرجح انه تنافر مضطرب من المدونات غير المحسومة. ولكل حضارة أن تلبي روحها هذا النهج الأنسني المنشود. ولهذا علينا أن نلتمسه في الحضارات المختلفة، فخصائصه العامة تكاد تكون واحدة بين جميع الحضارات:
    (1) معيار التقويم هو الإنسان.
    (2) الإشادة بالعقل ورد التطور إلى ثورته الدائمة.
    (3) تثمين الطبيعة والتعاطي المتحضر معها.
    (4) القول بأن التقدم إنما يتم بالإنسان نفسه.
    (5) تأكيد النزعة الحسية الجمالية.
    والسؤال الذى لابد أنه جائل بصدور الكثيرين، خاصة ممن لم يعاصروا نجيب سرور، أو حتى عاصروه ولم يسمعوا بحكايته المحزنة وهم كثرُ!: من هو نجيب سرور؟ وما هي حكايته المحزنة والفاجعة؟ وما هو سر هذا الصمت الاعلامي الرهيب والتجاهل التام لمكانة الرجل فى الفكر العربي فى وقت لا يتوقف فيه ضجيج احتفاء الإعلام العربي بالأقزام من كل حدب وصوب؟ والجواب: نجيب سرور هو ذلك الأنسني الفذ الذي لم يقنع على الأرجح بشذرات من الطوبائية، وأبى إلا أن يبلغها، فاحترق ببلوغه إياها! وترك لنا ميراثا يصعب على المسافر في أراضيه البت فيه برأي، فهو خليط من الكبرياء الشهي والكرامة الجريحة، لا يملك المرء إزاءه إلا أن تتنازعه مشاعر الإعجاب والشفقة تجاه صاحبه. الإعجاب بإيمانه الجميل بنفسه، والشفقة لما تكبده من أهوال وعذابات.
    وُلد نجيب سرور عام 1932 في قرية إخطاب بمحافظة الدقهلية، وهي احدى أهم قلاع الاقطاع المصري فى ذلك الزمن. وقد ظلت إخطاب بفلاحيها ومآسيها وغيطانها، متغلغلة في نسيج حياة نجيب سرور وفي الكثير من كتاباته ومسرحياته. منها استخرج المادة البشرية والحياتية الأولى لأدبه، وفيها تلقى معارفه الأولى، إذ تشرب بالموروث الشعبي من عادات وحكايات وأمثال واعتقادات وأساطير. وفيها قرأ ما ألقت به الأيام بين يديه، خاصة وأن والده محمد سرور امتلك مجموعة من الكتب يُعتد بها، وكانت له محاولات شعرية وقصصية. وكثيرا ما حث الأب ابنه نجيب على القراءة والكتابة، على خلاف الحال مع ثروت الأخ الأكبر لنجيب الذى اختصته الأسرة بأعمال "الغيط"، والذي أكمل تعليمه لاحقا، على أمل أن يحقق الابن نجيب سرور حلم الأب محمد سرور، بأن يصبح كاتبا وأديبا يُشار إليه بالبنان، فلم تكن المناقشات الأدبية بين الابن نجيب سرور ووالده لتنقطع يوما فى تلك المرحلة. وبالفعل التحق نجيب بالمدرسة الابتدائية وبدأ رحلته التعليمية، وتفوق وشُغف بالقراءة، وتمتع بحس نقدي راق، حتى أن الكتاب لم يكن ليفارق يده. ومرت الأيام ونجح نجيب فى الابتدائية، ثم التحق بالمدرسة الثانوية، فلم تكن على أيامه المرحلة الاعدادية. وبدأ الصبي نجيب ينضج، كان لا يترك كتب الشعر من يديه وخاصة كتب أبي العلاء المعري ـ موضوع هذا الكتاب ـ على صعوبتها، خاصة لمن هم في مثل سنه آنذاك.
    وطبقا لرواية نجيب سرور (فارس آخر زمن!) وهى رواية غير منشورة تجسد السيرة الذاتية لنجيب سرور، حال رحيله دون اكتمالها، كان الوالد محمد سرور بحكم وظيفته دائم التنقل من قرية إلى قرية ومن مدينة إلى مدينة بين الوجهين البحري والقبلي، فقد ترك التدريس الالزامي والتحق بمدرسة الصيارفة، وأصبح يملك ثلاثة عشر فدانا. وفي مدرسة مغاغة الثانوية اشترك نجيب لأول مرة في تمثيل مسرحية (أصدقاء السوء). وفي كلية الحقوق التى اختارها له والده انضم نجيب الى فريق التمثيل، واشترك مع زميله كرم مطاوع فى تمثيل مسرحية (نهر الجنون) لتوفيق الحكيم من اخراج سعد أردش الطالب آنذاك.
    وبدأت اهتمامات نجيب تزداد بالتمثيل، فالتحق مع كرم مطاوع، وفي عام واحد، بالمعهد العالي للفنون المسرحية مع كلية الحقوق، بيد أن نجيب لم يلبث أن ترك دراسة الحقوق فى السنة النهائية ليتفرغ للمعهد. ولكم أغضب ذلك الأب، الذى لم يبث أن غفر لابنه فعلته تلك بعد أن عرف أن هناك نية لايفاد بعثات إلى الخارج، وإلى روسيا بالذات، فقد كانت طرق البعثات إلى لندن وباريس مغلقة عقب حرب 1956. بعثة إلى الخارج ودكتوراه قد تحمي ابنه من الضياع فى عالم الفن والأدب بين أذرع الأخطبوط الذي كان يوشك هو ـ الوالد نفسه ـ أن يضيع بينها فى مطلع شبابه حين كان يكتب الشعر والمسرحيات!..ويحمل مجرد شهادة مدرسة المعلمين. وبالفعل فاز نجيب بالبعثة، وكان قد أقسم بينه وبين نفسه على ألا يعود إلى مصر، فيما لو اتيحت له فرصة الخروج منها، لما سادها آنذاك من قمع شرس لأصحاب الرأى وسجناء الضمير. وراح الأب محمد سرور يشترى لولده لوازمه، وأوصاه فى قصيدة الوداع التى ألقاها بين المودعين أن يعيش دائما بعقله وقلبه ووجدانه فى وطنه مصر مهما باعدت بينهما المسافات والسنوات!
    وفي موسكو ضرب نجيب على نفسه عزلة، لاقتناعه ـ كما قال لصديقه أبو بكر يوسف فيما بعد ـ بأن المبعوثين المصريين آنذاك (عام 1959) كانوا منتقين بعناية من أجهزة المباحث بحيث لا يفلت منهم تقدمي واحد. أما هو فأفلت بأعجوبة، لأنه وصل إلى موسكو فى قمة الحملة المعادية للشيوعية فى الجمهورية العربية المتحدة، وهي حملة صاحبت إقامة الوحدة بين مصر وسوريا. ولعبت دورا مأساويا في حياة نجيب سرور في موسكو. فما ان أفصح نجيب سرور عن انتمائه للفكر الماركسي، وأشاع انه كان عضوا بأحد التنظيمات الشيوعية في مصر (جماعة حدتو) حتى وجد نفسه محاصرا بشكوك وريب قوية من قادة التنظيمات الشيوعية العربية في موسكو، وخاصة تنظيم الحزب الشيوعي السوري الذي كان يقوده في موسكو أحد أعضاء اللجنة المركزية للحزب اللاجئين الى الاتحاد السوفيتي. وكان مبعث الريبة هو: كيف يتمكن شخص يقول انه شيوعي من المجيء الى موسكو في هذه الفترة بالذات، ويفلت من أجهزة المباحث المصرية التى كانت في أوج عنفوانها، بل وفوق ذلك يأتي طالبا فى بعثة حكومية!
    وفي محاولة منه لتبديد هذه الشكوك جنح نجيب الى التطرف، فلجأ الى تشكيل مجموعة من "الديمقراطيين المصريين" لإصدار البيانات واتخاذ المواقف المعادية للنظام الحاكم، واستغل ذات مرة فرصة انعقاد أحد المؤتمرات التضامنية مع الشعب الكوبي في جامعة موسكو فقفز إلى المنصة واستولى عليها، وأطلق بيانا ناريا ضد "النظام القمعي الديكتاتوري" في مصر وسوريا. وبينما هدرت القاعة المملوءة عربا وأجانب بالتصفيق ظهر الحرج والضيق على أوجه المسئولين في الجامعة، الذين وضعهم نجيب في ورطة شديدة. ونجحوا أخيرا في تنحيته عن المنصة ولكن بعد فوات الأوان! ففي اليوم التالي احتجت السفارة المصرية على جامعة موسكو، وفُصل نجيب من البعثة (هو وماهر عسل الذي ترجم له البيان وألقاه بالروسية) وأُلغى جوازا سفرهما، وطالبت السلطات المصرية المسئولين السوفيت بترحيل نجيب سرور وماهر عسل إلى القاهرة فورا!.
    بهذه الحركة نجح نجيب في كسب ثقة الشيوعيين العرب في موسكو فدافعوا عن بقائه فيها وتكللت مساعيهم لدى السلطات السوفييتية بالنجاح فظل نجيب في موسكو، ولكنه نُقل إلى مدينة جامعية أخرى حتى لا يحتك بالمبعوثين المصريين الهائجين ضده. وبمرور الوقت أدرك نجيب انه ارتكب حماقة، ولم يعد يدري ماذا يفعل بهذه المجموعة الصغيرة التى التصقت به. واعترف لأعضائها صراحة بأنه لا يفقه شيئا في السياسة، وأنه لا يريد أن يلحق بهم الضرر، ولذلك قرر تركهم والانصراف إلى الدراسة، ونصحهم أن يحذو حذوه.
    وبالفعل، وفي الوقت الذي بدا وكأن أمور نجيب سرور تسير إلى الأفضل، بعد تبدد سحب الشكوك فيه وانتصاره في المواجهة مع السلطات الحكومية المصرية آنذاك، سواء برفضه أمرا منها بالعودة إلى مصر بعد ثلاثة أشهر من وصوله إلى موسكو، أو بصموده أمام الضغوط التى مورست ضده بعد فصله من البعثة، أخذ نجيب يبتعد عن مجموعته الصغيرة ويغرق في الشراب والديون. وفى هذه الفترة بدأ يكتب قصيدة "العودة" التى أورد مقاطع منها في ديوانه "لزوم ما يلزم" وهى قصيدة مغرقة في اليأس والضياع والحنين إلى الوطن:
    "يا مصر يا وطني الحبيب!
    يا عش عصفور رمته الريح في عش
    غريب،
    يا مرفئي..آت أنا آت..
    ولو في جسمي المهزول آلاف
    الجراح..
    وكما ذهبت مع الرياح..
    يوما أعود مع الرياح..
    ومتى تهب الريح..أو هبت..
    فهل تأتي بما يهوى الشراع؟
    ها أنت تصبح في الضياع..
    في اليأس..شاة عاجزة..
    ماذا لها، إن سُلت السكين، غير
    المعجزة؟!.."
    وهجر نجيب سرور المسرح الذي كان يدرس فيه تحت إشراف المخرج الكبير نيكولاي أخلوبوكوف متعللا بأن أخلوبوكوف مخرج شكلي يهوى المؤثرات الصوتية والضوئية ولا يغوص في أعماق النص المسرحي. وبالطبع لم يكن هذا هو السبب الحقيقي الذي نفر نجيب من دراسة المسرح، ودفعه للتفكير الجدي فى اعداد اطروحته للدكتوراه عن ثلاثية الروائي المصري نجيب محفوظ، وإنما كانت الأزمة الحادة التى أخذت تتفاعل في أعماقه، والتي لم يجد سرور سوى الاغراق في الشراب كوسيلة للهروب منها. وذات مرة سأله صديقه أبو بكر يوسف مستنكرا ـ وكان يجالسه في أحد المطاعم ـ:
    ـ لماذا تفرط في الشراب إلى هذا الحد؟
    فأجاب:
    ـ لكي أنسى!
    قال له:
    ـ وما الذي تريد أن تنساه؟
    فأجاب بروح دعابته الحاضرة دائما:
    ـ وهل تراني أذكر!
    في أواخر فترة وجوده في موسكو، حوالي عام 1963 بدأ نجيب يُكثر من الحديث عن النفوذ الصهيوني في الاتحاد السوفيتي. واستنكر من حوله منه ذلك بشدة، ولم يصدقوا أن الاتحاد السوفيتي يمكن أن يكون خاضعا للنفوذ الصهيوني، واعتبر زملاء نجيب أنه يغالي كعادته، وخاصة في ظل تفاقم أزمته الشخصية.
    ثم وقعت الحادثة التي وضعت نهاية لبقاء نجيب سرور في موسكو...
    كان نجيب يسامر أحد الأصدقاء اليمنيين فحدثت مشاحنة بينه وبين أحد الرواد الذي ظنهما يهينانه. وتدخل رجال الشرطة وحاولوا اقتياده بلي ذراعيه. وكان نجيب قوي البنية، فتخلص منهم بقوة اعتبروها مقاومة، فاجتمعوا عليه واقتادوه إلى مبنى الشرطة حيث أوسعوه ضربا. وقال نجيب لصديقه أبي بكر يوسف وهو يروي هذه الواقعة: لقد بكيت آنذاك ليس من الألم بل على انهيار المثال ـ يقصد المثال الشيوعي بالطبع ـ، وأحسست أنه لا فرق بين شرطة سوفيتية ومباحث مصرية، فكلها أجهزة قمع، وإنما نحن الذين صدقنا الأوهام عن "الإنسانية الاشتراكية"..
    وسافر نجيب إلى بودابست بدعوة من أحد اللاجئين السياسيين المصريين هناك، حيث عمل في القسم العربي بإذاعة بودابست، وواجه هناك الغيرة والحقد من جانب الشيوعيين السوريين الذين كانوا فى معظمهم غير مؤهلين لمجاراة نجيب فى قدراته وابداعاته فناصبوه العداء. فعاودت نجيب سرور أزمته التي لم يفلح تغيير المكان في إطفاء جذوتها، وكان يتصل بزوجته طالبة الآداب الروسية ساشا كورساكوفا وصديقه أبي بكر يوسف من هناك، مؤكدا لهما على معاداة الشيوعيين السوريين له وسعيهم لابعاده والتخلص منه، علاوة على تأكيده على استفحال النفوذ الصهيوني لا في القسم العربي في إذاعة بودابست فحسب بل وفى معظم أوجه الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية في المجر.
    وذات مرة اتصل نجيب بصديقه أبي بكر يوسف من بودابست، وكان ذلك في ربيع عام 1964، وطلب من عاملة البدالة أن تكون المكالمة على حسابه، فوافق صديقه مستغربا، وعندما تم الاتصال أخبره نجيب أنه طلب ذلك لأنه لا يملك ثمن المكالمة، وقال بصوت متهدج أفجعت نبرته المتهالكة أبا بكر يوسف إنه جائع ولم يأكل منذ أيام، وسيذهب اليوم التالي إلى السفارة المصرية "ليسلم نفسه" (كما قال) لأنه لم يعد يحتمل الزيف المحيط به، ويريد أن يعود إلى مصر ليموت فيها، مثل سنوحي!
    رجاه صديقه أن يهدأ وألا يتسرع على أمل تدبير الأمر، ولكن نجيب أصر قائلا إنه لم يعد ثمة معنى للاستمرار في لعبة الخداع، فالعالم كله لصوص ومخدوعون، وما المذاهب إلا أساليب يلجأ إليها اللصوص لتغطية سرقاتهم. وبهذه المناسبة فقد كتب نجيب سرور في بودابست قصيدته الشهيرة "المسيح واللصوص" حيث "اتهم" فيها المسيح بأنه السبب في ظهور اللصوص الذين أخذوا يتاجرون باسمه، وباسمه يحكمون!
    وحين يحاول "مسيح نجيب سرور" أن يرد على الشاعر بأنه سيعود ليصحح الأوضاع يجادله الشاعر:
    ـ هل تصدق ما تقول؟
    ـ الآب قال بأنني حتما أعود
    ملكا على أرض البشر
    لتسود فى الناس المسرة والسلام!
    ـ لو عدت..من ذا يعرف؟
    ـ سأقول: جئت أنا المسيح!
    ـ سيطالبونك بالدليل
    ـ ستكون في جيبي البطاقة والجواز
    ـ هذا قليل..
    ما أسهل التزوير للأوراق في عصر
    اللصوص
    ولديهم (الخبراء) سوف يؤكدون
    إن الهوية زائفة!
    ـ لكن عليها الختم..ختم الآب!!
    ـ يا بئس الدليل!
    سيؤكد الخبراء أن الختم برهان على
    زيف الهوية!
    ـ سأريهم هذى الثقوب..
    في جبهتي ـ أنظر ـ وفى الكفين،
    في الرجلين..
    جئت أنا المسيح!
    سيقول لوقا: قال مرقص
    إن متى قال، يوحنا يقول:
    "في البدء كان الأمر "اصلب
    والآن صار الصلب أوجب!"
    حتما ستصلب من جديد
    هم في انتظارك ـ كل أتباعك، قطعان
    اللصوص ـ
    هم في انتظارك بالصليب..
    ماذا؟ أتبكي؟ كل شيء مضحك حتى
    الدموع!
    ألعصر يضحك من دموعك، من
    دموعي، عصرنا
    عصر اللصوص،
    بل أنت..حتى أنت لص!
    لو لم تكن ما كان في الأرض
    اللصوص!
    حتى أنا لص..ألم أخدع طويلا
    باللصوص؟!
    فى هذه الأثناء كتب الناقد المصري رجاء النقاش فى جريدة الجمهورية مقالا بعنوان "مأساة فنان مصري في بودابست"، تحدث فيه عن معاناة نجيب وتعرضه لمخاطر جمة وشبهه بأنه "قط فوق سطح من الصفيح الساخن" على حد تعبير تنسي وليامز، وهذا السطح ـ طبقا للنقاش ـ هو القلق الذي لايرحم، ولا يتيح لاصحابه عمرا هادئا، أو حياة بلا تقلبات عنيفة مرة! وبدا واضحا حرص الناقد المصري على استمالة النظام الحاكم آنذاك للسماح لنجيب بالعودة إلى مصر، حتى أنه قرر صراحة فى نهاية مقاله: "إن حنين هذا الفنان ـ يقصد نجيب ـ الى وطنه ليس جريمة، وتفكيره في بلاده عندما تأزمت به الأمور وانسدت في وجهه الطرق هو نوع من التوبة الصادقة ينبغي أن نقبله منه ونساعده عليه"!
    وبالفعل عاد نجيب سرور عام 1964 لأرض الوطن يحمل صك الغفران الذى نجح رجاء النقاش فى استمالة النظام المصري الحاكم آنذاك ليمنحه للفنان التائب ـ على حد تعبير رجاء النقاش فى مقالته الشهيرة ـ نجيب سرور!! كان واضحا ان نجيب يحمل مخزونا كبيرا من المعرفة والخبرة الدراسية والحياتية، والمشاريع والأفكار، مع تقلص واضح فى الفجوة ما بين أقواله وأفعاله. دخل نجيب رأسا في قلب الأحداث، وبشكل عاصف، ومتدفق، ومتعدد المجالات: في الاخراج المسرحي، والتمثيل، وكتابة الأغاني، وكتابة الشعر الحديث الذى يتميز بتركيبه الدرامي ـ على الأخص فى ديوانه الشيق "لزوم ما يلزم"، وكتابة المسرح الشعري، وهو مجال نشاطه الابداعي الأساسي فى هذه المرحلة. فقد جاء نجيب سرور حاملا للمسرح الشعري نقلة الى مرحلة جديدة، مختلفة، وكان عمله التمهيدي لهذه النقلة الرائعة هو ملحمته الشعرية الشعبية (ياسين وبهية)، وكان قد وضعها وهو فى موسكو ثم بودابست. هذه الملحمة استطاع المخرج كرم مطاوع أن يمسرحها بمهارة وابداع، فكانت حدثا مهما يكشف قدرات الاخراج على مسرحة الشعر عندما يتضمن الشعر عناصر الدراما.
    وفي المعهد العالي للفنون المسرحية، حيث كان يدرس، كان نجيب سرور يقول ما يريد كما يريد، ويلقي دروسه في المسرح وتاريخه من وجهة نظره العلمية الثورية. لهذا طُرد نجيب من المعهد الذي كان يقوم فيه بتدريس مادتي التمثيل والاخراج، وكان يلقى فيه المحاضرات بكل صراحة وشجاعة عن أزمة المسرح في مصر. وعن محنته تلك يقول نجيب سرور فى استغاثته الى محرر مجلة الكواكب عام 1968 ما نصه: "..في تقرير للخبير الفرنسي السيد توشار شهادة لي بأنني أحسن أستاذ بالمعهد العالي للفنون المسرحية، عرفت هذا من السيد الوزير نفسه ومن الدكتور مصطفى سويف. ومع ذلك وبعد عامين من التدريس في المعهد، وبعد هذا التقرير، فوجئت باستبعادي من المعهد! كيف؟ ولماذا؟ وهكذا..لا معهد..ولا عمل بالمؤسسة..ولا تعيين..ولا دخل منتظم..ولا مرتب ثابت..ولا اطمئنان إلى اليوم والغد وما بعد الغد!..ولا يمكن طبعا الاعتماد على فرص العمل المتباعدة وغير المنتظمة في الإذاعة والتليفزيون. وأنت تعلم لماذا؟"!
