أطول رسالة في العالم
قرر نيقولا أن يكتب أطول رسالة في العالم ليقصّ علينا، يوماً بيوم، أفراحه وأحزانه، آماله وأمنياته، وليهدي هذه الرسالة إلى الفتاة التي ستصبح زوجته والتي لا يعرفها حتى الآن، لأن عمره أحد عشر عاماً فقط
ــــــــــــــــ
( " يا حبيبتي "، إنه لمضحك، إذ أدعوكِ شوكس بفاصلة في نهاية الاسم لتحديد الملكية - كما في اللغة الانكليزية - إضافة إلى أن اسم " شوكس " أنيق، أليس كذلك ؟ ! ).
يجب ألاّ نبدأ إطلاقاً رسالة ما بهلالين، أعرف، لكنني فعلت ذلك. من يمنعني سأكتب في هذا الدفتر كل ما أريد، مثلما أريد، ومتى أريد. وسوف أقدمه لكِ يوم زفافنا. ستكون أكبر رسالة في العالم !
إنني لا أعرفك، لكنني، على الأقل، أعلم أنك ستكونين يوماً مازوجتي. لقد قررت أن أكتب لك ابتداءً من اليوم، لكي تعرفي من أنا، الآن، وكل الذي يحدث لي، وأنا لا أزال في الحادية عشرة من عمري.
إذا كانت توقعاتي صحيحة، فأنت قد ولدت، وعمرك يتراوح بين ثماني وعشر سنوات. تذهبين إلى المدرسة، تأكلين، وتنامين في مكان قريب من هنا، أو ربما في أمريكا، سأعرف ذلك في المستقبل.
مازلت أتساءل، في بعض الأحيان عن وجود " إله " يطوف في الفضاء، وينظر إلى الأشياء والكائنات، أو يتأملها فقط. إذا كان الجواب " نعم "، فإنه ربما يراقب كلاً منا في مكانه، وهو يعلم تماماً أننا سنلتقي معاً في يوم من الأيام.
إنني أود كثيراً أن يوجد هذا الـ " إله "، ولكن يصعب جداً علي أن أؤمن به في الوقت الحاضر.
عندما تحدثت مع جدتي عن هذا الموضوع، رمتني بنظرة باردة، وجملة غريبة : " إن الذين لايؤمنون بالله لايملكون خيالاً واسعاً، إن الخيال هو دليل أكيد على وجود الله ! " لوفهمتِ شيئاً من هذا الكلام ياشوكس، اعلميني بذلك عندما نكبر.
إنني، في هذه اللحظة، في غرفتي، حقيبة كتبي جاهزة للغد، وجدي يعتقد أنني نائم.
يعمل جدي في مكتبه، بعد العشاء. في الصباح، نتناول فطورنا معاً، على عجل فور وصول "جوليا"، ثم استقل الباص، مع " نيللي " و " لولو " إبنا الجيران، للذهاب إلى مدرسة " كليرمون ". أنا في الصف السادس. أتناول طعامي في مقصف المدرسة، وفي الساعة الخامسة وعشر دقائق، نأخذ الباص من جديد، لنعود إلى بيوتنا.
إذا كان جدي موجوداً، عند وصولي إلى البيت، يستقبلني، ويطبع قبلة على خدي، ويسألني عن سير دروسي. في المساء، نتناول طعام العشاء منفردين، ونتفرج على التلفزيون الملوّن.
إنني إذ أكتب لك، فلأنني، في الحقيقة، أعاني مشكلة، منذ ثمانية أيام، إنني لا أقدر أن أحكي. لقد بدأ جدي يقلق كثيراً علي، ولكن بلا جدوى. أشعر أنني مغلوب على أمري، وقد قال الطبيب : " إنها الصدمة ! لا تعذب نفسك، سينصلح كل شيء خلال وقت قصير "
وخلال هذه الوقت أناساكت. هذا أمر محيّر جداً، لأنني كنت ثرثاراً جداً، قبل ذلك، ولأن هذا يجعلني حزيناً، فقد كانت جدتي - عندما كانت لا تزال على قيد الحياة - قد أوصتني، وطلبت مني الاهتمام بجدّي، والترويح عنه - بعد ذهابها - أعرف أنها طلبت الشيء نفسه من "جوليا "، لكن " جوليا " لاتبقى معنا طوال الوقت.