    وتتكاثر الحوادث المؤلمة ويتشرد نجيب سرور ويجوع، ويحاولون استيعابه باغرائه بأن يقدم للتليفزيون أعمالا ترفيهية لا تقول شيئا ولا تتعرض لشيء مقابل آلاف الجنيهات. فيتعفف نجيب سرور وهو الجائع المشرد، ويقول لعارض الصفقة هذه: "قل لوزيرك إن هذه اللعبة القذرة يجيدها غيري، وهم أكثر من الهم على القلب. أما أنا فلن أقبل هذه الرشوة المقنعة"!..ويعود نجيب إلى الجوع والتسكع، بل والاستجداء! ويتهمونه بالجنون، ويرسلوه إلى مستشفيات المجانين!
    ولندع الرجل يصف لنا واحدة من تجاربه المخيفة والمرعبة في تلك المسشفيات التى يقرر، فى رسالة استغاثة أرسلها إلى يوسف إدريس، أن مجموع المدد التى قضاها فيها بلغ أربع سنوات ونصف!! المهم يقول نجيب عن تجربته المريرة واللاإنسانية فى مستشفى الأمراض العقلية الشهيرة بـ (العباسية): " لقد تلقفوني فور عودتي من دمشق وأرسلوني.. لكن مهلا، ليس في معتقل من المعتقلات الحكومية المعروفة والمزدحمة بالنزلاء، وإنما في مستشفيات المجانين، مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية!!...المهم أنني خرجت من مستشفى الأمراض العقلية بمعجزة حطاما أو كالحطام! خرجت إلى الشارع.. إلى الجوع والعري والتشرد والبطالة والضياع وإلى الضرب في جميع أقسام البوليس المخلص في تنفيذ أغراض الأعداء والمحسوب علينا من المصريين أو نحن العرب!خرجت أدور وأدور كالكلب المطارد بلا مأوى، بلا طفلي وزوجتي..وظللت مجمدا محاصرا موقوفا. وبعيدا عن مجالات نشاطي كمؤلف مسرحي ومخرج وممثل، وبعيدا عن ميادين النشر كشاعر وناقد وزجال ومؤلف أغان"!!
    ويموت نجيب سرور جائعا مشردا، فى غيبة زوجته وولديه، فقد اضطرت زوجته للذهاب إلى موسكو مع ولديها شهدي وفريد لارسال الأول الى المدرسة الثانوية الداخلية بموسكو لعدم وجود مرحلة ثانوية بالمدرسة الروسية بالقاهرة آنذاك، وعدم إتقانه للغة العربية اللازمة لالتحاقه بمدرسة ثانوية مصرية، ورغم أنها أوصت الكثيرين على زوجها إلا أن غيبوبة السكر نالت من الرجل، وكان قد غادر شقته بالهرم إلى بيت أخيه ثروت بمدينة دمنهور. رحل نجيب سرور عن دنيانا باكيا حزينا عاتبا على مجتمع لا يجد الشجاعة حتى الآن لرثائه. وذهب الجثمان إلى قرية إخطاب، تلك التى لطالما تغنى بها نجيب فى مسرحياته وأشعاره، واتشحت القرية بالسواد، وكُتب على قبره بالبنط العريض..
    قد آن يا كيخوت للقلب الجريح أن يستريح
    فاحفر هنا قبرا ونم
    وانقش على الصخر الأصم
    يا نابشا قبري حنانك
    هاهنا قلب ينام
    لا فرق من عام ينام وألف عام
    هذي العظام حصاد أيامي
    فرفقا بالعظام ! ..
    تلك هى حكاية نجيب سرور، دون كيخوته المصري، سردتها بأمانة وايجاز ليعلم القاريء الكريم لمن يقرأ، فهذا الكتاب عمل نقدي متميز آثر نجيب أن يودعه ذاكرة الزمن، وها نحن نحقق له ما تمنى! وجدير بالقاريء الكريم أن يعلم بأهمية وخصوصية هذا العمل لنجيب سرور، فقد ربطت بين نجيب وموضوعه صلة فكرية وروحية وطيدة، يندر تكرارها. ويكفي أن نعلم أن رحلة نجيب سرور مع كتابات أبي العلاء بدأت فى فترة مبكرة من حياته، ففى رسالة منه إلى الناقد والأديب أنور المعداوى بمجلة الرسالة الشهيرة آنذاك، وهو بعد طالب بمدرسة مغاغة الثانوية، بدا جليا مدى تأثره بالنهج العلائي، حتى أنه يستشهد بأشعار وآراء أبي العلاء، على صعوبتها، خاصة لمن هم في مرحلته العمرية آنذاك. ليس ذلك فحسب فقد أخبرتني زوجته السيدة ساشا بأن نجيب لم يكن ليمل مجالسة أبي العلاء، فهو حين يقرأ له يسمع منه، وهو حين يكتب عنه يتحدث اليه! فيالها من صداقة ويالهما من صديقين حميمين! والواضح أن نجيب لم يجد بين الأحياء خلا وفيا، فآثر صداقة الراحل أبي العلاء! وكم كانت زوجته تسعد حين تراه فى معية أبي العلاء التماسا للسكينة والصفاء! فهى تعلم ولع زوجها وشغفه واطمئنانه لأبي العلاء، حتى أنها لما دفعت إلى بنسخة قديمة للزوميات، لأستعين بها فى تحقيق الكتاب الماثل، وجدتها مليئة بالخطوط والعلامات، دلالة على تكرار نجيب لقراءتها وتعمقه في فهمها. والحق أنه ليس لصداقة كتلك أن تدوم لولا صفاء الصديقين، ولولا أن أحدهما ـ وهو الحي ـ يجد فى معية أخيه ما يهديء روعه.
    والآن لنتحول إلى أبي العلاء المعري ليعلم القاريء الكريم أي رجل هو، حتى أن نجيب سرور يذهب فى شغفه به وبقراءته الى هذا المدى البعيد؟ يقول طه حسين عن أبي العلاء في ختام أطروحته للدكتوراه التي قدمها إلى الجامعة المصرية عام 1914، بعنوان (تجديد ذكرى أبي العلاء): "...المسلمين لم يعهدوا بينهم في قديمهم وحديثهم فيلسوفا مثله ـ يقصد أبي العلاء المعري ـ، قد جمع بين الفلسفة العلمية والعملية، ثم بينهما وبين العلم واللغة. وأبو العلاء هو الفيلسوف الفذ الذي التزم مالا يلزم عند المسلمين: في سيرته ولفظه، فحرم الحيوان والتزم النبات وأبى الزواج والنسل، وأراد اعتزال الناس. ولأبي العلاء شدة غريبة في رفض الخمر. فقد حرمها من جهات ثلاث: من جهة العقل والصحة والدين. وألف في ذمها كتابا خاصا سماه (حماسة الروح). وأبو العلاء هو الفيلسوف الفذ الذي أنكر النبوات، واعترف بالإله وعرض بالتكليف، وعارض القرآن وهزيء بشيء من أحكامه؛ ثم بقى مع ذلك سالما لم يصبه أذى فى نفسه إلى أن مات. فإذا سألت عن علة هذه السلامة فإنا نحصرها في ثلاثة أشياء، الأول: مهارته فى الاحتياط وإخفاء الرأي. الثاني: أن أكثر أيامه كانت أيام اضطراب سياسي بين حلب ومصر والروم، فلم يفرُغ له الحكام. الثالث: أن الدولة التى غلبت على حلب أيام فلسفته، وهي دولة بني مرداس، كانت دولة بدوية خالصة، لا تحفل بمثل هذه الموضوعات ولا تفكر فيها، وإنما كل همها القهرُ والسلطان".
    ويستمر طه حسين فى تعريفنا بفلسفة أبي العلاء قائلا: "على أن أبا العلاء كان يدفع الحكام عنه، بكتب في اللغة يعنونها بأسمائهم، فيتخذ له بذلك منهم أصدقاء، ولم يقصر هذا على حكام المرداسية، بل فعله مع الدزبري. فألف له كتابا خاصا وهو نائب الفاطميين الذين يكرههم أبو العلاء؛ لذلك سلم من الأذاة الدينية في القرن الحادي عشر للميلاد، مع أن أمثاله من الفلاسفة الفرنج، كانوا يُقتلون ويُعذبون في القرن السادس عشر في أوروبا"!
    ذلك هو الإمام الضرير، شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، الذي اشتهر، أكثر ما اشتهر، باعتزاله الناس ولزوم بيته لا يبرحه، والاستقرار ببلده ـ معرة النعمان ـ لا يعدوه، حتى أنه قال في رسالة إلى خاله أبي القاسم: "إنه وحشي الغريزة أنسي الولادة"، إضافة إلى حديثه الشهير في لزومياته عن محابسه الثلاثة:
    أراني في الثلاثة من سجُوني
    فلا تسأل عن الخـبر النبيث
    لفقدي ناظري ولزوم بيتــي
    وكون النفس في الجسد الخبيث
    وهكذا لم يكن أبو العلاء فيلسوفا فذا فحسب، وانما كان شاعرا وأديبا أيضا، فله شعر ونثر. ولا شك ـ طبقا لطه حسين ـ في أنه قد نظم كثيرا من الشعر، وأن ما ضاع من نظمه أكثر مما بقى؛ فإنه بدأ يعاني صناعة القريض فى الحادية عشرة من عمره، وقد نيف على الثمانين وما ترك القريض، وما أعرض عنهُ. فمن المعقول أن يُنتج هذا العمر الطويل والعمل الكثير شعرا كثيرا، بيد أنه ليس لدينا من نظمه الآن إلا شيء لا يُقاس إلى ما يروي التاريخ من كثرة نظمه.
    ويقول طه حسين إن الأمر فى نثر أبي العلاء كالأمر فى شعره، بل هو أشد غرابة، وأدعى للعجب، فلا يوجد من نثره إلا رسالة الغفران، ورسالة الملائكة، وطائفة من صغار الرسائل. ويحدثنا التاريخ بأن ديوان رسائل أبي العلاء الخاصة كان ثمانمائة كراسة، فأين ذهب سائرها؟ على أن لأبي العلاء كتبا أدبية ذهبت جملة، ولم يعرف التاريخ إلا أسماءها، ككتاب (الصاهل والشاحج)، وكتاب (تاج الحرة)، وكتاب (الفصول والغايات)، وغيرها من الكتب، التى كانت تعيننا على فهم القيمة الكتابية، لأبي العلاء، لو سمح بها الزمان!!..
    تلك كانت نبذة موجزة عن أبي العلاء المعري، أوردناها ليعلم القاريء الكريم أي رجل شغف بفكره وشعره نجيب سرور، ولو أن الموضوعية تفرض علينا تهيئة القاريء الكريم لمعالجة جديدة وشيقة لكتابات أبي العلاء، يقدمها نجيب سرور فى كتابه هذا. فهو وان اعترف بفضل السبق للأساتذة الأفاضل الذين عنوا بدراسة أبي العلاء وفى مقدمتهم عميدي الأدب العربي طه حسين وعباس محمود العقاد، إلا أنه يصر على تقديم معالجة جديدة، يكشف بها ما أسماه "الطبيعة الشفرية لكتابات أبي العلاء النثرية والشعرية"، وهى معالجة مغايرة ـ بحق ـ لما اعتاد أن يقدمه دارسو أبي العلاء، قديما وحديثا، من معالجات تقليدية! ولعل هذا هو السبب الذى لأجله تمنى نجيب سرور أن يقرأ له الكبار على حد تعبيره، ما كتبه عن أبي العلاء، تلك الأمنية التي عبر عنها نجيب سرور في إحدى مقالاته بقوله: " إن الكبار لا يقرأون ـ عادة ـ للصغار!..وكم أتمنى أن يقرأ طه حسين والعقاد، كما أتمنى أن تقرأ بنت الشاطيء ولويس عوض ما كتبته حتى الآن عن أبي العلاء وعن ابن القارح! كما أتمنى لو أنهم لو أنهم أخذوا العبرة مما أورده أبو العلاء على لسان ابن القارح، حين قال له رؤبة بن العجاج متفاخرا: أليس رئيسُكم...كان يستشهدُ بقولي ويجعلُني له كالإمام؟.. فيرد ابن القارح قائلا: لا فخر لك أن استُشهد بكلامك. فقد وجدناهم يستشهدون بكلام أمة وكعاء (حمقاء)...وكم روى النحاةُ عن طفل، ما لهُ فى الأدب من كفل! فلأكن مثل تلك الأمة الوكعاء أو مثل ذلك الطفل الذي ليس له في الأدب!".
    حسبك يانجيب! فأنت أجل وأسمى من أن تكون كأمة حمقاء أو كطفل ليس له فى الأدب! وأنا على ثقة كبيرة أن القاريء الكريم سيشاركني الرأي عندما يقرأ هذا الكتاب الشيق وسيعلم إلى أي مدى أدرك نجيب سرور أهمية كتابات أبي العلاء النثرية والشعرية، بوصفها تجسيدا لثورة عقلية فذة، لطالما سعى نجيب سرور للفت الأنظار إليها ودعى لمحاكاتها، باعتبارها الوسيلة الوحيدة للتطور وتجاوز المحن الحياتية فى عالمنا العربي المغبون. ثورة عقلية تدعو ليس لنقد التراث العربي فحسب، ولكن لنقد التراث الإنساني كله! وهو ما يمكن أن يسهم في إقالة أمتنا من عثرتها. ولندع نجيب سرور يحدثنا عن ذلك صراحة بقوله: "إذن فصعوبة قراءة وفهم أبي العلاء صعوبة متعمدة واضطرارية وتكتيكية أملتها دوافع التخفي والتنكر والتغطية، الأمر الذي يجب أن يدفع القاريء (أظنه يعني القاريء العربي) إلى الاصرار على الصبر عليه والتصميم على فهمه لا الانصراف عنه ولا الزهد فيه ايثارا للراحة وجريا وراء السهولة، خاصة وأن فهم أبي العلاء بالذات والآن بالذات هو ـ كما اتضح وسيتضح أكثر ـ مسألة حياة أو موت بالنسبة للقراء العرب فى ظل المتغيرات الجديدة فى وطننا العربي الذبيح".
    قارئي الكريم، أراني ملزما الآن بتوضيح نهجى فى إعداد مخطوطة الكتاب الماثل للنشر، وكنت قد ذكرت سلفا أن السيدة الفاضلة ساشا كورساكوفا قد أعطتني فى لقائي الأول بها في مقهى ريش حزمة من الأوراق، أخبرتني بأنها عمل مهم لنجيب سرور عن صاحبه ورفيق دربه أبي العلاء! وهو ما حدث بالفعل، حيث اصطحبت الأوراق معى إلى المنزل ورحت أتصفحها. فوجدت أنها عبارة عن جزئين. يضم الجزء الأول سبع مقالات، تناقش فى مجملها الفكر والشعر عند أبي العلاء. أما الجزء الثاني، فهو عبارة عن دراسة طويلة تضم سبع حلقات، بعنوان "دليل القاريء الذكي إلى عالم أبي العلاء"، تعالج بالتفصيل ما أسماه نجيب سرور بالطبيعة الشفرية لكتابات أبي العلاء. ولم تكن هناك عناوين لتلك الحلقات.
    وبدا واضحا أنه سبق نشر بعض تلك المقالات والحلقات فى مجلات عربية مختلفة، وهو ما أكدته السيدة ساشا كورساكوفا، فقد أخبرتني بأن نجيب بدأ فى ارسال بعض المقالات والحلقات إلى مجلات عربية مختلفة بعد عودته مع أسرته الصغيرة من الإسكندرية عام 1975، حيث أقامت الأسرة هناك لمدة ثلاث سنوات تقريبا، رغبة منه في الحصول على عائد مالي يساعده على إعالة أسرته الصغيرة. وبدا واضحا كذلك أن نجيب سرور اعتمد فى مخطوطته على تحليل الكتابات الشعرية والنثرية لأبي العلاء. وتضم الكتابات الشعرية لأبي العلاء:
    ـ سقط الزند: وهو ديوان يشتمل على أشعار نُظمت في أيام الصبا.
    ـ الدرعيات: وهو ديوان، صغير، يشتمل علىأشعار وُصفت فيها الدرع خاصة، ونُص فى ثبت الكتب على أنه كتاب مستقل، أُلحق بسقط الزند.
    ـ اللزوميات: وهي أكبر الدواوين الثلاثة، وأجلها خطرا، مثلت حياة عقل أبي العلاء، ووجدانه وخلقه أحسن تمثيل.
    أما الكتابات النثرية لأبي العلاء التي اعتمد عليها نجيب سرور في هذا الكتاب، فهي رسالة الغفران، ورسالة الملائكة، وطائفة من صغار الرسائل.
    وجاء التعامل مع مخطوطة هذا الكتاب على مستويين: الأول، تقسيم الكتاب لجزئين، يضم الجزء الأول مجموعة مقالات تُعنى بالفكر والشعر عند أبي العلاء. ولحسن الحظ ترك لنا نجيب سرور عناوينا بعينها لتلك المقالات، أبقينا عليها بالطبع، غير أن نجيب لم يختار عنوان للجزء الأول فى مجمله، ومن ثم اخترنا أحد عناوين المقالات المذكورة، كعنوان لهذا الجزء، وهو "الفكر والشعر في منظور أبي العلاء"، باعتباره الأكثر تعبيرا عن مضمون الجزء الأول في مجمله.
    أما الجزء الثاني، فهو دراسة طويلة من سبع حلقات، بعنوان "دليل القاريء الذكي إلى عالم أبي العلاء". وللأسف لم يضع سرور عناوينا لتلك الحلقات، فكان علينا اعتبار كل حلقة فصل مستقل، وكان علينا أيضا اختيار عنوان لكل فصل من واقع مضمون الفصل نفسه، حتى تظل الروح السرورية مهيمنة على النص.
    وعلى المستوى الثاني، حرص كاتب هذه السطور على مراجعة النص كلمة كلمة، وحرف حرف، وكذا مراجعة المصادر العلائية للتأكد من دقة الاقتباسات السرورية، فلنا أن نعرف أن نجيب سرور وضع هذا الكتاب القيم والشيق، وهو فى وضع لا يُحسد عليه وفى ظل ضغوط نفسية رهيبة، نحمد الله أنها لم تؤثر تأثيرا ملحوظا على رصانة هذا العمل القيم. فقد كان نجيب حين يكتب يتمتع بصفاء ذهنى يحسده عليه الكثيرون، ممن يعجزون عن الإبداع وهم في وضع أفضل منه، وهو الإنسان الذي لطالما عانى الجوع والتشرد والظلم!..
    وليس لنا أن ننسى أن مخطوطة هذا الكتاب، فى جزء كبير منها، كانت صورة ضوئية باهتة للنسخة الأصلية التى لا أدري مصيرها ولا فى أي يد وقعت.
    ولقد ألحقت بهذا الكتاب ثبتا بأعمال ومؤلفات نجيب سرور، استندت فى اعداده للثبت الذي أورده الأستاذ محمد دكروب فى ختام دراسة نجيب سرور القيمة "رحلة...فى ثلاثية نجيب محفوظ"، الصادرة عن "دار الفكر الجديد"، ضمن سلسلة "الكتاب الجديد"، بيروت 1989، بيد أنني حذفت وأضفت الكثير من المعلومات التى لم تدركها الطبعة المذكورة، ولم يُحط بها الأستاذ محمد دكروب.
    على أية حال، يظل هذا الكتاب القيم الجميل نثر ثقافي رائع، ودراسة جديدة من نوعها في النقد الأدبي والفكري العربي، نتمنى أن تتبوأ هى وصاحبها المكانة اللائقة بها فى الذاكرة العربية، وكذا المكتبة العربية. على أمل أن يتسنى لكاتب هذه السطور في المستقبل القريب وضع دراسة، يخصصها لتحليل النزعة الإنسانية (الأنسنية) عند نجيب سرور، فى اطار سعيه الدءوب لإرساء دعائم تيار ثقافى أنسني فى هذه المنطقة المضطربة والمليئة بالصراعات والهموم. ولكل من ساعد على إخراج هذا العمل القيم للنور عظيم الشكر وجزيل الثناء، خاصة السيدة الفاضلة ساشا كورساكوفا أرملة الراحل النبيل نجيب سرور، فقد احتفظت بتلك المخطوطة طوال تلك السنوات الطويلة، وأصرت على أن تُنشر مكتملة تنفيذا لوصية زوجها الراحل، فلطالما كرر نجيب سرور على مسامعها إعجابه الفائق بثلاث شخصيات بعينها، رآها تجسيدا حلوا لعالمه المنشود، أولها المسيح عليه السلام، وثانيها دون كيخوته الشهير بطل رواية ثربانتس الشهيرة التي تحمل الاسم نفسه، وثالثها أبي العلاء المعري شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء.
    د.حازم خيري
    سراي القبة في 11/11/2007
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    للنشر
    الإدارة
    للنشر


    المشاركات : 3446
    . : ملتقى نور المصباح الثقافي

    كتاب تحت عباءة أبي العلاء / نجيب سرور Empty
    مُساهمةموضوع: رد: كتاب تحت عباءة أبي العلاء / نجيب سرور   كتاب تحت عباءة أبي العلاء / نجيب سرور Icon_minitime07.04.12 0:54

    تابع الكتاب


    الجزء الأول
    الفكر والشعر فى منظور أبي العلاء
    (مجموعة مقالات)


    المقالة الأولى
    أبو العلاء المعري بين الترغيب والترهيب

    محنة هى ومتعة أن ترفض العالم الذي لا يعجبك من أجل عالم تتمناه، ومحنة هى ومتعة أن تتحدى كل قوى الشر والقهر والاستبداد. ومحنة ثالثة أن تعاند قوى اليأس والتثبيط والاحباط فى كل ما حولك. ومحنة أن تقف من العالم المحيط بك موقف النقد، رغم أمراض البدن والروح. ومحنة أن ترى نفسك عملاقا وسط أقزام، ونابهة وسط أغبياء ونابغة بين أوساط الناس وجهلائهم. إنها محنة ومتعة لا يحسها إلا العمالقة من بني الانسان والعباقرة منهم على التخصيص حين يفسد الملح، كل الملح، تُطبق الظلمات وتتضافر قوى الشر على قهر الفرد والجماعات. وقلة من بني الانسان هي دائما الطلائع، وهي دائما التى تقف في وجه كل قوى الحصار، وخاصة حين لا يبدو هناك بصيص من نور، وحين يتردد الانسان بين قوى الترغيب وقوى الترهيب.
    هذه فى العادة وقفة لا يقفها إلا أولئك الذين يُولدون أو يعيشون أو يموتون على الحافة، حافة الانتقال من عصر إلى عصر، الانتقال من مجتمع الى مجتمع، ميلاد علاقات وموت علاقات أخرى، قيام أبنية وانهيار أبنية أخرى. قد لا تكون هذه العملية ملحوظة ولا ظاهرة للعيان ولا مكشوفة بالدرجة الكافية، ولكن رصدها هو مهمة الطلائع والنوابغ فى كل العصور، وهم في هذا لا يعبرون عن وجدان خاص متفرد ولا متميز ـ وان كانوا كذلك بالفعل ـ ولكنهم يعبرون، شاءوا أو لم يِشاءوا، عن حركة التاريخ ووجدان الجماهير. وليس أمر على النفس الكبيرة، والكبرياء المتمرد، الذي يميز هؤلاء عادة على كل العصور، من أن تجد نفسها في دوامة الاغراء والارهاب والمساومة والتسليم والاستسلام والتحدى والعناد والاصرار..إلى آخر ما تثيره المعركة عادة من آلام النفس والروح.
    وليس ثمة نموذج لكل ما قلناه أروع من الحوار الذي دار يوما ما بين المعتزل المنتمي فى نفس الوقت: الزعيم الامام أبي العلاء العري، وبين "داعي الدعاة". لقد بدأ داعي الدعاة مراسلة أبي العلاء من منطق مختلف تماما، وموقع مختلف تماما عن منطق وموقع رهين المحبسين بل رهين الثلاثة محابس. واضطر أبو العلاء إلى الرد، والرد والرسائل وثيقة ضميرية هامة وشيقة ونموذجية، تعتبر درسا فى الصمود وفي أخلاق الرجال وفي كبرياء النوابغ.
    قال ياقوت (الحموي) في معجمه (معجم الأدباء): "إن أبا نصر بن أبي عمران داعي الدعاة بمصر لما قرأ قول أبي العلاء:
    غدوت مريض العقل والقلب فالقني
    لتُخبر أنباء العقول الصحائـــح
    كتب إلى المعري يقول له: أنا ذلك المريض رأيا وعقلا، وقد أتيتك مستشفيا فاشفني. ودارت بينهما مراسلات فى ذلك..
    ولما وقفت على ذلك (والكلام هنا لياقوت) اشتهيتُ أن أقف على صورة ما دار بينهما على وجهه، حتى ظفرتُ بمجلد وفيه عدة رسائل من أبي نصر هبة الله بن موسى بن أبي عمران إلى المعري فى هذا المعنى، وانقطع الخطابُ بينهما على المساكتة. ونقلُها على الوجه يطولُ، فلخصتُ منها الغرض دون تفاصح المعري وتشدقه"!

    بدلا من السخرية

    اما أن "المساكتة" تمت بعد تمام التراسل بين أبي العلاء وداعي الدعاة، بمعنى أن يكون داعي الدعاة قد اقتنع بردود أبي العلاء كما هو متوقع وبمعنى أن يكون قد فهم ما يقصده أبو العلاء بالبيت المذكور فى اللزوميات، واما أن تكون المساكتة كما يغلب الظن عندنا راجعة إلى عجز داعي الدعاة عن استنطاق أبي العلاء واستبطان داخلته ومعرفة سره، واما أن تكون المساكتة من جانب ياقوت نفسه، خاصة وأنه يشير إلى مجلد من الرسائل بين أبي العلاء وبين داعي الدعاة ويشير إلى أنه اختصره اختصارا يبدو فيه العمد وسبق الاصرار أكثر مما تبدو فيه العفوية. كما لا ننسى دلالة هجوم ياقوت على أبي العلاء بالذات لا على داعي الدعاة وذلك حين اتهم أبا العلاء بالتفاصح والتشدق، مما يدل على الرغبة فى الترضية وذلك بغير موجب يستدعي الهجوم مما تقرؤه فى ردود رهين المحبسين على داعي الدعاة، بل الأوجب والأقرب إلى المنطق أن يقف ياقوت إلى جانب أبي العلاء بدلا من السخرية الصريحة منه.
    هذا موقف تمليه الاعتبارات الانسانية قبل كل شيء مهما كانت ردود رهين المحبسين. ومهما يكن الأمر فلنترك داعي الدعاة يتكلم بنفسه ولنطرح المسألة برمتها أمام محكمة القراء وهي لابد عادلة ولابد أن تقف إلى جانب أبي العلاء البريء تماما من التفاصح والتشدق، والبريء تماما من كل التهم الأخرى التى طالما وُجهت إليه على مدى ألف عام. إن داعي الدعاة يبدأ رسالته بالنفاق الظاهر والثعبانية ليُزهد أبا العلاء فى الأدب ويُحبب إليه الدنيا ويعرض عليه نوعا من الترغيب: "الشيخ ـ أحسن الله توفيقه ـ الناطقُ بلسان الفضل والأدب، الذى ترك من عداهُ صامتا، مشهود له بهذه الفضيلة من كل من هو فوق البسيطة. غير أن الأدب الذى هو جالينوسُ طبه، وعنده مفاتيح غيبه، ليس مما يفيده كبير فائدة فى معاشه أو معاده سوى الذكر السائر به الركبان، مما هو إذا تسامح المذكور به علم أنه له بمكانه الجمال والزينة ما دام حيا، فاذا رمت به يدُ المنون من ظهر الأرض إلى بطنها فلا بحُسن ذكره ينتفع، ولا بقبحه يستضر".

    استدراج

    ثم يستطرد داعي الدعاة فى زعزعة ايمان أبي العلاء بجدوى اعتزاله وزهده وعذاباته بطريقة عدمية صارخة، فيقول: "وإذا كانت الصورة هذه كان مستحيلا منه ـ أيده الله ـ مع وفور عقله، أن جعل مواده كلها منصبة إلى أحكام اللغة العربية والتقعر فيها، واستيفاء أقسام ألفاظها ومعانيها، ووفر عمره على ما لا نتيجة له منها، وترك نفسه المتوقدة نارُ ذكائها خلوا من النظر فى شأن معاده...".
    ثم يستطرد داعي الدعاة فى الاستدراج البوليسي لرهين المحبسين، فيقول: "فاذا هو ـ حرسه الله ـ بمقتضى هذا الحكم مرتو من عذب مشرب هذا العلم، وإنما ليس يبوح به لضرب من ضروب السياسة. والدليل على كونه ناظرا لمعاده سلوكُهُ سبيل العيش والتزهد...".
    ويخلص داعي الدعاة بطريقة ماهرة خبيثة بعد هذا التكتيك إلى ما يريد فيستطرد قائلا: "...ولما رأيتُ ذلك وسمعتُ داعية البيت الذي يُعزى إليه، وهو:
    غدوت مريض الدين والعقل فالقني
    لتعلم أنباء الأمور الصحائـــح
    فشددتُ إليه راحلة العليل فى دينه وعقله إلى الصحيح الذي ينبئني أنباء الأمور الصحائح. وأنا أولُ ملب لدعوته، معترف بخبرته، وهو حقيقُ أن لا يوطئني العشوة، فيسلك بي فى المجاهل، ولا يعتمد فيما يورده تلبيس الحق بالباطل. وأول سؤالي عن أمر خفيف، فإن استنشقتُ نسيم الشفاء، سقتُ السؤال إلى المهم..."
    إنه التمهيد إلى انزلاق أبي العلاء إلى الفخ...

    أبو العلاء يدرك

    ولنستمع إلى الصوت الآخر، صوت أبي العلاء، المدرك جيدا للفخ المنصوب له وللطريق إليه، والمصر على ألا ينزلق واضعا في حسابه قرب داعي الدعاة من السلطة: "قال العبد الضعيف العاجز....
    إني أعد سيدنا الرئيس الجليل المؤيد في الدين ـ أطال الله بقاءه ـ ممن ورث حكمة الأنبياء، وأعد نفسي الخاطئة من الأغبياء...
    وهو بكتابه إلى متواضع، ومن أنا حتى يكتب مثلُهُ إلى مثلي؟! مثله فى ذلك مثل الثريا كتبت إلى الثرى. وقد علم الله أن سمعي ثقيل، وبصري عن الأبصار نقيل (غريب)...
    إن الله جلت عظمتُهُ حكم على بالإزهاد، فطفقت من العُدم فى جهاد، وأما قول الضعيف العاجز:
    غدوت مريض العقل والدين فالقني
    فإنما أخاطب به من هو في غمرة الجهل، لا من هو للرياسة علم وأصًل.......
    فلما بلغ العبد الضعيف العاجز اختلافُ الأقوال، وبلغ ثلاثين عاما، سأل ربه إنعاما، ورزقه صوم الدهر، فلم يفطر فى السنة ولا الشهر، إلا فى العيدين، وصبر على توالى الجديدين...".
    على أنه لابد من ملاحظة أن أبا العلاء اُستدرج فعلا، وإلى درجة ما، إلى الفخ المنصوب واندفع بطبيعته العنيدة يدافع عن النباتيين ويثير قضايا كان يمكن أن تُطيح برأسه فى عصر المذاهب والطرائق والشيع، ولكن الأهم من ذلك أن أبا العلاء يختم رسالته بقوله: " ومما حثني على ترك أكل الحيوان أن الذي لي في السنة نيف وعشرون دينارا، فإذا أخذ خادمي بعض ما يجب، بقى لى ما لا يُعجبُ، فاقتصرت على فول وبُلسُن (العدس) وما لا يعذب على الألسن..
    فأما الآن فإذا صار إلى من يخدمني كبير عندي وعنده هين، فما حظي إلا اليسير المتعين. ولست أريدُ في رزقي زيادة، ولا أوثر لسقمي عيادة، والسلام..".

    المصارحة المباشرة

    ولكن داعي الدعاة أخطأ فهم رهين المحبسين، فبعد فشل التكتيك الخبيث الثعباني الماكر خلص من الحوار الضمني إلى المصارحة المباشرة ليعرض غرضه الأصلي على رهين المحبسين، فيقول فى إحدى رسائله إلى أبي العلاء: "...وقد كاتبتُ مولاى تاج الأمراء (يقصد الأمير ثمال بن صالح المرداسي وهو يُلقب أيضا معز الدولة) ـ حرس الله عزه ـ أن يتقدم بازاحة العلة، فيما هو بلغةُ مثله من ألذ الطعام، ومراعاته على الإدرار والدوام، ليتكشف عنه غاشية هذه الضرورة، ويجرى أمرُهُ في معيشته على أحسن ما يكون من الصورة...".
    ولكن أبا العلاء رفض. وهكذا يكون موقف العبقرية، موقف الكبرياء والتحدي والصبري والاصرار ومواجهة كل الصعوبات وكل قوى القهر والترغيب فى سبيل الانتماء فى الاعتزال أو الاعتزال فى الانتماء، وذلك على الحافة بين عصر وعصر. إنه رجل لكل العصور.
    *******

    يتبع
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    للنشر
    الإدارة
    للنشر


    المشاركات : 3446
    . : ملتقى نور المصباح الثقافي

    كتاب تحت عباءة أبي العلاء / نجيب سرور Empty
    مُساهمةموضوع: رد: كتاب تحت عباءة أبي العلاء / نجيب سرور   كتاب تحت عباءة أبي العلاء / نجيب سرور Icon_minitime07.04.12 0:57

    تابع الكتاب


    المقالة الثانية
    منهج الشك بين أبي العلاء وديكارت وطه حسين

    "لا تولوا أموركم أيدي الناس
    إذا ردت الأمور إليكــــم"
    "تنام أعين قوم عن ذخائرهم
    والطالبون أذاهم ما ينامـونا"
    أبو العلاء

    يسود الاعتقاد بين المثقفين العرب بأن طه حسين استقى منهج الشك الذى نظر به إلى "الشعر الجاهلي" من الفيلسوف الفرنسي ديكارت! ولعل طه حسين قد استمرأ هذه النغمة فراح يُرددها ويُكررها، ربما طلبا للسلامة ونوعا من الحذر والحيطة وحتى لا يُعرض نفسه لأخطار متوقعة!..
    فهل صحيح هذا الاعتقاد؟!
    الواقع أنه غير صحيح على الاطلاق. فطه حسين ذو طبيعة "فنية" كما أشرت إلى ذلك فى غير هذه المناسبة، وهو لايملك الطبيعة "العقلانية" ولا العقلية الفلسفية التى تمكنه من أن يطبق منهج الشك عند ديكارت على الشعر الجاهلى بالذات ويستنتج من التطبيق النتائج المنطقية اللازمة التى أثارت عليه الرأي العام العربي فى حينها.
    ثم إن ديكارت بعيد تماما عن الموضوع والقفزة منه إلى الشعر الجاهلي قفزة مستحيلة. وما لم تكن الأفكار الأساسية التى قام عليها كتاب طه حسين "فى الشعر الجاهلي" جاهزة بين يديه وناضجة وواضحة وصريحة لما كان له أن يراها فى ضوء منهج الشك عند ديكارت فأين رآها طه حسين؟!
    رآها جاهزة وناضجة وصريحة عند أبي العلاء المعري وفى رسالة الغفران على التحديد، وان كانت بذورها وأصداؤها مبعثرة فى مقدمتي سقط الزند ولزوم ما لا يلزم ومترددة بين الصراحة والضمنية كما فى الديوانين المذكورين. فلماذا لا نرد الأشياء الى أصولها الحقيقية.. ولماذا نتمسح بديكارت ونغمط سبق وحق أبي العلاء؟! ربما كما قلت ايثارا للسلامة، فمن الخطر على كل حال الاشارة الى أبي العلاء أو الاقتراب منه أو تبني أفكاره. وطه حسين بالذات كان رجلا يجيد الاحتياط لنفسه ويقدر الظروف المحيطة به.