لقد توفيت جدتي منذ ثمانية أيام. إنها لن... تعرفك!!
بالتأكيد، قبل أن نتزوج، نكون قد تعارّفنا منذ زمن طويل، وأكون قد شرحت لك لماذا جدي وجدتي هما اللذان قاما بتربيتي. لكنني حين أكتب لكِ تختلط أفكاري. أكلمك، أحياناً، كما أنت الآن، وأحياناً أخرى مثلما ستكونين فيما بعد. وإذا متّ قبل أن أعرفك، فكيف لي أن أعطيك، وأسلمك هذا الدفتر ؟ لن يعرف أحد أنك أنت التي ستصبحين زوجتي في المستقبل. هنا، أفقد صوابي.
ببساطة، كنت أريد أن أقص عليك حكايتي. إن قصتي تؤثر في ّ مثل حكايات الجدات تماماً، أؤكد لك ذلك، لأني أعرفها، وعندي شعور أني قد قرأتها في كتاب، وأتمنى أن تنتهي بعبارة : " وعاشوا سعداء "، ورزقوا بعدد كبير من الأولاد "، وأن تتضح الأشياء، وتنجلي الأمور لي.
أما فيما يخصّني، فلا تتوقعي سماع اعترافات خارقة، ولكنك سترين أني قد دخلت هذا العالم بقدمي اليسرى !
لقد كنت أعتقد أن والديّ متوّفيان، لأن جدتي كانت تجعلني، دائماً، أتلو صلاة صغيرة لهما. كما كنت أعتقد أن حادثاً وقع لهما في قطار، على السكة الحديد.
وكنت أقول لنفسي، دائماً : كان من سوء حظ والديّ أنهما ركبا هذا القطار بالذات " وهذا فقط. ( عندما تكون صغيراً، فإنك لا تسأل نفسك أسئلة كثيرة ).
وحلّ اليوم الذي جاء فيه " آرتوربون " الأبله، ليسألني: لماذا أدعى " نيقولا دولوز " أي : " دولوز "، مثل جدي وجدتي، ومثل أمي، وليس مثل أبي.
لقد تطلب ذلك مني بعض الوقت لأتحقق من أن ذلك ليس شيئاً طبيعياً.
أنتِ تعرفين، هنا، في " برامفان "، كل الناس يعرفون منزل " دولوز " وعائلة " دولوز " وتجرأت يوماً، وواجهت جدتي بهذا الموضوع، فاحمّر وجهها. أكثر من العادة، قليلاً، ثم أمسكت بيدي، وقالت :
- تعال، سنتحدث عن هذا مع جدّك.
لحسن الحظ، لم يكن عند جدي زبائن، فأمكن أن يستقبلنا فوراً، كما لو كنا على موعد مسبق، وجلسنا في مكتبه. بدأت جدتي : " نيقولا، يريد أن يعرف لماذا يدعى " دولوز " ؟ وفهمت أنهم سيعلمونني شيئاً مهماً، فللدخول إلى هذا المكتب، يجب دفع بابين مدروزين بالمسامير، الواحد بعد الآخر. إنه مكان لم يسمح لي إطلاقاً بالدخول إليه بحرّية، بسبب الزبائن.
عطس جدي، ثم أوضح الأمور لي كما يلي :
- " إن هذا بسيط جداً يا نيقولا : إن الطفل عموماً يحمل اسم والده، ولكنه يستطيع أن يحمل اسم أمّه، إذا لم تكن متزوجة. بفضل هذا، كما ترى، عندي حفيد يدعى باسمي، أنت تدعى " دولوز "، لأن أمك كانت تحمل هذا الإسم، وعندما ولدت أنت، لم تكن قد تزوجتْ أباك بعد. وقد حصل حادث القطار بعد ولادتك. وعندما أصير في عداد الأموات، سوف يبقى نيقولا دولوز آخر على الأرض ( إن جدي يدعى أيضاً نيقولا ). هل تريد معرفة المزيد حول هذا الأمر، مادمنا نتحدث فيه ؟ ".