    المنحول والصحيح

    فى السطور الأولى من رسالة الغفران يرد ذكر أبي زيد الأنصاري البصري الذى روى عن خلف الأحمر الذى أتى الى الكوفة ليكتب عنهم الشعر فبخلوا عليه به فكان يعطيهم المنحول ويأخذ الصحيح..فلما مرض قال لهم: "ويلكم..اني تائب الى الله. هذا الشعر لي". فلم يقبلوا منه فظل منسوبا الى العرب لهذا السبب!.. واذا كان هذا عن الشعر فيما بعد الاسلام فهو أصدق على الشعر الجاهلي. وعندما يصبح الشعر محلا للشك بين الصحيح والمنحول ـ الاسلامي والجاهلي بالتالي ـ فان هذا يُعرض التراث كله للشك. لأن الشعر الجاهلي هو المصدر أو المرجع اللغوي الأساسي. مما يشكك أيضا فى كل ما رواه الرواة من شعر أو من خبر! وما دام المنحول تسرب الى الشعر الجاهلي فمعنى هذا أنه تسرب الى كل التراث فيما بعد الجاهلية؟..فماذا نصدق وماذا نكذب؟ انه مأزق بديع الزمان الهمذاني القائل:
    اياك واحذر أن تكون
    من الثقات على ثقة !
    على أن أبا العلاء يلح على المنحولات فى التراث العربي الجاهلي والاسلامي والقديم والحديث الحاحا غريبا على طول رسالة الغفران، ولكن بذكاء نادر لأنه يعلم خطورة ما يقول.
    يفعل الرجل ذلك من خلال لقاءات ابن القارح المتخيلة والمدبرة لمختلف النحاة واللغويين والرواة والشارحين والحفظة وشعراء الجاهلية والاسلام، ومن خلال سؤال ابن القارح عما ينسبه اليهم الرواه والمؤولون والمصحفون والناحلون، ومن خلال ما يورده ويحيل اليه من أسماء الشعراء أو من خلال استشهاداته بأبيات وقطع لهم.
    ففي لقاء مع النابغة الذبياني يقول ابن القارح: "لله درك يا كوكب بني مرة! ولقد صحف عليك أهل العلم من الرواة. وكيف لى بأبوي عمرو المازني والشيباني وأبي عبيدة وعبد الملك وغيرهم من النقلة لأسألهم كيف يروون وأنت شاهد لتعلم أني غير المتخرص ولا الولاغ..".
    ثم يسأل ابن القارح النابغة عن قوله:
    ألمـا على الممطورة المتأبدة
    أقامت بها فى المربع المتجردة
    فيقول النابغة فينكر نسبتها إليه: "ما أذكر أني سلكت هذا القرى قط!!". فيقول ابن القارح: "ان هذا لعجب! فمن الذى تطوع فنسبها اليك؟". فيقول: "انها لم تُنسب الى على سبيل التطوع، ولكن على معنى الغلط والتوهم، ولعلها لرجل من بني ثعلبة بن سعد". فيقول نابغة بني جعدة ـ وكان حاضرا المجلس ـ: "صحبني شاب فى الجاهلية ونحن نريد الحيرة، فأنشدني هذه القصيدة المنسوبة الى النابغة الذبياني لنفسه، وذكر أنه ابن ثعلبة، وصادف قدومه شكاة من النعمان، فلم يصل بها اليه". فيقول نابغة بنى ذبيان: "ما أجدر ذلك أن يكون!".
    هنا يسجل أبو العلاء الشك، لا فى أخطاء لغوية أو نحوية أو لحنية مما تخطينا الكثير منه عمدا لضيق النطاق وكثرة الاستشهادات، وانما فى قصيدة كاملة من الشعر الجاهلي تُنسب ظلما الى النابغة الذبياني!
    ثم يشير أبو العلاء الى النسيان الذي كان سببا فى ضياع الكثير من التراث العربي الجاهلى والاسلامي، مما أتاح الفرصة كاملة لتسلل المدسوس والمنحول والمغلوط والمصحف. وذلك فى لقاء ابن القارح بعوران قيس: تميم بن مقبل العجلاني، وعمرو بن أحمر الباهلي، والشماخ معقل بن ضرار، وراعي الابل عبيد بن الحصين النميري، وحميد بن ثور الهلالي. وذلك حين يقول ابن القارح للشماخ بن ضرار: "لقد كان فى نفسي أشياء من قصيدتك التى على الزاي وكلمتك التى على الجيم فأنشدنيهما لا زلت مخلدا كريما".
    فيقول الشماخ: "لقد شغلني عنهما النعيم الدائم فما أذكر منهما بيتا واحدا". فيقول ابن القارح لفرط حبه بالأدب: "لقد غفلت أيها المؤمن واضعت! أما علمت أن كلمتيك أنفع لك من ابنتيك..وان القصيدة من قصائد النابغة لأنفع له من ابنته عقرب؟!"
    انظروا الى أي حد يقدس أبو العلاء هنا التراث ويحرص على سلامته ويأسف لضياعه؟
    ثم ينشده قصيدته التى على الزاي، فيجده بها غير عليم! ثم يسأل عن عمرو بن الأحمر، فيحضر فورا فيسأله عن أشياء فى قصيدته الرائية فيجده غير مبال. ويقول عمرو: "لم تترك فى أهوال القيامة غبرا للانشاد. وقد شهدت الموقف، فالعجب لك اذا بقي معك شيء من روايتك". والقيامة والموقف اشارتان رمزيتان لما عاناه الشعراء فى حياتهم من العذابات والأهوال.
    فيقول تميم: "والله ما دخلت من باب الفردوس ومعى كلمة من الشعر ولا الرجز. وذلك أني حوسبت حسابا شديدا..وإن حفظك لمبقي عليك، كأنك لم تشهد أهوال الحساب".
    ثم يشكك أبو العلاء فى الشعر العربي كله عندما يحكي ابن القارح قصته يوم الموقف ـ القيامة ـ ومحاولاته رشوة رضوان خازن الجنة وزُفر خازن النار بأشعار موزونة على طراز قصائد جاهلية شهيرة فلا تحرك أشعاره منهما ساكنا. ويسأله رضوان:
    ـ وما الأشعار؟
    ـ الأشعار جمع شعر، والشعر كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط، اذا زاد أو نقص أبانه الحس، وكان أهل العاجلة يتقربون به الى الملوك والرؤساء.
    ويقول زُفر: "لا أشعر بالذى قصدت..وأحسب هذا الذي تجيئني به قرآن ابليس المارد ولا ينفق على الملائكة، إنما هو للجان وعلموه ولد آدم ...فمن أين أنت؟ فيقول: "من أمة محمد بن عبد المطلب". فيقول زُفر: "صدقت، ذلك نبي العرب، ومن تلك الجهة أتيتني بالقريض، لأن ابليس اللعين نفثه فى اقليم العرب فتعلمه نساء ورجال".
    ان نسبة الشعر العربي الى ابليس تشكيك ما بعده تشكيك فى التراث الشعري كله. وكذلك نسبته الى الجان، خاصة اذا وضعنا فى اعتبارنا الأشعار التى نسبها أبو العلاء الى الجن فى رسالة الغفران والتى هي من وضعه بغير شك، ثم إن العرب ـ كما يقول ـ كانوا يقولون الشعر على الغريزة والفطرة والعفوية، ولكن هناك أناسا أو قوما تعلموه رجالا ونساءا ولم يكن يتعلمه العرب؟! من هنا فُتح الباب على مصراعية أمام الشعر المصنوع المنحول المدسوس الذى يرفضه الحس العربي الأصيل..وأبو العلاء من القلة النادرة التى كانت تتمتع بهذا الحس. وماذا حين يُرد الشعر كله الى ابليس وأعوانه؟ ومن هو ابليس وأعوانه فى معجم أبي العلاء هذا ما نعد بالقول فيه قريبا.

    الصافي والمخلوط

    أين الخالص الصافي من تراثنا وأين المخلوط؟!
    وهكذا يُشهر أبو العلاء منهج الشك كالسيف القاطع على طول رحلة ابن القارح فى رسالة الغفران وشعاره كما ورد فى اللزوميات:
    وكيف أرجي من زمانـي زيادة
    وقد حذف الأصلي حذف الزوائد
    وقوله:
    فان تعهدينـي لا أزال مسائلا
    فانى لم اعط الصحيح فاستغني
    ثم قوله:
    تلوا باطلا وجلوا صارما
    وقالـوا صدقنا فقلنا نعم!
    وكثير غير هذا..
    ولكثرة الاستشهادات العلائية لا أملك إلا أن أحيل القاريء الى حديث ابن القارح مع حمزة بن عبد المطلب، لأنه كما يقول أبو العلاء: "شاعر، واخوته شعراء، وكذلك أبوه وجده، ولعله ليس بينه وبين معد بن عدنان، إلا من قد نظم شيئا من موزون". فأين شعر حمزة بن عبد المطلب وشعر أبائه وأجداده؟ ثم ما دلالة تأصل الشعر فيه أبا عن جد؟ وما هي النتائج المترتبة على هذا ان صح وهو لا شك صحيح؟!
    ثم أُحيل القاريء الى مقابلة ابن القارح للنحوي أبي على الفارسي وقوم من الشعراء يحيطون به ويقولون: "تأولت علينا وظلمتنا!"، أي افتريت علينا ورويت عنا كذا زورا وبهتانا. ثم اذا جماعة من هذا الجنس، كلهم يلومونه على تأويله".
    ثم هناك المقابلة مع حميد بن ثور. ثم الأبيات المنسوبة حتى الى الخليل بن أحمد، والتى يتبرأ منها الخليل:
    ان الخليـط تصــدع
    فطر بدائك أو قع...الخ
    ثم سؤاله لامريء القيس عن التسميط (القيام بضم شطر من عنده الى شطر من قصيدة كتبها غيره) المنسوب اليه ببعض الأبيات فيقول امرؤ القيس: "والله ما سمعت هذا قط، وانه لفرى لم أسلكه، وإن الكذب لكثير. وأحسب هذا لبعض شعراء الاسلام، ولقد ظلمني وأساء إلى...يُقال لي مثل ذلك؟ والرجز من أضعف الشعر، وهذا الوزن من أضعف الرجز". فيُعجب ابن القارح من امريء القيس! ثم لقاؤه مع عمرو بن كلثوم، ومع أوس بن حجر. ثم يروي فى نفس الوقت للنابغة، ثم لقاؤه بالمهلهل وتأبط شرا وما يُروى عنه من نكاح الغيلان. فيقول تأبط شرا: "لقد كنا فى الجاهلية نقول ونتخرص (نكذب)، فما جاءك عنا مما ينكره المعقول، فإنه من الأكاذيب، والزمن كله على سجية واحدة". أي:
    كذب الظن لا امام سوى العقل
    مشيرا فى صبحــه والمساء
    تُرى كم يتبقى من تراثنا، وماذا يتبقى اذا حكمنا فيه العقل والفكر أحرارا من المحاذير والمخاوف والروادع والقيود والأوهام وأوثان العقل والوجدان والضمير؟
    ثم يأتى لقاء ابن القارح بآدم وسؤاله له: "يا أبانا، صلى الله عليك، قد رُوى لنا عنك شعر منه قولك:
    نحن بنو الأرض وسكانُـها
    منها خُلقنا، وإليها نعــود
    والسعد لا يبقى لأصحابـه
    والنحس تمحوه ليالي السعود
    وهنا يتجلى منهج الشك عند أبي العلاء فى غاية قوته وسخريته، فحتى آدم لم ينج من المنسوب والمنحول والدخيل. هو أبو العلاء الذى يقول فى اللزوميات:
    جائز أن يكون آدم هذا
    قبله آدم على اثر آدم!
    ويقول أيضا:
    وما آدم فى مذهب العقل واحدا
    ولكنه عند القيـــاس أوادم!
    والمهم أن آدم هذا يقول عن الأبيات المنسوبة إليه: "إن هذا القول حق، وما نطقه الا بعض الحكماء، ولكنى لم أسمع به حتى الآن".
    فيقول ابن القارح: "فلعلك يا أبانا قلته ثم نسيت؟ فقد علمت أن النسيان مُتسرع إليك".
    فيقول آدم: " أبيتم إلا عُقوقا وأذية! إنما كنت أتكلم العربية وأنا فى الجنة، فلما هبطت الأرض، نُقل لساني الى السريانية، فلم أنطق بغيرها إلى أن هلكت، فلما ردني الله، سبحانه وتعالى، إلى الجنة، عادت على العربية، فأى حين نظمت هذا الشعر: فى العاجلة أم الآجلة؟ والذي قال ذلك، يجب أن يكون قاله وهو فى الدار الماكرة، ألا ترى قوله (منها خُلقنا وإليها نعود) فكيف أقول هذا ولساني سرياني؟ وأما الجنة قبل أن أخرج منها، فلم أكن أدري بالموت فيها، وأنه مما حُكم به على العباد..وأما بعد رجوعي إليها، فلا معنى لقولي (وإليها نعود) لأنه كذب لا محالة!".
    حجة قوية وعقلانية ومفحمة ولا نقض لها.
    ويقول ابن القارح: "إن بعض أهل السير يزعم أن هذا الشعر وجده يعرُبُ فى مُتقدم الصحف بالسريانية، فنقله إلى لسانه، وهذا لا يمتنع أن يكون. وكذلك يروون لك صلى الله عليك لما قتل قابيل هابيل..ويذكر له بيتين منسوبين إليك فى ذلك..". فيقول آدم: "أعزز على بكم معشر أُبيني! إنكم فى الضلالة متهوكون! آليت ما نطقت هذا النظيم، ولا نُطق فى عصري، وإنما نظمه بعض الفارغين، فلا حول ولا قوة إلا بالله!..كذبتم على خالقكم وربكم، ثم على آدم أبيكم، ثم على حواء أمكم، وكذب بعضكم على بعض!".
    اذن...تُرى ما الذي خلا من الكذب والمكذوب فى الشعر الجاهلي والاسلامي وفى السير والروايات والأحاديث والأخبار؟! ألا يضع هذا حتى تراث أبي العلاء نفسه تحت مجهر الشك؟ لماذا يكون قد أفلت من الحبالة المحبوكة حول كل تراث؟! هذا سؤال نطرحه على سبيل الاحتياط وبمنهج الشك العلائي نفسه.

    الشك بينهما

    ثم ما الذي تبقى لمنهج الشك عند ديكارت وعند طه حسين؟ أليس أبو العلاء على حق حين يقول:
    أرى هذيانا طال فى كل أمة
    يضمنه ايجازها وشروحـها
    وحين يقول:
    وخطوا أحاديثا لهم فى صحـائف
    لقد ضاعت الأوراق فيها وحبرها
    وأخيرا، نقفز إلى رسالة ابن القارح نفسه فنراه يُلمح كثيرا لأبي العلاء بالمدسوس والمنحول والمصحف، الأمر الذي يستفيض أبو العلاء بعد ذلك فى تفصيله. يقول ابن القارح: "وسمعت قائلا يقول لغلام: يا رخمة، اقلعه وأسرع"، يعني ميزاب الكعبة. فعلمت أن أصحاب الحديث "صحفوه"، فقالوا: يقلعه غلام اسمه رخمة؛ كما صحفوا على على رضي الله عنه قوله: تهلك البصرة بالريح. فهلكت "بالزنج"!..ثم يُقدم لأبي العلاء ثبتا بكتب ومراجع مسروقة أو ضائعة أو مخبوءة يعالجها أبو العلاء أولا بأول فى رده على ابن القارح.
    كما يحكي الأخير فى مطلع رسالته الحكاية التالية: "لقيت أبا الفرج الزهرجي بآمد ومعه خزانة كتبه، فعرضها على، فقلت: كتبك هذه يهودية، قد برئت من الشريعة الحنيفية، فأظهر من ذلك إعظاما وانكارا، فقلت له: "أنت على المجرب، ومثلي لا يهرف بما لا يعرف". فقرأ هو وولده، وقال: "صغر الخبر الخبر" وكتب إلى رسالة يقرظني فيها..".
    وهنا نذكر قول أبي العلاء:
    كل الذي تحكون عن مولاكم
    كذب أتاكم عن يهود يحـبر
    فاذا كان هذا مصير المقدسات، فما بالكم بغير المقدسات من الشعر الجاهلي والاسلامي؟!
    ومن أين استقى طه حسين المنهج والشواهد والأدلة والبراهين والنتائج؟!
    إن معاصري طه حسين الذين حملوا عليه حملتهم الشعواء كانوا يعلمون جيدا خطورة منهج الشك العلائي، لذلك مازالوا مصرين على أن يُحكموا حوله الحصار ميتا كما أحكم حوله حيا!!
    *******

    يتبع
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    للنشر
    الإدارة
    للنشر


    المشاركات : 3446
    . : ملتقى نور المصباح الثقافي

    كتاب تحت عباءة أبي العلاء / نجيب سرور Empty
    مُساهمةموضوع: رد: كتاب تحت عباءة أبي العلاء / نجيب سرور   كتاب تحت عباءة أبي العلاء / نجيب سرور Icon_minitime07.04.12 0:59