- معرفة المزيد ؟ كلاّ، شكراً ! كنت أستطيع أن أسأل : لماذا والديّ لم يكونا متزوجين ؟ لكن هذا القدر من الشرح كان يكفيني ذاك اليوم. حتى إنني فكرت أنه لم يكن ضرورياً لهذا الحد، الذهاب إلى المكتب، لأسمع أقوالاً بسيطة كهذه، ولم أُعِدْ إلى فتح هذا الموضوع بتاتاً.
قد تعتقدين أن أهلي عاشوا فترة قصيرة من الزمن فقط، أو أنهم بالكاد وجدوا. لكنني، في الحقيقة، لم أكن أفكر بهم كثيراً، حين كنت صغيراً. وبعد ما بدأت أكبر، أمكن أن تتضّح لي بعض التفاصيل الغامضة، وبمحض الصدفة مثلاً، في المقبرة - حيث كنت أذهب، مع جدتي أغلب الأحيان، كان فقط اسم أمي وليس اسم أبي. في البداية ظننت أنه قد دفن في قريته، ثم شيئاً فشيئاً، فهمت ( لا أعرف كيف، صدقيني ) أن أمي أنجبت طفلاً، أي أنا، وأنها توفيت في قطار نعم هكذا، لكن أبي لم يكن عندئذ معها، لأنه لم يكن هناك أب، بكل بساطة ؟ والآن، حتى لو أنني أعرف أنه يوجد بالضرورة أبٌ في مكان ما، كيف تريدين أن أهتم به، بعد كل الذي يجري في البيت. إن جدتي قد توفيت، ياشوكس !
أبي موجود، ولكنني لا أعرف من يكون !
أنا موجود، وأبي لا يعرفني.
آمل ألا يكون شخصاً سيئاً أو أحمق ! وأن يكون بصحة جيدة. هذا كل ما أستطيع أن أفعله لأجله.
إنني أفضل أن أفكر بك على أن لا أفكر به. إن هذا يدخل السرور في نفسي. أستطيع أن أحلم كيف ستصبحين بعد أن تكبري !
شوكس،
انتهيت الآن، من إعادة قراءة مقدمة رسالتي، وأنا خائف من أن تشفقي علي، أو تظني أنني عشت طفولة تعيسة مثلاً، لهذا أود أن أثبت لكِ العكس !
أن ترزق امرأة غير متزوجة طفلاً أصبح أمراً مألوفاً، بالرغم من كل شيء في وقتنا الحاضر.
وإن يقع حادث قطار، هذا ممكن أيضاً.
أن يفقد المرء جدته، هذا أمر عادي.
إنني لم أتألم من شيء أبداً، في حياتي . عدا هذه الأيام بالتأكيد !.
حسناً، ياشوكس، إنني إذ أكتب هذه التوضيحات، فلكي تعلمي أنني عشت دائماً مع جدي وجدتي، وهما لم يكونا أبداً عجوزين، بالرغم من كونهما جدّين، عدا هذه السنة، ربما. هذه السنة السيئة !
لقد حدث ذلك بكل هدوء، الصيف الماضي، بهدوء شديد لدرجة أني لم ألحظه، كانت جدتي تسعل، وكانت تعبة، تعبة كثيراً، وصارت تبقى في سريرها أو مقعدها فترات أطول و أطول. وبدأ الشعر الرمادي يغزو رأس جدي، ولكن، كيف أعبر عن ذلك ؟ إن جدتي كانت دائماً هي جدتي، حتى إني أشعر بالسعادة لأنني كنت أعلم أنني سأجدها في البيت، فور نزولي من الباص، لأنها قبل أن يقعدها المرض، كانت دائماً ذاهبة في اتجاه أو آخر، معها كانت الحياة عنيفة ! لقد كَرِهَت بشدة الخمول والكسل، وحتى الليونة، والميوعة. وأنامثلها، أيضاً على ما أعتقد.
لا أستطيع أن أقول إني كنت متفاهماً معها، أو إني كنت أخشاها، حتى ان هذا السؤال لم يتبادر إلى ذهني. مع جدتي، كان إجبارياً - إذ صح القول أن يسلك المرء سلوكاً حسناً. إذا، كان سلوكي جيداً. حتى إذا كنت لا ترغبين في تذوق طبق من أطباقها، السبانخ مثلاً، فقد كانت تستطيع أن تقنعك بأنه رائع، بسبب الكريما التي تغطيه، أو فتات الخبز المحمصة والبيض المسلوق. بكلام آخر، كانت متحمسة طوال الوقت، وكنت أنا أفعل مثلها، إنها العدوى !
عندما مرضت جدتي، تغيرت حياتنا. كنت أجلس قرب مقعدها، وكنا نثرثر. " جوليا " كانت تحضر لنا " التوست " مع شاي، فأنا أحب الرفاهية، وأحب مشاهدة التلفزيون. كان يسرني أن تكون جدتي لطيفة معي إلى هذه الدرجة، ولم تعد تجبرني على الخروج للعب. على كل حال، ليس لدي أصدقاء هنا، تقريباً. " نيللي " و " لولو " في الصف الرابع، إنهم يصفونني " بالبليد "، والأطفال الآخرون ما زالوا يذهبون إلى المدرسة الابتدائية. أمّا أنا فإنني لا أصفهم بالبلادة، لأنني لا أجرؤ على ذلك.
اليوم، لم تعد لي رغبة في الحديث عن جدتي، بالرغم من أني أفقتدها كثيراً، وسوف أشعر بأنني طبيعي جداً، لو استعدت فقط مقدرتي على الكلام.
في الحقيقة، أستطيع الكلام، ولكن بصوت منخفض. إنني أتكلم بدون صوت مع أنني، يوم الدفن، كنت بحالة طبيعية جداً.
لقد كنا - جدي وأنا - شجاعين جداً، الكل قال ذلك. ولكن، في اليوم التالي، تك! لا صوت لي. وعندما أردت أن أتحدث، أن أصرخ: غير ممكن. كان صوتي " لا يخرج"!
ومنذ ذلك الحين، ألاحظ أن جدي يتألم، يباغتني بين حين وآخر، ويقترب مني بهدوء، دون صوت، ويسألني إن كنت رأيت نظاراته، أو أي شيء آخر أو أنه يغضب أكثر من العادة، إذا تركت دراجتي مرمية في الساحة. أو أيضاً يحدثني بصوت منخفض جداً، وبكل لطف، وأنا لا أستطيع أن أرد عليه إلا هامساً.
أمس، ذهبنا إلى عيادة طبيب مختص، قال إن الحبال الصوتية لم تعد تلتقي. ياللاكتشاف ! إنني أتناول شراباً، وحبوباً، وأشياء أخرى، دون فائدة. لقد أعطاني جدي رسالة للمعلمين:
" أرجو التكرم بقبول عذر " نيقولا "، لعدم قدرته على التعبير شفوياً، بسبب اختفاء صوته ".
إنني أحاول التأقلم مع هذا الوضع. إن الأصدقاء لايهتمون كثيراً بذلك، ولي ميزة إعفائي من التسميع عن ظهر قلب. منذ مدة قريبة بدأوا يعطونني امتحانات كتابية مخصصة لي وحدي، وإذا حدث وفشلت في واحد منها، أشعر أن شخصاً آخر هو الذي حصل على علامة سيئة، وليس أنا. وذلك منذ أن فقدت القدرة على الكلام.
***
يجب أن تتعرفي على الأشخاص الذين يعيشون حولي.
يمكننا أن نرتبهم في ثلاث فئات :
1. أفراد العائلة الذين يعيشون في " سان فلور " أوحولها. إنها على بعد مئة كيلومتر. نراهم، فقط، في العطل.
2. جيران البلدة " برامفان - بوب دودوم ".
3. زملائي في الصف، وأساتذتي.
من الجيران، توجد السيدة " بويار "، هي التي تعطي الأبر في المنزل. ويقول جدي إنها تعرف كل أرداف القرية. وهي أيضاً لها حفيد في باريس ليس له أب. وربما لهذا السبب تحبني كثيراً. . وأنا كذلك.
من العائلة، يوجد العم " جان "، أخو جدتي. إنه يضرط، ويتجشّأ، ويدخن كثيراً، ويقول " عاهرة " و " قواد" ثلاث مرات في جملتين. عنده أحفاد - إنني أعيد أشجار نسب العائلات - " جوجو " و " ليلي " : إنني لا أتفاهم معهما تماماً، لأنهما يخافان من فقدان أغراضهما. وما إن يفقد أحدهما شيئاً، حتى يتشاجرا - ودائماً، يجدان سبباً لإيقاف اللعب، أنت تعرفين هذا النوع من الأولاد.