    تابع الكتاب


    المقالة الثالثة
    منهج الديالكتيك العلائي بين المذاهب المثالية والمادية

    "الفكر حبل متى يمسك على طرف
    منه ينط بالثريا ذلك الطـــرف"
    أبو العلاء

    رأينا فيما سبق أن أبا العلاء هو صاحب منهج الشك لا ديكارت ولا طه حسين ولا أحد قبله أو بعده. ورأينا كيف أنه لم يقصد إلى التشكيك في الشعر الجاهلي وحده ولا في التراث العربي عامة وانما قصد الى التشكيك فى التراث الانساني على الاطلاق..وفي كل شيء وبغير استثناء! ولا يمكن فهم منهجه فى الشك بدون فهم طبيعة تكوينه وطبيعة تركيبه النفسي وتركيبته الفكريه..أعني "فلسفته"..لأن منهج الشك لديه ـ كما سنرى ـ نابع من "موقفه الفلسفي"..من رؤيته للفكر وللوجودين الطبيعي والاجتماعي! وذلك بطريقة طبيعية وتلقائية ومنطقية إلى أبعد الحدود!
    فما موقف أبي العلاء الفلسفي؟! ما هو مذهبه؟
    يقول الرجل فى لزومياته:
    إذا سألوا عن مذهبي فهو بين
    وهل أنا إلا مثل غيري أبله؟
    فهل صحيح أن الرجل أبله؟ أبو العلاء؟
    انه هو نفسه الذي يقول:
    عش بخيلا كأهل عصرك هذا
    وتباله فان دهرك أبلــــه
    أى أن الرجل ليس أبلها وانما يتباله، وذلك على طريقته فى التمويه والمناورة لأمر فى نفس يعقوب!
    ويقول:
    ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا
    تجاهلت حتى ظُن أني جاهــل!
    للرجل اذن مذهب..؟! فما عساه يكون؟!
    كان فلاسفة العصور الوسطى في أوروبا يقولون:
    "آمن كى تعقل"..
    فهل يقول أبو العلاء بالعكس تماما:
    "اعقل كى تؤمن"
    وكان ديكارت يقول:
    "أنا أفكر اذن فأنا موجود"
    فهل يقول أبو العلاء:
    "أنا موجود اذن فأنا أفكر"
    إنه الذي يقول:
    كذب الظن لا إمام سوى العقل
    مشيرا في صبحه والمســاء
    ويقول:
    سأتبع من يدعو إلى الخير جاهـدا
    وأرحل عنها ما إمامي سوى عقلي
    وليس في تاريخ الانسانية على الاطلاق ـ وأتحمل المسئولية عن هذا الكلام ـ داعية للعقلانية وتقديس العقل كأبي العلاء. انه ينصحك وبالحاح واصرار على أن تتبع عقلك دائما، وبألا تُعول على شيء مما قد "يخالف المعقول" على حد تعبيره فى رسالة الغفران!
    اذن قد يتبادر إلى الذهن ـ على الفور ـ أن الرجل كان من الغلاة في الكفر، كما يتبادر إلى الذهن ـ وفي نفس الوقت ـ أنه كان من غلاة الايمان!
    فاتباعه لعقله واتخاذه له اماما لا امام سواه يحتمل ضمنا أو صراحة أنه لا يمكن أن يؤمن قبل أن يعقل، بل لابد أن يعقل لكى يؤمن. وهذا بدوره يعني، ضمنا أو صراحة، أيضا، أنه لا يؤمن بعقل آخر ـ الله ـ فوق عقله أو فوق الوجود! ولكن هذا نفسه يحتمل ضمنا أو صراحة أيضا أنه لا يتخذ الايمان وسيلة للتعقل بل يتخذ التعقل وسيلة للايمان!
    مُحير فعلا أبو العلاء..ولهذا اختلف فيه معاصروه ثم اللاحقون به، فذهب أغلبهم إلى أنه مغالي في الكفر، وذهب أقلهم إلى أنه مغالي في الايمان..وأولئك وهؤلاء ساقوا الحجج المقنعة والدامغة والتى لا تقبل النقض لاثبات ما ذهبوا إليه! وهذا الخلاف الشديد حول مذهب الرجل هو الذي سجله داعي الدعاة الفاطمي أبو نصر بن أبي عمران حين قرأ له بيته الشهير:
    غدوت مريض العقل والدين فالقني
    لتُخبر أنباء الأمور الصحائـــح
    فكتب إليه فيما كتب يقول: "..ورأيت الناس فيما يتعلق بدينه مختلفين، وفي أمره متبلبلين. فكل يذهبُ فيه مذهبا، وحضرتُ مجلسا جليلا أُجرى فيه ذكره، فقال الحاضرون فيه غثا وسمينا، فحفظته فى الغيب".
    على أن حيرة داعي الدعاة ومعاصرو أبي العلاء تتجلى أكثر في قوله: "..وابتدأ يقول ـ أى أبو العلاء ـ إني طلبتُ الرشد ممن لا رُشد عنده، وإن البيت الذي قال مما تعلقتُ به وجعلته محجة إلى استقراء طريقته ومذهبه، إنما أراد الإعلام باجتهاده فى التدين، وما حيلته فى الآية المنزلة: ]من يهد الله فهو المهتد ومن يُضلل فلن تجد لهُ وليا مُرشدا[. فجمع بين المتضادين في كلمة واحدة. إنه إن كانت الآية حقا كان الاجتهاد باطلا"!
    والحق أن داعي الدعاة معذور في حيرته، فاذا كان أبو العلاء يعلم بالأمور الصحائح في العقل والدين فكيف يدعى أن لا رشد له. واذا كان لا رشد له فكيف يدعي أنه يعلم بها؟!
    واذا كان له رشد فلماذا يدعي أنه لا يعلم. واذا لم يكن له رشد فكيف يدعي أنه يعلم؟! لهذا يستطرد داعي الدعاة فيقول: "..إن لله ـ سبحانه ـ أسرارا لا يقفُ عليها إلا الأولياء، فنحن على ذلك السر ندور، وعلى باب من هو عنده نطوف. فإن قلنا إنه حرسه الله ـ يقصد أبا العلاء ـ من أصحابه بدعوى صحته فى دينه وعقله، ومرض الناس على موجب قوله، قال: لا رُشد عندي، فنظمه في هذا المعنى يناقضُ نثره، ونثره يخالف نظمه، فكيف الحيلة؟!".
    اذن أدرك داعي الدعاة التناقض الشديد في أقوال أبي العلاء الشعرية والنثرية. وهذا التناقض هو الذي فتح باب الخلاف الشديد حوله ـ على مصراعيه ـ أمام معاصريه واللاحقين به.
    وهنا نلفت النظر إلى أن أبا العلاء يؤكد لداعي الدعاة فى رسالته "اجتهاده فى التدين"! مما يعني أنه مؤمن بالله ومجتهد فيه!
    ولكن الرجل نفسه هو الذي يقول فى اللزوميات:
    اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا
    دين وآخر دين لا عقل لــه
    وهذا يعني أن العقل يلغي الدين، وأن الدين يلغي العقل! واذا صح أنه كان "مجتهدا فى التدين" ـ كما يدعي ـ فمعنى هذا أنه لم يكن يتبع عقله ولم يكن يتخذه اماما لا امام سواه، ولم يكن من دعاة العقلانية. وانه يتبع مبدأ فلاسفة العصور الوسطى ـ اللاحقين به ـ آمن كى تعقل!
    واذا صح أن الرجل لم يكن "مجتهدا فى التدين" كما يدعي، فمعنى هذا أنه كان يتبع عقله ويتخذه اماما لا امام سواه وأنه كان من دعاة العقلانية ومن أتباع مبدأ "اعقل كى تؤمن"!
    فياليت شعري ما الصحيح! على حد تعبير أبي العلاء نفسه!
    مرة ثانية أين يقف الرجل؟!
    إن الدين شيء، والايمان شيء آخر، كما يؤكد القرآن: ]قُل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم[. وهذه نقطة في صالح أبي العلاء، لأنه يمكن أن يكون غير متدين ويظل مع ذلك محتفظا بنعمة الايمان، فيكون له عذر في أن يقول:
    أفيقوا أفيقوا يا غواة فانما
    ديانتكم مكر من القدمـاء
    هذا يؤكد أنه غير متدين، فضلا عن "الاجتهاد فى التدين" الذى يدعيه..أى كافر! ولكنه يُحتمل أيضا أنه يكفر بالأديان ولكنه يؤمن بالله! ويُحتمل أخيرا أنه غير متدين وغير مؤمن.....
    فما هو الصحيح؟!
    المعروف أن ماركس قال عن منهج هيجل الديالكتيكي: "لقد كان الهرم مقلوبا فعدلته"..أى كان يقف على قمته فأعاد قلبه ليقف على قاعدته. وأنه قصد بذلك الى أن منهجه الديالكتيكي هو معكوس منهج هيجل، وهو نفس المنهج ولكنه نقيضه في وقت واحد؟ والمعروف أن منهج هيجل منهج مثالي، وهو مثالي لأنه يبدأ من نقطة انطلاق هي أسبقية "الفكر" على "الوجود". وتترتب على نقطة الانطلاق هذه نتائج لا حصر لها فى الفكر وفي الوجودين الطبيعي والاجتماعي. والمهم بالنسبة الينا هنا أن أسبقية الفكر على الوجود تعني حتمية وجود "عقل" فوق هذا الكون..هو العقل الأكبر..هو الله!
    فاذا جاء ماركس وقلب هذا المنهج..أو اذا كان الهرم بهذا الشكل واقفا على قمته وقلب ماركس الهرم المقلوب..فان معنى هذا أن منهج ماركس منهج مادي وهو مادي لأنه يبدأ من نقطة انطلاق اخرى أو مناقضة تماما لنقطة انطلاق هيجل ألا وهي أسبقية الوجود على الفكر. وعلى هذه النقطة بدورها تترتب نتائج أخرى مغايرة ومناقضة لنتائج منهج هيجل في الفكر وفي الوجودين الطبيعي والاجتماعي..والمهم بالنسبة إلينا هنا ـ أيضا ـ أن أسبقية الوجود على الفكر تعني عدم امكان وجود "عقل" فوق هذا الكون..عقل أكبر..هو الله!
    كل المذاهب الفلسفية منذ كانت هناك فلسفة وتفلسف وفلاسفة تنقسم إلى هذين المعسكرين المتضادين دائما..إلى مثالية ومادية،وذلك وفقا لنقطة الانطلاق..أسبقية الفكر على الوجود أم أسبقية الوجود على الفكر.
    وهناك مذاهب فرعية تقف موقفا توفيقيا بينهما، فتقول بوحدة الوجود ـ الفكر، أو وحدة الفكر ـ الوجود. وهذه بدورها تقف في النهاية إلى جانب أحد المعسكرين: المثالي أو المادي، مهما ادعى بعضها حياده التام بين المعسكرين وأنكر نسبته إلى أحدهما.
    والآن..أين يقف أبو العلاء؟! ومن أين ينطلق؟ أمن الموقف المثالي أم المادي أم التوفيقي؟! من أسبقية الفكر على الوجود أم أسبقية الوجود على الفكر أم وحدة (الوجود ـ الفكر) (الفكر ـ الوجود).
    إن عقلانية الرجل التى لا حد لها لا تقبل امكان وجود عقل فوق هذا الوجود. وهذا ما تدلل عليه ألوف الشواهد من أقواله النثرية والشعرية! ولكن ايمان الرجل الذي لا حد له لا يقبل امكان وجود "وجود" بدون وجود "عقل" من فوقه! وهذا أيضا ما تُدلل عليه ألوف الشواهد من أقواله النثرية والشعرية!
    هنا نقف لحظات أمام ثلاثة أبيات لأبي العلاء حدث بالنسبة لهما لبس كبير بالنسبة للقدماء والمحدثين! فهما يُساقان ـ كحجة قوية ـ على الحاد الرجل..ويُساقان كحجة قوية أيضا على شدة ايمانه:
    قلتم لنا خالق حكيـم
    قلنا صدقتم كذا نقول
    زعمتموه بلا مكـان
    ولا زمان ألا فقولوا
    هذا كلام له خبـىء
    معناه ليست لنا عقول
    والمعسكران المختلفان يحتجان معا وفى وقت واحد بهذه الأبيات الثلاثة! فهي تعني أن أبا العلاء يقول بأن لله مكانا وزمانا وينكر على مخالفيه أن يقولوا عكس ذلك، بأنه خارج كل مكان وكل زمان!
    ولكن تصور إله له زمان ومكان لا يمكن أن يكون اعترافا بوجود إله..بل هو يلغي وجوده ويلغي ضرورته للوجود..أى للمكان والزمان! من هنا كان المعسكر الذي يقول بالحاد الرجل وكفره وزندقته على حق تماما فيما يذهب إليه. لأن ما هو داخل الزمان والمكان لا يمكنه أن يكون هو نفسه هو خالق الزمان والمكان..العقل الأكبر..الله!..ثم لا يمكن تصور أنه داخل المكان والزمان وخارجهما في نفس الوقت!
    والآن دعونا نقرأ الأبيات الثلاثة السابقة مرة ثانية على التالي:
    "قلتم: لنا خالق حكيم..
    قلنا: صحيح..كذا نقول..ذلكم..لنا خالق حكيم..
    زعمتموه بلا مكان ولا زمان! الضمير هنا يعود على من؟! زعموا من..؟! زعمتم خالقكم! أما خالقنا فليس له مكان أو زمان"
    أى أن الحديث يجري هنا عن إلهين لا عن إله واحد. عن إلههم، وعن إله أبي العلاء. أما إلههم فله مكان وله زمان، وهذا ما يعلمه أبو العلاء. وأما إله أبي العلاء فليس له مكان ولا زمان لأنه خالق المكان والزمان وخارجهما. إذن حدث اللبس لأن الظن تبادر إلى أن أبا العلاء يتحدث عن إلهين..لا عن إله واحد..إنها على ذاتها "لكم دينكم ولى دين" الواردة في القرآن. والدين هنا ليس الدين بالمعنى الحرفي وانما بمعنى الايمان!
    ولكن من هم الذين يخاطبهم أبو العلاء؟!
    إنهم أولئك الذين لا دين لهم..لا ايمان..لا إله؟!
    ولكن كيف يكونون كذلك ثم يظل لهم خالق حكيم..أى إله..أى دين..أي ايمان؟!
    انظروا إلى مدى التناقض..؟!
    فهل معنى هذا ان أبا العلاء يقول بإلهين..أو بتعدد الآلهة..لكم إله ولى إله آخر والسلام؟! إن معنى هذا أن الرجل كان وثنيا..لا ملحدا ولا زنديقا ولا كافرا فحسب، وهذا أكثر بشاعة وأكثر تناقضا وأكثر مبعثا للحيرة!
    أم أنهم هم الوثنيون الذين يعبدون إلها له زمان ومكان، وإن زعموا أنه بلا زمان ومكان؟!
    فمن هؤلاء الوثنيون وما إلههم؟! هذا ما يبدو أن أبا العلاء على علم تام به!..على علم بخبىء كلامهم ومزاعمهم..ولو صدق مزاعمهم أو صدقناها نحن لكان معنى هذا فعلا أن "ليست لنا عقول"، ولكن لنا عقولا بلا شك. ويعني هذا أننا لا يمكن أن نصدق تلك المزاعم ولو اتخذت شكل الايمان بإله خارج المكان والزمان. لأننا نعلم خبىء تلك المزاعم، نعلم انها معكوس ما تقولون.
    أما من هم؟! ومن إلههم؟! فليست هذه مهمتنا الآن. أبو العلاء ـ كما سنرى فى مكان آخر ـ قد كشفهم وكشف إلههم وخبيئهم بما كان يجب ألا يدع مجالا للحيرة أمام معاصريه واللاحقين به...أما القدماء والمحدثين والمعاصرين لو قرأوا الرجل جيدا ومرارا وفهموه على الوجه الصحيح! ولكن.. ما الحيلة فى عمى البصر، وما الحيلة في حسن النية، أو سوء النية الذي ترتب عليها الافتراء على الرجل منذ أكثر من ألف عام؟!
    إن عقل أبي العلاء لا يمكن ـ بطبيعته ـ أن يقبل بأسبقية الوجود على الفكر..إذ لابد أن يكون هناك خالق حكيم:
    عجبي للطبيب يلحد في الخالق
    من بعد درسه التشريحـــا!
    نعم إن كل شيء فى هذا "الوجود" يثبت ويؤكد أن وراء هذا الوجود عقلا أكبر من أن يُحيط به العقل الانساني. هو عقل موجد..خالق للوجود. إن الوجود في حاجة إلى "شيء" يفسره! في حاجة إلى علة أو إلى سبب أول..إلى عقل أكبر..إلى إله.
    ولكن عقل أبي العلاء من ناحية مقابلة وبطبيعته أيضا لا يمكن أن يقبل بأسبقية الفكر على الوجود..لأن هذا الفكر يحتاج بدوره إلى وجود سابق عليه. نعم إن العقل والمنطق ـ الانسانيين ـ يثبتان ويؤكدان ويحتمان أن يكون وراء هذا العقل الأكبر وجودا أكبر من أن يُحيط به العقل الانساني! هو وجود موجد للعقل..إن الوجود فى حاجة إلى "شيء" يفسره..في حاجة إلى علة أو إلى سبب أول..! وهكذا سيستمر الدور إلى ما لا نهاية!
    وفي الحالتين هو أمام طريق مسدودة..أو دائرة مغلقة!
    هل يسبق الفكر الوجود؟! هذا مستحيل عقلا..
    هل يسبق الوجود الفكر؟! هذا أيضا مستحيل عقلا..
    هل الاثنان شيء واحد؟! هذا ثالث المستحيلات؟!
    هل ثمة شيء يتجاوز الوجود والفكر معا؟! هذا رابع المستحيلات، فضلا عن أن هذا التجاوز المستحيل لو أمكن ـ فرضا ـ لكان معناه حتمية أسبقية الفكر على الوجود وفي نفس الوقت أسبقية الوجود على الفكر. وهذا خلف..أو دور..أو سباق في طريق مسدودة أو سقوط في دائرة مغلقة أو مجرد هذيان!
    والحق أن العقل الانساني إذا تجاوز نفسه فرضيا إنما يكون قد ألغى وجوده، لأن حتمية وجود العقل هي نفسها حتمية وجود الوجود. وهو اذا تجاوز وجوده فانما يكون يكون قد ألغى نفسه، لأن حتمية الوجود هي نفسها حتمية وجود العقل؟!
    لم يعد هناك غير الفرار من العقل ومن الوجود معا:
    وهل يأبق الانسان من ملك ربه
    فيخرج من أرض له وسمـاء؟!
    إن هذا هو خامس المستحيلات!
    حيرة..بل الجحيم بعينه..وخصوصا بالنسبة لعقل كعقل أبي العلاء؟!
    لم يبق أمام أبي العلاء إلا التمرد..على الفكر وعلى الوجود معا..على الأسبقية الحتمية ـ عقلا للفكر، والأسبقية الحتمية ـ عقلا للوجود..على المثالية وعلى المادية في وقت واحد، وان لم يكونا معروفان، بهذا المصطلح، على عهده فى القرن الرابع الهجري! ولكن إلاما يُفضي هذا التمرد وما معناه وكيف يمكن أن يكون؟! لم يبق إلا أن يكون هو نفسه "العقل"، وهو نفسه "الوجود"، وهو نفسه الذي يتجاوز العقل والوجود، هو الله!
    وأشهد أني بالقضاء حللتها
    وأرحل عنها خائفا أتألـه
    قد يتبادر إلى الذهن هنا أن الرجل يوشك أن يدعى الألوهية وأنه فقط يخشى مغبة الادعاء..خاصة وأن قتل المتنبي ليس عنه ببعيد، وأكثر خصوصا أنه كثيرا ما سجل بالغ حبه للمتنبي وبالغ اعجابه به. وكثيرا ما استشهد بأقواله، ثم هو محيط كل الاحاطة بأخبار من سلفه من المتنبئين والمتألهين ـ كما عددهم في رسالة الغفران ـ ويعلم جيدا المصائر الغامضة التى انتهوا إليها. ثم إذا كان هذا ما لقيه المتنبي ـ مثلا ـ من مصير السجن ثم القتل، فما عساه يكون مصيره هو اذا ادعى الالوهية؟! هو شديد الاحتياط لنفسه مفرط فى الحذر وأزكى من أن يسلم نفسه هكذا بكل بساطة إلى "أعدائه"!! ثم أن البيت السالف يثبت أن الرجل لم يكن ملحدا ولا زنديقا ولا وثنيا ولا مؤمنا ولا شيء البتة من هذا القبيل..وإنما كان بكل بساطة مجنونا...وقصارى القول فيه أنه مجنون والسلام! ولكن كيف يتورط في هذا الجنون هو الذي سخر من جميع المتنبئين والمتألهين، بما في ذلك المتنبي، في رسالة الغفران وأدانهم جميعا بقسوة واتهمهم بالجنون؟!
    ليس الجحيم إذن هو الذي يعتمل فى عقل ووجدان أبي العلاء، وهو شاعر فيلسوف وفيلسوف شاعر، وانما ما هو ألعن من الجحيم..فهل ثمة ألعن من الجحيم؟!
    لم يعد أمامه سوى الموت، لذلك فكر فى الموت كثيرا وطويلا ومرارا، وما أكثر ما تمناه:
    من باعني بحياتي ميتة سُرُحا
    بايعته وأهان الله من ندمــا
    ولكنه هو نفسه الذي يقول أيضا:
    ونومي موت قريب النشور
    وموتي نوم طويل الكـرى
    أي أنه يؤمن بأن ثمة حياة أخرى! وما دامت هناك حياة أخرى فمعنى هذا أنه مؤمن بأن ثمة إلها! فالمصيبة أن تمنى الموت هو دليل على الايمان بالله بقدر ما هو دليل على الكفر بالله..]فتمنوا الموت إن كنتم صادقين[.
    وفرق كبير بين أن تتمنى الموت لكي لاتطالع وجه الله وأن تتمناه لكي "تأبق" أو تفر من أرضه وسمائه! في الحالة الأولى هو الشوق والحب والرضا والطمأنينة، أما في الحالة الثانية فهو الضيق والكفر والتمرد على إرادة الله، "قل يا عبادي الذين آمنوا لا تقنطوا من رحمة الله"، وقد رأينا كيف أنه يعاني فى الحالة الثانية..القنوط!
    لذلك فكر كثيرا وطويلا فى الانتحار وذكر ذلك فى رسالة الغفران: "..قد كدت ألحق برهط العدم، من غير الأسف ولا الندم، ولكنما أرهب قدومي على الجبار، ولم أصلح نخلي بإبار. وقيل لبعض الحكماء: إن فلانا تلطف حتى قتل نفسه..وكره أن يمارس بدائع الشرور، وأحب النقلة إلى منازل السرور. فقال الحكيم قولا معناه: أخطأ ذلك الشاب المقتبل..هلا صبر على صروف الزمان..فانه لا يشعر علام يقدم!!
    هذا الاعتراف لايدع مجالا للشك فى أن الرجل مؤمن بالله ويرهب قدومه عليه بغير عمل صالح. أى أنه لم يكن ملحدا ولا زنديقا ولا كافرا ولا وثنيا، ويعني أيضا أنه لم يكن مجنونا كما أضفنا منذ قليل! ثم هو هناك "خائف" أن يتأله! فهل كان خائفا ـ فقط ـ من مصير المتنبئين والمتألهين كما ظننا أم كان خائفا من ـ أساسا ـ قدومه على الله مدعيا الألوهية؟! وإذا كان يخشى الله فكيف يدعي الألوهية؟! وإذا كان يدعي الألوهية فكيف يخشى الله؟!
    إنها لعنة..وليست مجرد جحيم!
    ولكن الرجل يستشهد في رسالة الغفران بقول الضبي:
    ولقد علمت بأن قبري حفرة
    ما بعدها خوف على ولا ندم
    الموت إذن يضع حدا للخوف؟!
    ألأن الموت نهاية كل شيء؟! إن معنى هذا أنه لا يؤمن بالبعث ولا الخلود في حياة أخرى وبالتالي لا يؤمن بالله..فكيف يستقيم هذا ـ منطقيا ـ مع خوفه من القدوم على الجبار فيما لو انتحر أو مع خوفه من الناس والله فيما لو ادعى الألوهية؟! ثم كيف يستقيم هذا مع قوله هو نفسه!
    خلق الناس للبقاء فضلت
    أمة يحسبونهم للنفــاد
    إن هذا يعني أنه يؤمن بالبعث والخلود فى حياة أخرى وبالتالي يؤمن بالله! ويُدين من لا يؤمنون بما يؤمن به بالضلال!
    أنظروا إلى الأرجوحة المترددة بين الجحيم والجحيم..بين اللعنة واللعنة..بين النقيض ونقيض النقيض؟! فهل كتب ما كتب لكي يضعنا على كف هذه الأرجوحة؟! إنه يعبث..يعبث بنفسه وبنا وبكل شيء..وبالوجود والفكر على السواء! ولا يفعل هذا إلا مجنون..نعم إنها هستيريا..حمى لعينة..لا عقل ولا فكر ولا فلسفة ولا منهج ولا مذهب ولا شيءعلى الاطلاق..هذيان في هذيان ليس غير! خصوصا وهو القائل:
    أرى هذيانا طال في كل أمة
    يضمنه ايجازها وشروحـها
    إذن كل ما قاله الأولون وكل ما قاله هو أو سيقوله اللاحقون به..مجرد هذيان لا معنى له ولا غاية ولا جدوى منه..باطل الأباطيل..الكل باطل..
    فهل كان الرجل عدميا؟!
    هناك ألوف الأدلة أيضا على أنه كان كذلك، وألوف أخرى ـ مثلها ـ على أنه لم يكن كذلك؟ إنه يصبح بذلك فى نظرنا مجنونا، مجنونا والسلام! فإذا عدنا إلى رسالة الغفران وجدنا الرجل يقول: "والتأله موجود في الغرائز..ويلقنُ الطفل الناشيء ما سمعه من الأكابر، فيلبث معه في الدهر الغابر، والذين يسكنون في الصوامع، والمتعبدون في الجوامع، يأخذون ما هم عليه كنقل الخبر عن المُخبر، لا يميزون الصدق من الكذب لدى المعبر، فلو أن بعضهم ألفى الأسرة من المجوس لخرج مجوسيا..واذا المعقول جُعل هاديا، نقع بريه صاديا، ولكن أين من يصبر على أحكام العقل..؟ هيهات!".
    هل معنى هذا أن التأله غريزة؟!
    إذن فأبو العلاء لم يتبع إلا غريزته حين أوشك أن يدعي الألوهية، فالألوهية هنا ليست مدعاة! الرجل إذن طبيعي وعاقل ومنطقي مع الطبيعة، وليس مجنونا..
    وهكذا عدنا إلى الناحية المقابلة أو المضادة من حركة الأرجوحة! أم يعنى أبو العلاء أن "التأله" أمر يلقنه الكبار للطفل فيلبث معه ويشيب عليه؟!
    إذن كيف يكون موجودا "في الغرائز"؟! ثم هذا التأرجح المستمر من النقيض إلى النقيض..ومن الجنون إلى غاية العقلانية وقمة العبقرية..أليس فى حد ذاته جنونا وعبثا وهذيانا وعدمية وحمى جهنمية يبدو ألا نهاية لها ولا شفاء ولا نجاة منها ولا جدوى على الاطلاق ولا علاقة لها بالوجود ولا الفكر ولا بأي شيء؟! مهلا..كأنك لا تستطيع مع أبي العلاء صبرا..
    ولم يستطيع الصبر معه القدماء والمحدثون والمعاصرون! فصبر جميل!
    إن كلمة التأله لا تعني فقط ـ من الناحية المعجمية ـ "ادعاء الألوهية"، وانما تعني أيضا (التوحيد)! والرجل يقصد أن التوحيد غريزة في الطفل وأن ما يلقنه من الكبار هو الذي يقطع الطريق على هذه الغريزة ويصرف الطفل عن طريق الايمان! لا أن "ادعاء الألوهية" غريزة في الطفل يلقنها عن الكبار..فالتلقين ينفي إمكان أن يكون إدعاء الألوهية "غريزة"! نعم إن فينا نزوعا فطريا وغريزيا وعفويا وتلقائيا إلى الله..لأننا في حاجة إليه..ولأن الوجود والفكر معا في حاجة إليه. أما إدراكه والاحاطة به وتجاوزه فمما لاقبل للعقل الانساني به. والعقل الانساني عاجز عجزا مطلقا عن هذا بحكم محدوديته. إنه لا يستطيع أن يتجاوز نفسه، ولكنه قادر أيضا قدرة مطلقة لأنه يستطيع أن يتجاوز نفسه! إنه لا يستطيع أن يجعل من نفسه موضوعا للادراك، هذا حق. ولكنه يستطيع أن يجعل من كل شيء فى الوجود موضوعا للادراك أو لامكان الادراك!
    ولهذا تجاوز أبو العلاء نفسه!..ولم يتجاوزها في وقت واحد. وتجاوز الديالكتيك المثالي والمادي معا، ولم يتجاوزهما في وقت واحد وهذا هو الديالكتيك ذاته..وهو ديالكتيك أبي العلاء. ويجب أن نبحث عنه فى التركيبة العقلية والنفسية للرجل، لأن الديالكتيك هو غريزة الغرائز في هذه التركيبة النادرة والمستقرة والمتميزة والعبقرية! إنه يضاد بين النقائض ويوحد بينها ويبادل بعضها بالبعض ويوفق بينها، ثم يخرج من هذا بمحصلة يخرج بعدها بنقيض المحصلة إلى نقيض النقيض وهكذا إلى مالا نهاية!.. ولا يمكن فهم الرجل بدون فهم الديالكتيك العلائي هذا المتميز عن جميع المذاهب المثالية والمادية جميعا، وعلى مدى تاريخ الفكر الانساني منذ أقدم العصور حتى وقتنا الحاضر. أبو العلاء إذن هو صاحب المنهج الجدلي ومؤسسه، لا هيجل ولا ماركس ولا أحد من قبل ولا من بعد! من هنا صار هو كما صير الآخرين! لأن ما كان يعتمل بداخله أشبه بما يعتمل بجوف الشمس..انفجارات وانقسامات واتحادات ذرية تخرج منها انفجارات وانقسامات واتحادات أخرى..وهكذا إلى ما لا نهاية! من ثم أجبره عقله ذاته ـ وللمره الأولى والأخيرة ـ على أن ينزل على العقل أمام جميع المستحيلات العقلية والمنطقية فيتورط في المغامرة والمساومة والتنازل بل والاستسلام التام، فيقول:
    قال المنجم والطبيب كلاهمـا
    لا تُحشر الأجساد قلت: إليكما
    إن صح قولكما فلست بخاسر
    أو صح قولي فالخسار عليكما
    إنه التورط الملحمي، والبطولي، والتراجيدى في نفس الوقت..إنها سيمفونية ناجحة حقا، ولكنها نبيلة ورائعة وشجية ومثيرة للإعجاب وباعثة على الفرح..بل نشيد الانشاء الجديد لمجد العقل الانساني..فلا نامت أعين الجهلاء!!..
    نعم يا أبا العلاء:
    ـ تفكر فقد حار هذا الدليــل
    وما يكشف النهج غير الفكــر
    ـ فكروا فى الأمور يُكشف لكم
    بعض الذي تجهلون بالتفكير!
    *******
    يتبع
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    للنشر
    الإدارة
    للنشر