في الصف، الشخص الذي أكن له إعجاباً كبيراً، هو " أنجلوبورتوليتو ".
" أنجلو " لديه حس العدالة. إنه يضرب فقط من الأمام. هناك أشخاص يستغلون انخناءك للأمام - لعقد شريط حذائك مثلاً - فيركلونك بكعبهم من الخلف، أو تجدين من يسرقون حلوياتك في المقصف، بحجة أنهم يمازحونك ولكن ليس " أنجلو " مثلهم. لقد تم انتخابه ممثلاً عن الصف بالإجماع. وأنا رشحت نفسي أيضاً، لكنني لم أحصل إلا على صوت واحد : صوتي أنا. لقد آلمني ذلك كثيراً، ولم أقص ذلك على جدتي لأني جئت مع " التجميع المدرسي ". _ في المدرسة الابتدائية في " برامفان" كنت دائماً قائد الصف في " كليرمون " لا أحد يعرفني، وتم اختيار " ماريون دوك " مساعدة له. إنها في الحقيقة، تنفع، فقط، لتأخذك إلى غرفة العيادة، وهي تتكبر وكأنها ملكة بريطانيا، بينما " أنجلو " لديه، على الأقل، شيء يقوله في اجتماعات الصف. إنني أود كثيراً أن أكون صديقه.
ومن المعلمين، السيد " دولا هي " هو الأكثر شهرة. إنه عصري جداً، فهو يريدنا أن نتحمل مسؤولية أنفسنا، وأن نصبح مستقلين في كل شيء. إننا نطبق ذلك في حدود ما هو إجباري، وإذا تراخى قليلاً، نعود إلى لا مبالاتنا المعهودة. وبشكل عام، فإن المرء يفضل الثرثرة مع جيرانه في الصف، أو قراءة مجلة القصص المصورة، على أن يرتمي بين الملفات. إنه يرسلنا غالباً للقيام " بأبحاث" في كل مكان تقريباً. حتى الآن، كنت أعتقد أنني أقدّر السيد " دولاهي "، أما الآن فلا أظن ذلك، بعد أن فكرت كثيراً. واعتقد أنني لست من نمطه، إنني أكره العمل مع مجموعة، والخطابة أمام الجميع، والقيام بالتحقيقات. إنني أفضل الكتابة منفرداً بنفسي. لقد كان يقول إنني لا أتكلم بما فيه الكفاية. أما الآن، بعد أن اختفى صوتي، فإنني لا أتكلم إطلاقاً، لقد انتهى الأمر. لا حظي أنه في هذه الفترة قد تغير معي، فهو يتركني وشأني، وكذلك أصبح لطيفاً جداً في معاملته لي.
عندما اكتشفته جالساً خلف مكتبه، بداية السنة الدراسية، قلت لنفسي على الفور : " أعتقد أنني قد رأيت من قبل هذا الشخص، في مكان ما ".. لقد طمأنني هذا، لأنك عندما تدخلين الصف السادس لاتعرفين أي شخص إطلاقاً. ولكنني لم أكن مخطئاً، وفهمت لماذا تألمت عندما قال " أنجلو " : " خذ، هذا مضحك إنك تشبه مدرس اللغة الفرنسية ". لقد تألمت لأن السيد " دولاهي " لم يكن جميلاً جداً، لدينا نوع النظارات نفسه، وهذا كل شيء.
والأساتذة الآخرون مضجرون بدرجة أو بأخرى، حسب الظرف.كل واحد له ميوله المفرطة الصغيرة. فمدّرس التاريخ والجغرافيا يشخر. ومدرس البيولوجيا يداعب ربطة عنقه أو يلوح بها، ومدرس الانكليزية يقص سيرة حياته بالفرنسية، ومدرس الرسم يحك عنقه بقلم ماركة HB، ومدرس الرياضيات يحك رأسه بأصابعه، وأغلبهم يقول : " أليس كذلك " أو " هل هذا مفهوم " مئة مرة في الساعة.
***
إنني لا أسجل تاريخ اليوم عندما أكتب لك. ودعينا لا ننسى أنها الرسالة الأطول في العالم. على كل حال، أنا أكره التواريخ، والساعات. نستطيع أن نعيش بدونها بشكل جيد جداً، إنني أكتب لك عندما أشعر بالرغبة في ذلك.
بخصوص جدتي، لم تجر الأمور بشكل سييء إلى الدرجة التي قد تظنين، مع العلم أن الموت شيء رهيب بحد ذاته.
لقد انتهى بها الأمر إلى أنها لم تعد تخرج أبداً، وفي كل صباح، وكل مساء، كانت السيدة " بويّار " تأتي لتعطيها الحقنة. لديها قبعة مدورة، وثوب بنفسجي، تدق الجرس، وتدخل وهي تقول : " هذا أنا ". إنها هي دائماً، عندما تسمع " هذا أنا " على الباب.
الأربعاء والأحد صباحاً، كنت أبقى في سرير جدتي، للحقنة. وكانت جدتي تقول : " إن جلدي بدأ يتجلط يا سيدة " بويّار "، لقد أصبح يشبه صلصة " البشاميل " المتخثرة.
بعد ذلك كنت آخذ " المحقن " لأقذف به في الماء.
في النهار، كانت جدتي ترتدي ثيابها، ولكنها، شيئاً فشيئاً، صارت ترتدي البنطال بدلاً من الفساتين الجميلة. لقد كانت تتلقى العديد من الزيارات، وكان الناس يتوافدون للبقاء بصحبتها أو لتسليتها. لقد كان ذلك قاسياً على جدتي، لأنها، من جهة، لا تستطيع أن تنكر وجودها في المنزل، ومن جهة أخرى، كانت ترفض رفضاً قاطعاً أن تكون متعبة. أما أنا فكنت أكره الزيارات.
إنني اعتقد أن بعض الاشخاص كانوا يأتون بسبب الفضول.
وصارت فترة بقائها في السرير تزداد شيئاً فشيئاً. ثم وجب أن تذهب إلى المستشفى بانتظام، أسبوعاً كلّ أربعة أسابيع. وبسبب ذلك، قرر جدي أن يتقاعد تقاعداً نصفياً، وانخفض، بالتالي، عدد زبائننا كثيراً. الشيء الجيد الذي كانت تتمتع به جدتي، هو أننا بقينا نأكل داخل المنزل كالسابق. وعدا أنها كانت تتنفس بصعوبة، فإنها لم تكن تشتكي مطلقاً.
كانت دائماً تقول إننا سنذهب إلى " سان فلور " الشهر القادم.
ومنذ ذلك الحين، وهي تكره الذهاب إلى المستشفى. والذي نكّد عليها عيشها أكثر، كان تفكيرها بذلك الأسبوع الذي يسبق ذهابها إليه، والأسبوع الذي يليه، مما كان يسيء كثيراً لصحتها، ويزيد من مرضها.
سوف تسألين نفسك عمّا إذا كان الذهاب إلى المستشفى يستدعي كل هذا التعب.
خلال أيام المستشفى، كان جدي يأتي، ليأخذني من المدرسة، ونذهب لرؤيتها معاً.
وفي إحدى الليالي، عندما وصلنا، كانت تنتقي شعراً مستعاراً، فقالت لي : يا نيقولا، هذا الدواء اللعين سوف يفقدني شعري، لهذا سأضع شعراً مستعاراً منذ الآن، وهكذا ستتعودون عليه.
لقد كانت جميلة بشعرها المستعار، ولكن. ليس كثيراً.
في المستشفى، كنت أتكلم كثيراً، وكنت أتعمد المرح، لأنني لاحظت أن جدي كان يرغب في قراءة الجريدة. إذا جلست اليوم بأكمله، في غرفة واحدة، وحتى مع شخص تحبينه كثيراً، فسوف تجدين نفسك في النهاية لا تعرفين ما الذي ستتحدثين عنه.
وفي المنزل، كان الوضع مشابهاً، كان جدي يسعد عند وصولي إلى المنزل، إذ يتاح له الذهاب إلى مكتبه، لأنه لم يكن يترك جدتي وحدها أبداً.
لقد نقص وزنه كثيراً، هو أيضاً.
حالتي سيئة كثيراً، في هذه الفترة.
لم " أنطق " حتى الآن، ليس لي أية رغبة، إن هذا مريع حقاً.
إن الحياة تسئمني. أجد كل شيء صعباً وقاسياً : النهوض، الأكل، الذهاب إلى المدرسة...
جدي أصبح عصبياً. أمس، صفعني على خدي، لأنه فاجأني. وأنا أتظاهر بأنني " أنازع " على الكنبة. وبعدها قال لي إن حالتي مربكة، ولكن دواء فعالاً تم اكتشافه، وهو علاج ناجح لإعادة الصوت :
أنبوب واحد، وينتهي الأمر : سوف أشفى، أنبوب واحد خلال أسبوع واحد. لكن هذا لم يأت بنتيجة تذكر. بعد ذلك قرر جدي شيئين : فمن جهة علي أن أبدأ إعادة تأهيل، وعلاجاً من جهة أخرى.
الثلاثاء، أذهب إلى المستوصف، بدلاً من الذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية. وهناك، السيدة التي تجعلني أقرأ مقطعاً من الكتاب ذاته، في كل مرة بنبرة مستوية تماماً. أو أيضاً مع نهايات الجمل التي تعلو صوتياً. إنني أنفذ ذلك بصوت منخفض، أما بصوتٍ عال، فمستحيل.
الجمعة، أذهب إلى الدكتور " بالان " أجلس على كرسي، وأقص عليه أحلامي أو أرسم. وهو يقول فقط " آه.. نعم " من وقت لآخر. إنه يريد أن يعرف ما هو رأيي بوالدي . كيف يريد ذلك ؟ ليس لي والدان، إن جدي وجدتي هما والداي. لقد كنت دائماً مسروراً منهما. صحيح أن جدتي لم تكن من النوع الذي يعانقك في السرير، ولكنني أنا أكره أن يقبلني أحد، وخاصة النساء: خدودهن لينة.
جدي يوجه لي لكمات، ويشعث شعري عندما يكون سعيداً، وأنا أقابله بذلك. مع جدي، توجه لنا دعوات كثيرة، وهي بالنسبة لي أصعب من امتحان بسبب مشكلة صوتي. أفضل أن نبقى وحدنا نحن الاثنين. إنني سعيد هنا في المنزل. نشاهد التلفزيون معاً، وهذا يشغلنا. إن الحياة هنا تتكرر، وتعيد نفسها باستمرار.
المنزل هو فقط الذي تغير، لقد أصبح خاوياً، لقد صغر.
وضعت " جوليا " أغراض جدتي، على السقيفة، في خزانة ثم قفلتها بمفتاح. والآن، أتجول في البيت حسبما أريد. أفتح الدروج، توجد قطع قماش. وأصواف، وخيوط، ودانتيلات، في كل مكان. إننا نترك هذه الأشياء في مكانها هنا، لم يتغير شيء، سوى أنها لم تعد تتحرك أبداً.
جدي بخير. لنقل : بوضع جيد، أو أنه ببساطة ليس مريضاً.
إنني أتجول داخل نفسي، كما لو كنت شخصاً آخر. لقد فقدت قوتي وحيويتي.
عندما أفكر في هذا " الصوت " الذي لا يعود، أشعر بالخجل...
إنني لا أعرف ماذا أفعل، يا شوكس.
على الأقل، لا زلت أستطيع أن أكتب لك. ومع ذلك، عند المساء، وفي سريري، أحلم بنفسي، وكيف سأصبح بعد عشر سنوات. أي أنني أحلم بك أنت يا شوكس، وعندها أشعر بأنني أقوى قليلاً، وأكثر صلابة.
عندما نتزوج، سآخذك بين ذراعي، وأمرر يدي في شعرك، على خديك على فمك، وعلى كل جسمك.
إنني أرغب في ضمّك بين ذراعي أكثر من أي شيء آخر.
سوف تكونين جميلة جداً، ناعمة جداً ياشوكس
سوف تكونين مضحكة، سنأكل أطناناً من البطاطا المقلية، وحدنا. وسنذهب إلى البحر بمفردنا، سوف نركب الدراجات، وحدنا . سوف أصحبك للرقص. وسيكون لنا ستة أطفال، مع منزل كبير، في حديقة واسعة، بالقرب من مدينة مليئة بصالات السينما. سوف يكون في الحديقة جدول ماء، وصخرة أتمنى أن نصبح أغنياء، ولكنني لا أعرف، حتى الآن، المهنة التي سأود ممارستها.
ملاحظة : لقد قبلّت فتاة في المدرسة الابتدائية. اسمها ( كاترين )، كانت تعيرني أقلامها، وكنت أقدم لها السكاكر التي آخذها، خلسة، من خزانة جدتي. وفي أحد الأيام، كتبت لها ( كلمة صغيرة )، رسالة حب صغيرة، ووقعتها بالحرف الأول من اسمي، وأعطيتها أياها عند ما خرجنا من الفصل، لجمع أوراق الشجر، لدرس العلوم. لم تقل شيئاً، ولكنها، في اليوم التالي، قدّمت لي ملصقاً رائعاً . وبعد ثلاثة أيام، خرجنا من جديد، لجمع أنواع أخرى، من الأوراق التي تنقصنا، وفي لحظة معينة، كنا متفرقين في الغابة، تعمدت أن أكون معها خلف كومة من الأغصان، وفجأة هجمت عليها، وقبلتها صفعتني وراحت راكضه، وبعدها، لم يكلم أحدنا الآخر أبداً.
ليس من الضروري أن تغاري منها، لم أعد أحبها على الإطلاق.
الآن، أحب أن أقابلك، وأقبلك، ولكن ليس بمثل تلك السرعة.
وبدلاً من أن تصفعيني، سوف تمسكين بيدي، ونمضي معاً.
المشكلة هي أنني لا أعلم إذا كنت جميلاً بلا نظارات. لقد حاولت مراراً أن أنظر لنفسي، على حين غرة، في المرآة، ولكنني لا أستطيع أن أرى نفسي، كما لو كنت شخصاً غريباً.
إن كل شيء فيّ عادي : الأنف، العينان، الفم، الشعر، إنني أتساءل كيف يستطيع الناس التعرف إلي، وأنا عادي إلى هذه الدرجة.
إن شعري ليس مجعداً، ولا يوجد نمش في وجهي، وليس عندي شيء كبير جداً، أو صغير جداً. إنني لست سميناً ولا نحيفاً، شعري كستنائي وعيناي عسليتان. كم أود أن يكون عندي ندبة، أو أي شيء آخر يميزني عن الآخرين، خاصة، في مدرسة " كليرمون ".
هنا، في " برامفان "، أنا " دولوز الصغير " وهذا معناه : حفيد جدي. وجدي شخصية معروفة، وإذن، أنا مثله.
جدتي كانت تقول له دائماً : أنت أنيق جداً. إن جدي يرتدي، دائماً، بزة مع صديري من اللون نفسه، وربطة عنق مناسبة، إنه رائع. وأنا أحب كثيراً أن أتنزه معه، إن هذا يعطيني بعض الأهمية.
جدتي أيضاً، كانت مميزة جداً، أما أنا، فلا أعتقد إنني غير ملفت للنظر. وسوف أحاول أن أعدّل ذلك، عندما أصبح كبيراً. أود أن أصبح لائقاً وجذاباً. لقد فات الأوان لأتمنى أن أصبح نجماً : لست جيداً في الشفهي، وأغني بشكل وسط، لا أعزف على أية آلة موسيقية، غير الهارمونيكا. إن عمي " جان " هوالذي علمني العزف عليها. وعندما أخبرت أستاذ الموسيقا بذلك، لم يبد عليه أنه وجد ذلك مميزاً البتة.
وبالإضافة إلى الهارمونيكا، أصّفر، إنني أعشق التصفير، خاصة الآن، وأنا لا أستطيع الكلام.
عندما أصل إلى " برامفان " مع باص المدرسة، أركض إلى المنزل، وأصفر " دو - فا - مي "، فإذا كان جدي موجوداً، يجيبني بالطريقة ذاتها هو الآخر. وإذا كان غائباً، فهذا لايهم، أصعد إلى غرفتي. وعندما يعود أسمع صوت أقدامه على الدرج، مما يثير في نفسي شعوراً غريباً، لأنه في زمن جدتي، لم يكن يصعد إلى فوق أبداً.
إن سماع وقع أقدامه يجعلني اضطرب. إنني أشعر
يتبع