    المشاركات : 3446
    . : ملتقى نور المصباح الثقافي

    كتاب تحت عباءة أبي العلاء / نجيب سرور Empty
    مُساهمةموضوع: رد: كتاب تحت عباءة أبي العلاء / نجيب سرور   كتاب تحت عباءة أبي العلاء / نجيب سرور Icon_minitime07.04.12 1:02

    تابع


    المقالة الرابعة
    الفكر والشعر في منظور أبي العلاء المعري

    "واسروا على الخيل العتاق واصمتوا
    نواطقــــــها ألا تحمحم هائب
    وشد لسان الطرف خوف صهيلــه
    فقد ألجموا أفواهها بالسبـــائب!"
    أبو العلاء

    لأبي العلاء كلام في "الخيول" أكثر مما قاله المتنبي وأبو تمام وغيرهما إلى الملك الضليل امرئ القيس! وخاصة في مقدمتي ديوانيه (سقط الزند) و (لزوم ما لايلزم)، وهو يرتب مراتب الخيول على بحور وأوزان وقوافي الشعر العربي! فلم يكن الرجل، وفي (لزوم مالا يلزم) بالذات، معنيا بترتيب أوزان وقوافي الشعر العربي بقدر ما كان معنيا بتصنيف وتصفيف "الخيول العربية" أي الفرسان العرب من أنصاره ومريديه وأعضاء حزبه الباطني السري الذي تفرغ له في منفاه الاختياري "المعرة"، بعد أن رفض جميع الأحزاب والمذاهب والاتجاهات والحركات السرية والعلنية، ولذلك راح يقول بالرمز وبالمصطلحات الشرطية: "أما بعد، فإن الشعراء كأفراس تتابعن في مدى (غاية)، ما قصر منها سُبق، وما وقف ليم ولُحق".
    ويقول صاحب "شرح الند على سقط الزند" انه شبه حال الشعراء في المشاعرة والمباراة في إنشاء الشعر بخيل أُرسلت في حلبة السباق، متتابعة بعضها في اثر بعض، متوجهة إلى غاية نصبت لها وقد اختلفت مناصبها، فهو المجلي وهو السابق الحائز قصب السبق.
    واضح أن أبا العلاء وأن الشارح لسقط الزند لا يتحدثان عن الشعر وعن الخيول بما هى، وإنما يتحدثان عنها حديثا رمزيا اصطلاحيا شرطيا شفريا يقصدان به في الظاهر أشياء وفي الباطن أشياء أخرى هى ـ أي ما هو في الباطن ـ التنظيم والتشكيل والتجميد والحشد على مراتب ودرجات وفئات لحزب أو لحركة سرية باطنية بديلة للحركات الباطنية التي كانت سائدة في القرن الرابع الهجري وفيما قبله وفيما بعده حتى كتابة هذه السطور.

    لماذا الهجوم؟

    إذن ماذا عسانا أن نبغي عند أبي العلاء غير اللغة والنحو هو المتهم منذ أكثر من ألف عام بأنه ملك التشدق باللغة وبالنحو من قبل اللغويين والنحويين؟ هذا ما يلفت الرجل نظرنا إليه ويحذرنا منه، خاصة وأنه قد أضاف في مقدمة اللزوميات ـ فيما أذكر ـ أنه كتب اللزوميات على معجم العامة لا على معجم العلماء، مما يوحي بأن لأبي العلاء معجما خاصا شرطيا ورمزيا واصطلاحيا وهو معجم العلماء، ومما يوحي في نفس الوقت بأن الرجل لا يقصد ما يقوله في الظاهر وإنما يقصد العكس والعكس تماما. إن الرجل يقول:
    ولحبر اليهود في درسه التو
    راة فن والهم في التدبيـل
    فهو يدعوك بهذا إلى أن يكون لك أيضا فن في دراسة تراثك وتراث أعدائك والتراث الإنساني كله بما فيه تراث أبي العلاء نفسه، أو أن تكتشف (الفن) الذي يدرس به الآخرون أي تراث. الرجل إذن يعطيك سره حين يعطيك سر الآخرين ويعطيك المفتاح إلى عالمه الشفري السري الباطني كما أن عوالم الآخرين منذ أقدم العصور حتى ما بعد أبي العلاء بأكثر من ألف عام!!
    لابد أن يكون القراء قد وقفوا طويلا أو قصيرا أمام هجوم ياقوت على أبي العلاء واتهامه له ـ هو المفترى عليه ـ بالتشدق باللغة، وهو أول من تبرأ من هذه التهمة بلسانه الصريح المباشر تارات وبلسانه الباطني غير المباشر تارات أخرى!
    ولا يمكن أن نتصور أن ياقوت لم يفهم أبا العلاء ولم يع قاموسه السري!.. إذن لماذا كان الهجوم، واضح أن ذلك كان على سبيل التنكر والحيطة والتحفظ والحذر، إذ من الواضح أن السيوف التي كانت مشرعة على رقبة أبي العلاء كان يمكن أن تُشهر على رقبة كل من يتعاطف مع أبي العلاء أو يبدي بادرة من تعاطف، لذلك لا نرى هجوم ياقوت على أبي العلاء إلا في ضوء الظاهر والباطن أيضا، نزولا على قول أبي العلاء نفسه:
    ودهاك من أمسي لذكرك شاهرا

    حوار مع أبي العلاء

    أنا: ما الروي يا أبا العلاء؟!
    هو: فأما الروي فأثبتُ حروف البيت، وعليه تُبنى المنظومات. وهو يكون من أي حرُوف المعجم وقع إلا حروفا تضعفُ ولا تثبتُ. كألف الترنم، وواوه، ويائه، وهاء الوقف، وهاءات التأنيث إذا كان ما قبلها متحركا، والألفُ التي تلحق علما للتثنية في مثل ـ ضربا وذهبا، والواو التي تدل على الجمع إذا كان مضموما ما قبلها في مثال ـ ضربوا وقتلوا، وغير ذلك من الحروف، فان اتفق غير ما ذكرتُ فهو شاذ مرفوض!
    أنا: إنني لم أفهم شيئا مما قلت، وسأدع هذا لمن قد يفهمون في العروض والقافية والروي أكثر مما أفهم
    لا تعرف الوزن كفى بل غدت أذني
    وزانة ولبعض القول مــــيزان
    ولكنى أسألك لماذا استهللت مقدمتك للزوم ما لا يلزم بقول الشاعر:
    ولقاك العقوق من البنينــــــا
    ثم أتساءل لماذا ضربت أول مثل بـ "ضربا وذهبا" وثاني مثل بـ "ضربوا وقتلوا"؟!..انك تضرب مثالا "للخروج" بقول الشاعر القديم:
    في ليلة لا نرى بها أحدا
    يحكي علينا إلا كواكبُهـا
    الخروج إذن يعني الوعد والموعد والرجعة والظهور إلى العلن بعد الكمون الباطني الطويل، وبعد الثقة المطلقة في إمكانية النصر، وبعد أن تعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم..في ظل الصمت المقدس المتربص وفي ظل السكون المتحرك والتحرك الساكن!!
    قل لي ماذا عن "التأسيس"؟!
    هو: والتأسيس كقول القائل:
    ألا يا ديار الحي بالأخضر اسلمي
    وليس على الأيام والدهر سالــمُ
    أنا: قل لي بم تستشهد أقل لك من أنت!..أتراها مجرد أبيات عابرة على الخاطر بعد الضرب والقتل وخيانة الأم والدعوة عليها بالعقوق من البنين والبنات..الأم الوطن..الأم الدار..الأم المغتصبة الأسيرة..الأم المكتوفة اليدين والرجلين.
    هو: أنت مباحثي!
    أنا: نعم..ولكن في التراث ودفاعا عن التراث، وخاصة أن شبابنا قد زهد في التراث، وخاصة وأن الهجوم قد اشتد هذه الأيام بالذات على التراث تمهيدا لسحب الأرض من تحت أقدامنا وجريا على عادة الاستعمار الاستيطاني!
    اسرق تراث أي شعب تسرق ذاكرته، تسرق تاريخه، تسرق عقله، تسرق قدرته على التفكير في الحاضر والمستقبل، تسرق ألأرض.

    نص غريب

    لم يكن أبو العلاء إذن معنيا ـ كما قلت ـ بالعروض والقافية واللغة والنحو، وإنما استخدم كل ذلك استخداما اصطلاحيا وشرطيا كان يفهمه عنه معاصروه ومريدوه وأنصاره خاصة! وعلى هذا الضوء تصبح مقدمة أبي العلاء للزوم ما لا يلزم أكثر خطورة وأهمية من الديوان نفسه. وبتخطي جميع الاستشهادات العلائية من الشعر والشعراء في المقدمة المذكورة، وبترك هذا عمدا إلى فطنة القارئ الذكي والمتواضع، نصل إلى قول الرجل في نهاية المقدمة: "وقد كنتُ قلتُ في كلام لي قديم: إني رفضت الشعر رفض السقب (ولد الناقة إذا ولدته وعُرف أنه ذكر) غرسه، والرأل (فرخ النعام) تريكته (البيضة)، والغرض ما استُجيز فيه الكذب واستعين على نظامه بالشبهات. فأما الكائن عظة للسامع، وإيقاظا للمتوسن، وأمرا بالتحرز من الدنيا الخادعة وأهلها الذين جبلوا على الغش والمكر، فهو إن شاء الله مما يلتمس به الثواب. وأضيف إلى ما سلف من الاعتذار أن من سلك في هذا الأسلوب ضعُف ما ينطق به من النظام، لأنه يتوخى الصادقة، ويطلب من الكلام البرة ولذلك ضعف كثير من شعر أمية ابن أبي الصلت الثقفي ومن أخذ بفريه من أهل الإسلام. ويُروى عن الأصمعي كلام معناه أن الشعر باب من أبواب الباطل، فإذا أريد به غير وجهه ضعُف، وقد وجدنا الشعراء توصلوا إلى تحسين المنطق بالكذب وهو من القبائح. وزينوا ما نظموه بالغزل وصفة النساء ونعوت الخيل والإبل وأوصاف الخمر. وتسببوا إلى الجزالة بذكر الحرب. واحتلبوا أخلاق الفكر وهم أهل مقام وخفض في معنى ما يدعون أنهم يُعانون من حث الركائب، وقطع المفاوز، ومراس الشقاء"!!
    انتهى نص أبي العلاء. نص غريب على كل الوجوه!
    فهو يعني أن لأبي العلاء كلاما ضاع فيما ضاع أو سُرق أو خبيء من التراث العربي، ويعني أن أبا العلاء لا يؤمن بأن أعذب الشعر أكذبه على عكس الخطأ الشائع فى عصره وفي كل العصور، ويعني أن أبا العلاء يرفض شكل ومضمون القصيدة العربية فيصبح منظرا لحركة تجديد منشودة، ويعني أن أبا العلاء يعترض على الشكلية وان لم تكن "الشكلية" معروفة على عصره كمصطلح نقدي أو جمالي، ويعني أن أبا العلاء لا يتحدث عن الشعر على اطلاق وانما عن (الشكلي) منه، ويعني أنه لا يفهم امكانية التناقض بين القول والفعل وانما تطابق القول مع السلوك والنظر مع الممارسة والقول مع العمل. أما أن يكون الشاعر فارسا بالقول خائنا وجبانا بالسلوك فهذا ما لم يفهمه أبو العلاء وما لا يمكن لأبي العلاء أن يفهمه أو يتسامح فيه أو يقبل فيه المساومه والسمسرة والتجارة تحت السيوف المشرعة وفي ظلال غابات المشانق الجاهزة، هو الذي عاش ومات مدللا بما لايدع مجالا للشك على حتمية والزامية التطابق بين القول وبين العمل، أما التاريخ فحافل بالفرسان الكذبة فرسان اذا ما خلا الجبان بأرض!! ثم يعني النص أن أبا العلاء يتمرد على بناء القصيدة العربية التقليدي منذ العصر الجاهلي حتى القرن الرابع الهجرى، ويعني النص أن أبا العلاء يقف فى صف "الواقعية" وان لم تكن أخذت اسمها هذا على عصره، ويقف إلى جانب "العقلانية" في الشعر كما في كل شيء! ثم يدين الشعراء الكذبة وما كان أكثرهم ممن يدعون الفروسية ويحتلبون اخلاف الفكر ويزعمون أنهم يعانون من "حث الركائب وقطع المفاوز و مراس الشقاء"، وهم أبعد ما يكونون عن الفروسية وعن الركائب وعن المفاوز وعن الشقاء مما عاناه وعايشه طويلا أبو العلاء الشهيد، مسيح القرن الرابع الهجري وحسين القرن الرابع الهجري..نعم انهم اولئك الشعراء محض سماسرة وخونة ودسائس وتجار!!
    لكن أغرب ما في النص الغريب قول أبي العلاء بأن من سلك فى الشعر أسلوب "الواقعية" و"العقلانية" والصدق "ضعُف ما ينطق به من النظام لأنه يتوخى الصادقة ويطلب من الكلام البرة"، ولذلك ضعف كثير من شعر فلان وعلان.
    معنى هذا أن الشعر يضعف إذا غلب عليه الفكر، وأن الفكر يضعف إذا غلب عليه الشعر! ومعنى هذا أن الشاعر يصبح أقل شاعرية كلما كان أكبر فكرا، ويصبح أكثر شاعرية كلما كان أقل فكرا!!

    الشعر والفكر

    إلى أية نتيجة يسوقنا أبو العلاء الشاعر الفيلسوف والفيلسوف الشاعر، إلى التعارض الحتمي بين الشعر والفكر؟ إلى القطيعة التامة بين الفكر والشعر؟! ومن الذي يقول هذا؟! صاحب "سقط الزند"، الديوان الذي لا يرقى إلى قمته ديوان شعري آخر في تاريخ الشعر العربي من حيث الشعر والشاعرية والفكر، لا أستثني من ذلك ديوان المتنبي ولا ديوان أبي تمام ولا ديوان أبي نواس؟! ثم لماذا يا ترى رفض أبو العلاء الشعر ـ في كلام له قديم ـ "رفض السقب غرسه والرأل تريكته"، على حد تعبيره.

    المصطلح السري

    إذن ما الحكاية بالضبط؟!
    لم يكن الرجل معنيا بالشعر والشاعرية أساسا فى لزوم ما لا يلزم ـ المقدمة والديوان ـ بقدر ما كان معنيا بالتفكير النظري وبالتخطيط والتدبير والتجنيد والحشد الوئيد الحذر الذي يصطنع الشفرة ويصطنع الرموز ويخلق المصطلح السري للحركة الجديدة!..ولم يكن ممكنا في عصر كعصر أبي العلاء أن يتم أي تحرك حقيقي على المستوى العلني، فلم يكن هناك مفر من التحرك على المستوى السري الباطني الساكن، خاصة حين اختلطت "الاتجاهات" وتضاربت "المذاهب" وتخبطت "الطوائف":
    سكونا خلت أقدم من حراك
    فكيف بقولنا حدث السكون؟
    هنا نعود الى استشهاد أبي العلاء ببيت الشعر القديم السابق ذكره فى مستهل هذا الحديث:
    في ليلة لا نرى بها أحدا
    يحكي علينا الا كواكبُها
    لهذا كان شاعرا ومفكرا من الطراز الأول في "سقط الزند"، وكان أقل شاعرية وأكثر فكرا في "لزوم ما لا يلزم"، ولكنه كان واعيا بموقفه فى الحالين.
    أخيرا لا أدرى لماذا يمر بذاكرتي الآن قول الشاعر الشيلي "نيكانور بارا":
    "لعله يجدر بي أن أعود إلى ذلك الوادي،
    إلى تلك الصخرة التى كانت فى يوم من الأيام داري،
    وأبدأ فأنقش من جديد،
    من النهاية حتى البداية،
    العالم..مقلوبا ومعكوسا"
    ربما لأني تعبت! وربما لأننا نقول ما نعيد ونعيد ما نقول! وربما لأننا نعيش عصرا "مشرقا" إلى أبعد حدود "الاشراق"! لا كعصر أبي العلاء، ذلك العصر الضرير! وربما لأن أبا العلاء قال قديما:
    ظلوا كدائرة تحول بعضـها
    من بعضها فجميعها معكوس
    ثم يرد على خاطري وأنا أكتب، كالعادة، على سجيتى قول الشاعرة الأمريكية "ماري.أ.ايفانز":
    "عندما أموت،
    أنا متأكدة،
    أنه سوف تسير خلفي جنازة كبيرة،
    سيأتي المتطفلون،
    ليروا ما إذا كنت حقيقة ميتة،
    أم أننى أحاول أن أثير المتاعب!"
    *******

    المقالة الخامسة
    خصومة خسرها الأدب العربي

    كنت أتمنى لو اصطدم العقاد بطه حسين أو طه حسين بالعقاد، إذن لأعطت المعركة بينهما الكثير من الثمار التى كان يمكن أن يفيد منها الأدب العربي الكثير. فلا شك أن الصدام بين عميدي الأدب العربي وبين رأسين كرأسي العقاد وطه حسين، كان سيُحدث ضجة لا يستطيع أحد أن يتنبأ بنتائجها. وثمة خصومة قديمة لم تُؤت ثمارها فى تاريخ الأدب العربي ألا وهي الخصومة بين أبي العلاء المعريوداعي الدعاة، انسحب منها أبو العلاء العري لأسباب سياسية واتفق الطرفان على الصمت بعد جدل قصير، أو لعل ياقوت الراوي شاء أن يختصر الخصومة وأن يزعم أنهما اتفقا على الصمت. كم كانت هى الأخرى معركة مفيدة ومثمرة وخطيرة للنتائج.

    رسالة الغفران

    على أن الصدام بين العقاد وطه حسين كاد يحدث حين كتب العقاد عن الخيال في رسالة الغفران فقال: "..أما أن يُنظر إليها كأنها نفحة من نفحات الوحي الشعري على مثال ما نعرف من القصائد الكبرى التى يفتن فى تمثيلها الشعراء والقصص التى يخترعونها اختراعا، ويُنظر إليها كأنها عمل من أعمال توليد الصور وإلباس المعاني المجردة لباس المدركات المحسوسة، فليس ذلك حقا وليس فى قولنا هذا غبن للمعري أو بخس لرسالة الغفران، كلا ولا هو مما يُغضب المعري أن يُقال هذا القول في رسالته".
    هذا فى نفس الوقت الذي يؤكد فيه العقاد: "ان رسالة الغفران نمط وحدها في آدابنا العربية وأسلوب شائق ونسق طريف فى النقد والرواية وفكرة لبقة لا نعلم أن أحدا سبق المعري إليها، اللهم إلا إذا استثنينا محاورات لوسيان فى الأولمب والهاوية، وفذلكة جامعة لاشتات من نكات النحو واللغة. ذلك تقدير حق موجز لرسالة الغفران".
    طه حسين يخالف العقاد
    واستفزت هذه الكلمة الدكتور طه حسين البارد الأعصاب، فكتب يقول: ".. ولكن الذى أخالف العقاد فيه مخالفة شديدة هو زعمه فى فصل آخر أن أبا العلاء لم يكن صاحب خيال حقا فى رسالة الغفران. هذا نُكر من القول لا أدري كيف تورط فيه كاتب كالعقاد. نعم ان العقاد كاتب ماهر يُحسن الاحتياط لنفسه، فهو بعد أن أنكر الخيال على أبي العلاء عاد فأثبت له منه حظا قليلا. ولكنه يستطيع أن يخدع بهذا الاحتياط قارئا غيري، أما أنا فلن أنخدع له، فهو ينكر على أبي العلاء أن يكون شاعرا عظيم الحظ من الخيال في رسالة الغفران، (سنة سودة) كما يقول العامة. وهل يعلم العقاد أن دانتي إنما صار شاعرا نابغة خالدا على العصور والأجيال واثقا من اعجاب الناس جميعا بشيء يشبه من كل وجه رسالة الغفران هذه. استغفر الله ان من الأوروبيين الآن من يزعم أن شاعر فلورنسا قد تأثر بشاعر المعرة قليلا أو كثيرا".

    العقلانية..والفنية!

    والسؤال هو: ما مدى التوفيق الذي أصابه كل من العقاد وطه حسين في فهم رسالة الغفران؟ هنا نموذج لامكانية الصدام بين الطبيعة العقلانية للعقاد والطبيعة الفنية لطه حسين. ومهما يكن الأمر فان طه حسين فنان مفكر أكثر منه مفكرا فنانا، بينما العقاد مفكر فنان أكثر منه فنانا مفكرا. وأقرب الأشياء إلى الطبائع أن يفهم العقاد ما يعجز عنه طه حسين، مهما كانت الصلة النفسية والروحية بين طه حسين وأبي العلاء المعري. بل انى كثيرا ما أشك فى فهم طه حسين لأبي العلاء، وبالذات لرسالة الغفران، مع أن رسالة الغفران ـ وفي احدى فقراتها على التخصيص ـ تشكل المنبع أو الأصل الذي استقى منه طه حسين فكرته فى كتابه الشهير "فى الشعر الجاهلى". ومن السذاجة أن يُؤخذ عمى طه حسين واشتراكه معه فى محبسه أو محبسيه دليلا على قدرة طه حسين فى فهم أبي العلاء، فقد يشترك اثنان في عاهة دون أن يشتركا في الفكر.
    إن قراءة واحدة لكتاب "صوت أبي العلاء" لطه حسين تدلل على أنه أبعد كثيرا من أبي العلاء فى الفكر وفي الطبيعة وفي الآفاق. لم يكن إذن طه حسين بأقدر على فهم أبي العلاء من العقاد العقلاني. ولا يمكن تخيل أن العقاد أخطأ فهم رسالة الغفران حيث نجح طه حسين. وفهم رسالة الغفران بالذات يحتاج إلى الطبيعة العقلانية لدى العقاد أكثر منه إلى الطبيعة الفنية لدى طه حسين، مهما كان القرب المزعوم لطه حسين من أبي العلاء المعري. على أن العقاد باعتراف طه حسين ـ لم ينكر تماما الخيال في رسالة الغفران، وانما أثبت لأبي العلاء ـ على حد تعبير طه حسين ـ حظا منه. إنما أنكر فقط أن تكون نفحة من نفحات الوحي الشعري، وهى فعلا ليست نفحة من نفحات الوعي الشعري التى يفتن فى تمثيلها، أي ليست مسرحية كما أنها ليست قصة أو رواية. ولكن العقاد فى تعليقه الموجز على رسالة الغفران لم يقل لنا إذن ما هي. إنها ليست قصيدة من القصائد الكبرى (التى يفتن فى تمثيلها الشعراء)، وليست قصة. نعم، ولكن يا استاذنا العقاد ما هى وما عساها أن تكون؟ هنا، كأنما اتفق العقاد مع نفسه على الصمت الذى اتفق عليه داعي الدعاة وأبوالعلاء أو المؤرخ ياقوت لأسباب فى نفس العقاد أو في نفس أبي العلاء أو في نفس ياقوت أو فى نفس يعقوب! فما عساها تكون بواعث هذا الصمت؟

    بواعث الصمت

    لم يكن العقاد عاجزا عن الرد على طه حسين، خاصة وأن طه حسين أخطأ فهم العقاد وقوله مالم يقل. إذن لابد أن تكون بواعث الصمت لدى العقاد أقوى من بواعث القول والاضافة والشرح تماما، كبواعث الصمت لدى أبي العلاء، خاصة إذا تذكرنا أن أبا العلاء لم يكن يناقش داعي الدعاة بقدر ما كان ينسحب من المناقشة خطوة بعد خطوة فى كل مرة تجددت الرسائل بينهما. يريد للمناقشة أن تنتهي ويريد لنفسه النجاة من الفخ المنصوب له ـ فيما كان يُظن ـ ويريد لداعي الدعاة أن يتركه وحاله وألا يجره إلى حديث لا تُحمد مغبته خاصة وأن الظاهر أن داعي الدعاة قد أحسن فهم أبي العلاء. والدليل على ذلك أنه يخاطبه بقوله فى رسالته: "فاذن هو ـ حرسه الله ـ بمقتضى هذا الحكم مرتو من عذب مشرب هذا العلم وانما ليس يبوح به لضرب من ضروب السياسة، والدليل على كونه ناظرا لمعاده سلوكه سبيل العيش بالتزهد وعدوله عن الملاذ من المأكول والمشروب والملبوس وتعففه عن أن يجعل جوفه للحيوان مدفنا، أو أن يذوق من درها لبنها، أو يستطعم من طعام استُكدت عليه فى حرثه وانشائه".
    هذا الضرب من ضروب السياسة الذي أشار إليه داعي الدعاة يدلل ـ كما قلت ـ على أنه أحسن فهم لغز أبي العلاء في "رسالة الغفران" أيضا وإن كان الحديث يجرى عن لزوم ما يلزم. وهو باعث الصمت الذى اتفقا عليه في النهاية، وهو نفسه باعث الصمت لدى أبي العلاء، وهو أخيرا السبب فى حرمان الأدب العربي من خصومة ثرية كان يمكن أن تنشأ بين العميدين العقاد وطه حسين. لقد استطاع طه حسين أن يتكلم باستفاضة فنية، حيث عجز العقاد عن الكلام فى دروب السياسة التى تفتحها أمام القاريء ـ وخصوصا قاريء كالعقاد ـ رسالة الغفران. إذن فقد هرب العقاد من المناقشة كما هرب أبو العلاء مضطرا، لا عن عجز، والدليل على هذا رد أبي العلاء حين يقول مخاطبا داعي الدعاة: "قال العبد الضعيف العاجز أحمد ابن عبد الله بن سليمان: أول ما أبدأ به، أني أعد سيدنا الرئيس الأجل المؤيد فى الدين ـ أطال الله بقاءه ـ ممن ورث حكمة الأنبياء، وأعد نفسي الخاطئة من الأغبياء.
    وهو بكتابه إلى متواضع، ومن أنا حتى يكتب مثله إلى مثلي؟! مثله فى ذلك مثل الثريا كتبت إلى الثرى. وقد علم الله أن سمعي ثقيل، وبصري عن الأبصار نقيل. قُضى على وأنا ابن أربع، لا أفرق بين البازل (الجمل إذا استكمل الثامنة) والرُبع (الفصيل الذي ينتج في الربيع)، ثم توالت محني، فأشبه شخصي العود المنحني، ومنيت في آخر عمري بالإقعاد، وعداني عن النهضة عاد.
    وأما ما ذكره سيدنا الرئيس الأجل المؤيد في الدين، فالعبدُ الضعيفُ والعاجز يذكر له مما عاناه طرفا، فأقول:
    إن الله جلت عظمتُهُ حكم على بالإزهاد، فطفقت من العُدم في جهاد، وأما قول العبد الضعيف العاجز: غدوت مريض العقل والدين فالقني..، فانما خاطب به من هو فى غمرة الجهل، لا من هو للرياسة علم وأصل".

    عمل سياسي

    رسالة الغفران إذن عمل سياسي قبل أن تكون شيئا شيئا آخر والكلام فيها ضرب من ضروب السياسة وخوض فى صميمها فى كل عصر. ولقد قلت مرارا إنها برنامج سياسي أو خطة عمل، أو بالتعبير الحديث "مانفستو"، ومن هنا خطورتها وخطورة الحديث فيها. ومن هنا أيضا اتفاق كل من داعي الدعاة وأبي العلاء وياقوت على الصمت، ومن هنا أخيرا صمت العقاد عمدا عن الرد على طه حسين وهنا آخرا الفرق بين الطبيعة العقلانية والطبيعة الفنية حين تغلب الأولى الأخيرة أو العكس. وهنا يتجلى ظلم النُقاد للعقاد، وما أكثر المظالم التى تعرض لها العقاد حيا وميتا، ولكن هذا موضوع حديث آخر.
    *******

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    للنشر
    الإدارة
    للنشر


    المشاركات : 3446
    . : ملتقى نور المصباح الثقافي

    كتاب تحت عباءة أبي العلاء / نجيب سرور Empty
    مُساهمةموضوع: رد: كتاب تحت عباءة أبي العلاء / نجيب سرور   كتاب تحت عباءة أبي العلاء / نجيب سرور Icon_minitime07.04.12 1:04

    المقالة السادسة
    حول رسالة الغفران لأبي العلاء المعري

    لا يصح أن نقول: "وُلد أبو العلاء المعري عام كذا، وعاش كذا عاما، ومات في عام كذا"، فالمهم أن الرجل عاش فى النصف الثاني للقرن الرابع الهجري، والأهم أنه شغل الناس فى عصره وما يزال يشغلهم فى غير عصره منذ أكثر من ألف عام وحتى كتابة هذه السطور التى لم ولن تكون الأخيرة فيما يُكتب عن أبي العلاء. عاش عصرا مليئا بالاضطرابات والقلاقل والانشقاقات فى الدولة الاسلامية، مزدحما بحركات التمرد والخروج والثورة، مليئا بالهبات الشعبية الهائجة، حافلا بمصارع الملوك ومصارع الشعراء، ومصارع المفكرين والقادة والرواد، مصطرعا بالمذاهب المتعددة والمختلطة والمتضاربة والمتشابهة والمتناقضة فى جميع أنحاء العالم العربي.
    ماذا بقي له مجالا للاختيار سوى الاعتزال؟
    ولقد استغرقه هذا الموقف، موقف المعتزل، حتى لقد اعتزل الاعتزال والمعتزلين، واستغرق هو هذا الموقف منذ أربعيناته حتى موته فى الثمانينات من عمره. ولم يكل أبدا عن املاء شعره حتى لقد كتب أهرامات من الشعر والنثر ضاع أغلبها أو دُفن معه أو تناقلته الألسن دون أن تدري شعر ونثر من هذا، حتى ضاع أغلب أبي العلاء المعري وأكثر ما أنتجته قريحته مما أشار هو نفسه إليه أكثر من مرة فى مقدمة "سقط الزند" ومقدمة "اللزوميات" ومستهل "رسالة الغفران". ولا يصح أبدا أن يُعامل أبو العلاء معاملة غيره من الشعراء بأن يُقال: "قال أبو العلاء فى الموت" أو "قال فى الخلود" أو "قال فى البعث" أو "الخمر.." وما الى ذلك مما درج عليه نقاده وشراحه. فهو شاعر ليس بالبسيط، انما هو صاحب مذهب متكامل تطرق منه الباب الصحيح، فتدلف الى دهاليز المذهب والى سراديب الفكر البشري فى أعمق أعماقه وفى أرقى تجلياته.
    يأخذ البيت برقبة الآخر والسطر برقبة السطر والشطر يشد اليه الشطر، وهكذا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، ولا مجال هنا للتجزيئية لأنه كما قلت مذهب متكامل البناء قوي الأسس راسخ من المقدمات الى النهايات. أما ما هذا المذهب فتلك قضية أخرى سبق وأن أفردنا لها حديث آخر طويل ومنفرد. أما موضوعنا الآن فهو رسالة الغفران التى دوخت وما تزال تدوخ النقاد والشراح وعلماء الكلام والنحويين والعروضيين. ونحن نزعم انه ما من أحد على الاطلاق استطاع أن يقترب من أبي العلاء ذلك القرب الذي يمكنه من الفتوى فى الرجل أو مذهبه.
    ونحن لا نزعم لأنفسنا هذا الشرف كما لا نزعمه للآخرين انما هي محاولات على الطريق الى أبي العلاء. انما حسبنا أن نلفت النظر الى بعض الظواهر، الى نوعية استشهاداته من أعلام الشعر. قل لى ماذا تختار أقل لك من أنت! وليس غريبا أن يختار أبو العلاء المعري فيمن يختار فى مستهل الرسالة علقمة الفحل وهو شاعر جاهلي عمر طويلا، والموقف الذي كان بين علقمة وبين امريء القيس. ثم ليس غريبا أن يختار أبا زيد، وهو يعني أبا زيد الأنصاري البصري، والثقة فى النحو واللغة كما يلقبه سيبويه. ثم عدي بن زيد العبادي، وهو شاعر جاهلي نصراني والذي يقول:
    أعاذل ما يُدريك أن منيتـــــي
    إلى ساعة في اليوم أو فى ضحى غد
    فذرني فمالي غير ما أُمض إن مضى
    أمامي من مالي إذا خف عـــودي
    وحُمت لميقات إلى منيتــــــي
    وغودرت قد وسدت أو لم أُوســـد
    وللوارث الباقي من المال فاتركــي
    عتابي فإني مصلح غير مفســــد
    ثم يختار أبو العلاء الأُقيشر، ثم أبا نواس، ثم النمر بن تولب العكلي، ثم نُصيب بن رباح أبو محجن الذي يقول:
    أهيم بدعد ما حييت فان مت
    فواحزنا من ذا يهيم بها بعدي
    ثم أحمد بن الحسين المتنبي، ثم أخا ثمالة (المبرد)، ثم أخا دوس (ابن دريد)، ثم يونس بن حبيب الضبي، ثم سيبويه، ثم الكسائي، ثم أبا عبيدة، ثم عبد الملك بن قريب (الأصمعي)، ثم البكري (أعشى قيس)، ثم هوذة بن على، ثم عامر بن الطفيل، ثم زهير ابن أبي سلمى، ثم أبا ذؤيب الهذلي، ثم النابغة الجعدي، ثم لبيد، ثم حسان ابن ثابت، ثم الشماخ معقل بن ضرار، ثم أبا على الفارسي، ثم يزيد بن الحكم الكلابي، ثم حميد بن ثور الهلالي، ثم جران العود النميري الذى يقول:
    حملن جران العود حتى وضعنه
    بعلياء فى أرجائها الجن تعزف
    وقلن تمتع ليلة النأي هـــذه
    فإنك مرجوم غدا أو مسيــف
    ثم الكندي امرؤ القيس..إلى غير ذلك مما يضيق عنه الحصر، حتى شاعر الجن الذى نسبه إلى الجني أبي هدرش الذي يقول:
    حمدت من حط أوزارى ومزقها
    عني، فأصبح ذنبي الآن مغفورا
    وكنت آلفُ من أتراب قرطبـة
    خُودا، وبالصين أُخرى بنت يغبورا
    أزُورُ تلك وهذي، غير مُكـترث
    في ليلة قبل أن أستوضح النـورا
    ولا أمر بوحشي ولا بشــــر
    إلا وغادرته ولهان مذعـــورا
    .... إلى آخره مما لا تشك فى أنه من شعر أبي العلاء نفسه منسوبا إلى الجن، الأمر الذي يذكرنا بترجمة شيطان لعباس محمود العقاد. وقصيدة الجني في رأينا تشكل أروع مفتاح لرسالة الغفران، وفيها يلعب الرجل بالألفاظ اللعبة التي يجيدها فيملأ القصيدة بالألغاز ثم يفسر هذه الألغاز ثم يعود فيغطي التفسير.
    نقطة أحرى نحب أن نستلفت إليها النظر وهى الأبيات التي يستشهد بها من شعر السابقين وطبيعة هذه الأبيات، على أنه ما تزال أشعار العفاريت أخطر ما قاله أبو العلاء فى رسالة الغفران. فهو يتخيل ابن القارح وقد ركب بعض دواب الجنة ويسير، فاذا هو بمدائن ليست كمدائن الجنة، ولا عليها النور الشعشعاني، وهي ذات أدحال وغماليل. فيقول لبعض الملائكة:
    ابن القارح: ما هذه يا عبد الله؟
    المــلاك: هذه جنة العفاريت الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وذُكروا فى الأحقاف وفي سورة الجن، وهم عدد كثير.
    ابن القارح: لأعدلن إلى هؤلاء فلن أخلو لديهم من أُعجوبة.
    المــلاك: فيعوج عليهم، فإذا هو بشيخ جالس على باب مغارة، فيسلم عليه، فيحسن الرد ويقول: "
    العفـريت: ما جاء بك يا انسي؟
    ابن القارح: سمعت أنكم جن مؤمنون، فجئت ألتمس عندكم أخبار الجنان، وما لعله لديكم من أشعار المردة.
    العفـريت: لقد أصبت العالم ببجدة الأمر..فسل عما بدا لك.
    ابن القارح: ما اسمك أيها الشيخ؟
    العفـريت: أنا الخيتعور أحد بني الشيصبان، ولسنا من ولد إبليس ولكنا من الجن الذين كانوا يسكنون الأرض قبل ولد آدم صلى الله عليه...
    ابن القارح: أخبرني عن أشعار الجن، فقد جمع منها المعروف بالمرزُباني قطعة صالحة.
    العفـريت: إنما ذلك هذيان لا معتمد عليه، وهل يعرف البشر من النظيم إلا كما تعرف البقر من علم الهيئة ومساحة الأرض؟ وانما لهم خمسة عشر جنسا من الموزون قل ما يعدوها القائلون، وإن لنا لالآف أوزان ما سمع بها الإنس وإنما كانت تخطر بهم أُطيفال منا عارمون، فتنفث إليهم مقدار الضوازة من أراك نعمان. ولقد نظمت الرجز والقصيد قبل أن يخلق الله آدم بكور أو كورين. وقد بلغني أنكم معشر الانس تلهجون بقصيدة امريء القيس "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل" وتُحفظونها الحزاورة فى المكاتب، وإن شئت أمليتك ألف كلمة على هذا الوزن، على مثل: *منزل وحومل* وألفا على ذلك القري يجيء على *منزلُ وحوملُ* وألفا على *منزلا وحوملا* وألفا على *منزله وحومله* وألفا على *منزلُه وحوملُه* وألفا على *منزله وحومله* وكل ذلك لشاعر منا هلك وهو كافر، وهو الآن يشتغل فى أطباق الجحيم.
    ابن القارح: أيها الشيخ، لقد بقى عليك حفظك.
    العفـريت: لسنا مثلكم يابني آدم، يغلب علينا النسيان والرطوبة، لأنكم خلقتم من حمإ مسنون، وخُلقنا من مارج من نار.
    ابن القارح: أفتمل على شيئا من تلك ألأشعار؟
    العفـريت: فإذا شئت أمليتك ما لا تسقُهُ الركاب، ولا تسعه صحف دنياك.
    ابن القارح: (لنفسه) لقد شقيت فى الدار العاجلة بجمع الأدب. ولم أحظ منه بطائل..ولست بموفق إن تركت لذات الجنة وأقبلت أنتسخ آداب الجن، ومعي من الأدب ما هو كاف، لاسيما وقد شاع النسيان فى أهل ادب الجنة، فصرت من أكثرهم رواية وأوسعهم حفظا، ولله الحمد".

    واضح أن أبا العلاء هو نفسه "الخيتعور"، وهو نفسه في هذا المشهد ابن القارح، وواضح أن ثقافته الموسوعية النادرة حتى فى علم الهيئة وعلم الحساب تسخر من مثقفي عصره ومن علماء الكلام ومن النقاد والشراح.
    إن الحديث عن أبي العلاء حديث يطول فإلى عودة مع أبي العلاء الذي يقول، ولطالما اتهم بالتشائم ظلما:
    لو قيل لم يبق سوى ساعة
    أملت ما تعجز عنه سنـة
    *******



    المقالة السابعة
    بين هوامش الغفران

    (1) سؤال عن ابن القارح:
    لا يوجد عمل فى أدبنا العربي على اطلاق تحار فيه العقول كما تحار في "رسالة الغفران" لأبي العلاءالمعري. وأكثر من هذا ابتعاثا للحيرة الدوافع التى دفعت رجلا كأبي العلاء إلى أن يكتب مثل هذه الرسالة الالغازية الى رجل كابن القارح. فمن هو ابن القارح؟

    ان أبا العلاء نفسه يحدثنا بأنه يعرف ابن القارح معرفة سطحية حين يقول: "..وأول ما سمعت بأخبار الشيخ من رجل واسطي يتعرض لعلم العروض، ذكر أنه شاهده بنصيبين وفيها رجل يُعرف بأبي الحسين البصري، معلما لبعض العلوية، وكان غلام يختلف اليه يُعرف بابن الدان، وقد اجتاز الشيخ ببلدنا والواسطي يومئذ فيه. وقد شاهدت عند أبي أحمد عبد السلام ـ رحمه الله ـ كتبا عليها سماع لرجل من أهل حلب، وما أشك أنه الشيخ، وهو لا يفتقر الى تعريف بالقريض، كما قال الطائي:
    تحميـه لألاؤه أو لوزعيتـــه
    من أن يُذال بمن؟ أو ممن الرجل"
    إن أبا العلاء نفسه يشك فيما هو يؤكد أنه لا يعرف ابن القارح معرفة يقينية قاطعة. ثم ان ابن القارح لم يكن بالشخصية الشهيرة المتفقهة فى علوم الدين واللغة والكلام، وما كان لرجل كأبي العلاء أن يكتب مثل هذه الرسالة التى تعتبر أهم ما كتب الى شخصية عابرة لا تتمتع بالصيت القوي فى عصره. فقد كان المعقول أن يكتب مثل هذه الرسالة الى شخصية كشخصية أبي نصر ابن أبي عمران ـ داعي الدعاة ـ لا الى ابن القارح المزعوم. ثم ان ابن القارح يُعرفنا ببدء التعارف بينه وبين أبي العلاء بطريقة أكثر سطحية وأكثر ابتعاثا للقلق والحيرة، وذلك حين يقول في رسالته إن أبا العلاء ذكر اسمه فى مناسبة عابرة حين قال فى ما نقله ابن القارح: "بلغني عن مولاي الشيخ ـ أدام الله تأييده ـ أنه قال وقد ذُكرت له: أعرفه خبرا، هو الذي هجا أبا القاسم على بن الحسين المغربي".
    هذه المعرفة الجادة من جانب أبي العلاء تثير القلق أكثر. ثم ان رجلا كأبي العلاء كانت العيون تترصده وتطارده فيما يكتب أو يقول. ورجلا بهذا الحذر، ورجلا سبق أن سُرق له رحل به رسائل أخرى من ابن القارح الى أبي العلاء، رجلا كهذا وبمرارات أبي العلاء لا يمكن أن ينزلق إلى التراسل المفتوح بينه وبين ابن القارح الذي نحار بين كونه يعرفه معرفة يقينية وكونه يعرفه معرفة سطحية، وبين واقعة أنه كتب رسالة الغفران له بالذات وان أخذت الشكل الشفري الالغازي الغامض التى هي عليه. هو الذي لم ينزلق الى مثل هذا الحوار المفتوح مع داعي الدعاة ولم يستجب لاستفزازاته المتكررة.
    هل ابن القارح شخصية وهمية ألبسها أبو العلاء أفكاره وجسد فيها رؤاه؟ نبادر فنقول لا. انها شخصية حقيقية ولكن الاسم مستعار تختفي وراءه شخصية هامة فى ذلك العصر. انهما يتحاوران أو يحاورها أبو العلاء دون أن يتورط فى كشف النقاب عن وجهها الحقيقي وذلك لظروف سياسية واعتبارات دينية معينة. تُرى من عساها تكون تلك الشخصية؟ نحن نظن، وهذا أغلب الظن، انها شخصية داعي الدعاة نفسه الذي اتفق مع أبي العلاء بعد المراسلة على المساكتة أو الصمت كما يسجل ذلك ياقوت. فمن الملفت للنظر هذه الجدية فى الكتابة الى ابن القارح، ومن الملفت للنظر هذه الطمأنينة والثقة فى الكتابة إليه. ومن الملفت للنظر أن رجلا كأبي العلاء بطبيعته كان شديد الحذر من الناس ومن العصر. ومن الملفت للنظر أخيرا ذكاء ابن القارح فى الرسالة التى وصلت الى أبي العلاء بين رسائل أخرى سرقت ثم رغم ذلك يكتب أبو العلاء رسالته بطريقته الشفرية هذه ممتحنا ذكاء ابن القارح وذكاء من قد تقع بين يديه رسالة الغفران. من هنا شدة صعوبة رسالة الغفران على من يحاول حل ألغازها وفك رموزها وتحليل محتواها.

    (2) سؤال آخر عن حكاية الطفل:
    ورد فى رسالة الغفران ذكر لطفل بما نصه أن التأله، أي التوحيد، غريزة فى الطفل. وورد ذكره فى مطلع رسالة الغفران بطريقة غير مباشرة، كما سبق أن ورد فى لزوميات أبي العلاء وفي سقط الزند. ومن العبث أن نمر بهذه الظاهرة مرورا عابرا، فهو الطفل الذي يريد أبو العلاء أن يربيه منذ المهد كما فعل أفلاطون والفارابي من قبل لكى يحكم العالم. فهل كان أبو العلاء هو الآخر طوباويا؟. إن أفلاطون لم يكتف بأن كتب جمهوريته بل راح يبحث عنها بالعمل السياسي الدائم فى العالم المحيط به، وكذلك الفارابي. نعم لقد مارسوا السياسة قبل وبعد التورط فى الطوباوية. فهل تورط فيها أبو العلاء الذى قال: "انما هذه المذاهب أسباب لجلب الدنيا إلى الرؤساء"..نعم. حتى أبو العلاء كان طوباويا، وراح يبحث فى عصره عن الشخصية التى تتجسد فيها أحلامه وأفكاره ورؤاه فلم يجد فيمن حوله أحد ولم يجد بين المذاهب على الاطلاق مذهبا واحدا يستريح إليه ويهدأ عنده فراح يبحث عن امكانية تربية المستبد العادل أو المهدى المنتظر وذلك منذ نعومة أظفار الطفل. ولذلك جاءت رسالة الغفران خط عمل أو برنامج سياسي لا علاقة له فى الواقع بجنة أو بنار الا علاقة الحقيقة بالمجاز.
    *******
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
     
    كتاب تحت عباءة أبي العلاء / نجيب سرور
    الرجوع الى أعلى الصفحة 
    صفحة 1 من اصل 1
     مواضيع مماثلة
    -

    صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
    للنشر....ملتقى المصباح الثقافي :: فضاءات ..أدبية وثقافية :: مختارات وقراءات أدبية :: عالم الكتب والإصدارات-
    انتقل الى: