للروائي العربي صبحي فحماويمراجعة نازك ضمرة / أمريكاصبحي فحماوي يقفز للأمام وللأعلى في روايتة الجديدة المعنونة (الأرملة السوداء) والصادرة عن دار الهلال (روايات
الهلال) المصرية عام 2011.
تُعالج الرواية موضوعاً جدلياً متجدداً في كل زمان ومكان في العالم، ذلك هو العلاقة بين الرجل والمرأة بشكل مطلق، وفي روايته لم يتناول فحماوي حالة فردية كنموذج لتأصيل التجاذب أو التنافر، بل تعامل مع موضوعه معمماً، وعلى لسان السارد العليم بأمثلة مطولة وحكايات لا تنتهي لأصوليات هذه العلاقة وتطورها منذ بدء الخليقة صعوداً أو نزولاً حتى حياة المجتمعات في العالم الحاضر، وعلى الرغم من أنه اتخذ الأرض العربية مكاناً لإثارة المواضيع الحساسة جداً في سكة هذه العلاقة الحتمية بين الرجل والمرأة، لكنه أضاف وبإصرارٍ تطبيقات وقناعات ونماذج من كل مكان في العالم، وربما أراد الكاتب أن تكون هذه الرواية جزءً من الآداب العالمية ومقروءة في كل زمان ومكان.
لا شك في أن المرأة العربية في بلاد العرب ظُلمت في الأساس، بقصد أو دون قصد بسبب إصرار الرجل العربي على التسيّد والأبوة، ثم بفضل تداول التراث والأحكام المنشورة أو المفروضة أو الموروثة جعلت الرجل يحاول أن يظل الحاكم الأوحد في مصير حياة الأسرة، وإنصافاً للتاريخ فإن الإنسان العربي الشعبي، ذكراً كان أو أنثى عانى الكثير من الصفوة والحُكام، وظل هذا الإنسان أداة لتنفيذ مآرب فردية شخصية، فعمَّ التسلط على الرجال عموماً، ونتيجة لهذا الضغط وتلك الفوضى والتخلف الذي شمل جميع نواحي الحياة، برز دور الرجل "السيد" في الأسرة كحاكمٍ مطلق مقلداً ومواجهاً للظروف غير العادلة التي عاشها وعايشها وعاناها، فكانت محصلة الروافع والضغوط ارتدادات وتعديات على المرأة وحسب آراء علماء الاجتماع والنفس، وهناك مثل شعبي يُعبر عن هذا الموقف (من لا يقدر أن يعض الحمار يعض البردعة) وعندما طال صبر المرأة مضطرة واستسلامها صابرة عبر القرون، بدأت تتململ، فلم يبقَ لديها من سند ذكوري أو قانوني أو اجتماعي إلا لجوءها إلى الحيلة والتآمر واستغلال مؤهلاتها الأنثوية في مواجهة سلطة الرجل أو تسلطه، ومن هنا تبدأ رواية فحماوي (الأرملة السوداء) لتكشف لنا الكثير مما نجحت المرأة فيه في قضّ مضاجع الرجل بالانتقام منه وإشقائه، والوصول لمرحلة استغلاله عبر اكتشاف نقاط ضعفه، أي إن بعضهن عرفن من أين تؤكل الكتف!
وأتينا بهذه المقدمة عن تأصيل التراكمات التي أنتجت حكاية (الأرملة السوداء) ومدخلاً للرواية لكشف الكثير من المستور عبر تصاعد التأزمات بها. ولا يفوتنا أن نُضيف أن عوامل حديثة جدت في العقود الأخيرة، ففاقمت تلك العلاقة بين الذكر والأنثى حين تعلمت المرأة وبدأت تعي ماضيها وحاضرها وأهميتها، ومع ظهور المرأة المثقفة التي تعرف حقوقها وإمكانياتها ووسائلها، وتصارع للوصول لمساواتها بالرجل، فظهر كفاحها المبرر وقد نُسميه الصراع على تحييد كل للآخر، أو إظهار أيهما أكثر أهمية أو تسلطاً أو سلطة.
أما في رواية (الأرملة السوداء) نجد أن الوضع مختلف كثيراً عما قرأنا وعرفنا وسمعنا، إذ يجد القارئ أن الرجل هو المسلوب الإرادة، وهو التابع للمرأة في كل المواقف، وإن نماذج الحكاية السردية تُظهر أن المرأة هي المتحكمة في سلوك الرجل بل وفي رغباته ومصيره وحتى في التأثير على عمره، أي أننا نلحظ أن الكاتب يتجه إتجاهاً معاكساً لما جرت عليه أمور الحياة على مدى القرون الطويلة، وبعد نشوء الدول الكبرى أو الإمبراطوريات، فنجد أن السارد يريدنا أن نقتنع بأن المرأة هي سبب النكد الأُسري، وأنها هي التي تُقلل من أهمية الرجل العامل ورئيس الأسرة، وتُعيق إحساسه بالراحة والسعادة. ووجد كاتبنا أمثلة ونماذج كثيرة في الحياة تُثبت وجهة نظر السارد، وكون بطل الرواية وساردها هو مدعي عام (قاضي تحقيق) في محكمة، فهو مثقف ومطلع على أسرارٍ لا حصر لها، بسبب الحالات الخلافية التي تُعرض له يومياً. وعن المشاكل التي تخلق الصدام بين طرفي التجاذب والتنافر. ويزداد هذا الأمر حِدة في المجتمعات العربية كونها ما زالت تتخبط غارقة في معظم أقاليمها بتركات العصور الوسطى وربما القديمة، وتحت تأثيرات تقليدية وتراثية تدعمها نسبة الجهل العالية بمتطلبات التوازن والقناعات الضرورية لتناغم الذكر والأنثى لخلق حياة أفضل لكليهما.
وتبدأ الحكاية بعرض تفصيلي ودرامي عن أحقية الرجل بإعادة السيطرة على المرأة والحياة وقيادتها، بسرد جاذب يجعل الرجل، أي رجل، يتساوق مع بطل الحكاية بقلق وحذر، وخاصة وهو يعرض المثال تلو المثال، والحالة بعد الحالة لاتهام المرأة أنها هي سبب كل بلاء يُصيب الرجل، وأنها المنتصرة في النهاية والمستفيدة من عرقه وجهده وكفاحه. ويصل الأمر إلى تحدٍ سافر للمرأة ولمشاعرها، وحتى يصل الأمر إلى استعدائها كي تتحفز كل امرأة تقرأ الرواية لتحقد على الرجل لأنه يُلقي باللائمة بشكل مطلق على المرأة في كل الظلم الذي يُحيق بالرجل، وأنها بإثباتاته والنماذج التي طالعناها في الرواية تُثبت وجهة نظر السارد، وبالتالي فالمرأة هي الأشدّ تأثيراً على حياة البشر عموماً، ثم إن المستقبل وطبيعة الحياة العصرية يُنبئ بالمصير الأسود الذي ينتظر الرجل، بالتنحي التدريحي عن دور القيادة فالاضمحلال، ثم وبالتالي التناقص فالزوال، فعنصر التصادم موجود في كل مكان به امرأة، وبالتالي النفور والاستعداد لحسم المواجهة المصيرية حاضر بانتصار المرأة في نهاية المطاف......
نقاش طويل ومتكرر متحرك من مكان إلى مكان، ومن موقع إلى موقع، ومن رجل إلى أمرأة، مع توافر نماذج في الرواية حين تُقرر المرأة الدور الذي تريد للرجل. ويتوسع صبحي فحماوي في مسايرة أبطال روايته، والتعايش معهم في المنازل والعمل والبارات والحارات، وسجلات الشرطة والأمن والمحاكم، ويفسح لنا مجالات مثيرة وفوق ما يتوقع القارئ، بل يسمح لهم بحرية الحركة وعقد الاجتماعات واللقاءات، وبسبب الوساوس التي تشغل بال بطل الحكاية "شهريار" وهو دارس القانون ويشغل وظيفة "مدعي عام"، وتردده لدرجة الإحجام عن الزواج لتحامله على المرأة وخشيته من الوقوع تحت سطوتها لكثرة ما شهد من مواجهات خلافية تُسبب المرأة فيها شقاء الرجل، وحتى أخلاقية كانت المرأة هي الرابحة والمسيطرة فيها على المواقف، مما عزز من قناعاته بسوء الظن بالمرأة، متهماً إياها بالتسبب في معظم المصائب التي تحدث للرجال في حياتهم وأسرهم، وتتطور الأفكار في رؤوس أبطال الرواية الذين شاركوا "شهريار" الرأي ووافقوه على الشكوى من المرأة فيؤسسون جمعية لمناصرة الرجل "المظلوم" في الحياة، بمسمى (جمعية حماية الرجل) صفحة 130 من الرواية، بسبب تلاقي قناعة المؤسسين بوقوع كل الكوارث والمسؤوليات على رأس الرجل وحاضره ومستقبله وشخصيته بسبب المرأة، بينما ما على المرأة إلا انتظار تقديم كل الخدمات لها وهي في البيت، تستمتع هي وأولادها بكل ثمر يجنيه الرجل بشقائه وعرقه.
وفي الوقت نفسه تُبين الحكاية بتمهيد مطول مؤثر تحاملاً شديداً من الرجل على المرأة، واتهامها بالأنانية والكسل والوصولية واستغلال حاجة الرجل الطبيعية للجنس أو الحنان، (قتلتيني يا بهيجة.. آآآآخ ذبحتيني يا بهيجة.. آآآخ متّ يا بهيجة، بهيجة هيجة.. ايجة) الصفحة 12 من الرواية، مدللاً على أنانية الزوجة، وأنها لا ترحم زوجها العجوز المتهالك من العمل في تكسير الحجارة، للحصول على دخل يُشبع حاجات أولاده وأسرته الغذائية، وعليه أن يُشبع في الوقت نفسه حاجات جسد زوجته الأكثر شباباً منه، أراد أم لم يكن قادراً ولا راغباً في ذلك.
وتتسلل السلبية إلى قناعة أبطال القصة بأن الرجل مهما فعل وسعى إلى السلام، فالنتيجة أن المرأة تتربع على عرش قلبه في كل مناسبة، ويقع هو في المشاكل والمطبات والعمل الشاق وحتى في السجون.
وأرى أن صبحي فحماوي وُفقً في عرض هذه المشكلة في سرد روائي مثير للنقاش ومناسب لروح العصر، ومستغلاً كل ما جدَّ على العلم والعقل والحضارة والعالم من مبتكرات واختراعات، حتى أن الحكاية حوَت بين ثناياها أخباراً عالمية حديثة كما جاء عن (برلسكوني) الذي ما زال رئيس وزراء إيطاليا حتى كتابة هذه السطور، صفحة 56 من الرواية، ثم الاستنساخ البشري وهي من الأمثلة المعاصرة جداً والتي ساقها السارد العليم، والتي لم تطفُ على سطح الإعلام بشكل جلي إلا قبل سنوات قليلة، لتوصيل فكرته وملخصها أنه يمكن الاستغناء عن الرجل التقليدي، ولدى المرأة البدائل الكثيرة لخلق العدد الكافي من الرجال لسد حاجاتها، أو لخلق المجتمع الذي يناسب أهواء المرأة في جو درامي عاصف مثير للضجة والضبابية.
ونجد أن الراوي العليم في الرواية لا يترك فكرة لأي شخص من أبطال روايته إلا ويعلم دواخلها وما تنطوي عليه نفسيته وأفكاره وحتى يُنطقه كما يريد، وما يجب أن يقوله في كل مناسبة. وربما أراد السارد أن يكون دقيقاً في توصيف الحالة حتى لا يفلت خيط القص منه، لإقناعنا بوجهة نظره، عن طريق التحكم بأقوال وأفعال أبطال الرواية لإجبارهم على سلوك يناسب فكرة السارد العليم عن أنانية المرأة، وهنا نجد تحكما غير مبرر، وحول حداثة الرواية وحرية شخوصها يقول الأديب الكبير عبد الرحمن منيفي في كتابه (الكاتب والمنفى) "يجب أن ترتاد الرواية أفقاً جديداً بأن تُركز كل اهتمامها على الناس العاديين، وإعطاء هؤلاء الناس الفرصة لأن يقولوا همومهم وأحلامهم" ص 71 من الطبعة الرابعة عام 2007، وبرغم هذا التدخل الشديد الإحكام من الراوي العليم إلا إن ذلك لا يُنقص من أهمية الرواية لحُسن اختيار الفكرة، وهو التحدي الواضح للمرأة في هذا الوقت الذي هو فاصل في تطور التاريخ البشري في الشرق، (آسيا وإفريقيا) ثم في توقيت مناقشتها بشكل درامي يُبعدها عن المقالات والأبحاث المملة والتفصيلية. وقد يصل الأمر إلى حد التحامل الجلي من قِبل المؤلف على المرأة لإثارة القارئ الذكوري إستجلاباً لموافقته، أو تحدي المشاعر وخاصة الأنثى في مجتمع ذكوري عربي متصلب: (كانت أم سعد تشرح لابنتها أحاسيس الرجال الذين يندلقون بكل غباء على النساء، فيُقدمون خدماتهم مجاناً من أجل وصال امرأة) الرواية آخر صفحة 50.
وأتى الكاتب على أمثلة كثيرة وفي مواقع عدة من الرواية وأماكن مختلفة من العالم سواء في بادية الأردن وقُراه ومدنه، أو في مصر وأوروبا وأمريكا، ليُدلل على نهم المرأة وشراهتها وكسلها وسلبيتها، واستغلالها لجهد الرجل، مع أن مثل تلك الأمثلة كما يراها كاتب هذه السطور قد يمكن أن تُفسر لصالح المرأة في الوقت نفسه، مثل اعتداء (برلسكوني) على فتاة قاصر (فأيهما المظلوم هنا؟).
ومثال آخر: الرجل الذي يُمارس الخيانة الزوجية، أو يُحاول إغراء امرأة أخرى، أو يُدللها أو يُنفق عليها.. أليس هو الذي يُسبب ترسيخ النزوع للشر في نفسها وتطبيق هذا الحقد على الرجل، ويجعل بعضهنَ مؤهلات للخيانة الزوجية أو التمرد على سلطات الرجل أو التقليل من أهميته، على اعتبار أنه أوقعها في حباله أو صادها..!؟ وقد قرأت مرة، قبل أكثر من أربعين عاماً، قول عالم نفسي واجتماعي إسكندنافي يقول: "الرجل صائد ماهر كسول".
ومع كل هذا فكاتبنا صبحي فحماوي أدخل في روايته الكثير من الحقائق العلمية والإنسانية والنفسية والفلسفية التي توصل لها العلماء والباحثون على مدى التاريخ البشري، بشكل مكثف في بنية النص الروائي، بأسلوب سريع النقلات حتى ليُصبح أي فصل من فصول الرواية، وكأنه مقال اجتماعي أو بحثي، ثم أضاف فهرساً طويلاً في آخر الرواية يُثبت دقة ما أورده وما استند إليه من أدلة في روايته، حسب المواقف التي تطلبت ذلك، ولم يترك الكاتب مناسبة إلا واستغلها لإدخال الإثارة لموضوع روايته، ولجعل النص الدرامي فضفاضاً وأكثر قدرة على احتمال الجدل، ويضع بين يديه خبرات ونتائج تجارب وأبحاث جرت في أماكن مختلفة من العالم، وللأسف مثل تلك الأبحاث والنتائج والدراسات تكاد تكون معدومة في أقاليم الوطن العربي..!
فتناول الكاتب لمواضيع حساسة ومؤثرة ومثيرة للجدل والخلافات، مثل الجنس والسيطرة والعمل والتحفيز والفقر والغنى والراحة والتعب والمال والتآمر، وأثر هذه الأمثلة على توازن المجتمع والأسرة، وعلى إعاقة التقدم واللحاق بركب الشعوب التي سبقتنا في مجال الحرية للمرأة والديموقراطية بما يُقارب ما هو متاح للرجل أو ربما تصل المرأة لأكثر مما لدى الرجل في بعض المجتمعات الأرستقراطية وعالية الثقافة.
أما عنوان الرواية (الأرملة السوداء) ففي رأينا الشخصي أنه لا يتناغم مع مضمون الرسالة التي أراد الروائي توصيلها للقارئ بأسلوب حكائي مثير للجدل في كل صفحة وكل سطر.. نعم إن أنثى العنكبوت تستمتع بالذكر لكنها تقضي عليه كلياً، وتموت هي الأخرى بعد اكتمال شيخوختها قصيرة الأجل حين تُقاس بالنسبة لعمر الإنسان، لكنها لا تتخذ لها زوجاً أو خليلاً جديداً.. وفي حالة الإنسان، نرى أن الأنثى لا تقتل الرجل وتقضي عليه كلياً، بل إنها تقوم في كل النماذج التي وردت في الحكاية على استغلال الرجل لصالحها أو إيقافه عن إيذائها ومحاولة التسيّد عليه في الوقت نفسه.. فكان رأي السارد أن المرأة تعمل على تقزيم الرجل وتنحيته عن الصدارة وإلغاء دوره الفاعل، لتستخدمه هي لصالحها فقط، وكلما احتاجت له حسب رأي السارد في الرواية، ولا تتعجل بالقضاء عليه لتُصبح أرملة ولها الحرية في فعل ما تريد بعد وفاته أو قتله، ومع هذا نعرف إن هناك رجالاً أقوياء مُحصنين ضد متطلبات الأنثى المتطرفة العدوانية والمريضة نفسياً، والصراع يبقى محتدماً وهي تحاول استغلال الرجل في الوقت الذي يحاول الرجل استغلالها، وربما بأسلوب تنافسي، والمقصود أن الإنسان، ذكراً كان أو أنثى، لا يستطيع العيش بسهولة مستغنياً عن الآخر أو يُديم السيطرة عليه، وإن الحياة الطبيعية ليست للبسطاء والضعفاء والكُسالى.. قال تعالى: (((لقد خلقنا الإنسان في كبد، أيحسب أن لن يقدر عليه أحد، يقول أهلكت مالاً لُبدا))) من سورة البلد / الجزء الثلاثون من القرآن الكريم.
ودعماً لما ندعي بعدم مناسبة عنوان الرواية لمحتواها، نرى أن النتيجة لم تكن سوداوية مأساوية حسب العنونة وكما يحصل لذكر العنكبوت في حال زواجه من أنثاه، لكن الحكاية في خواتيمها اتجهت إلى انقلابٍ فكري متأنٍ لكنه إيجابي وعكس عنونة الرواية، وظل التمهيد للتفاؤل جلياً في أواخر الحكاية، معبراً عن بساطة الرجل التوأم التوازني في خلق الله الإنساني الذي يُعمر الكون، فأثرت المرأة في أعضاء (جمعية حماية الرجل) وجعلتهم يقتنعون ويُغيرون أهداف جمعيتهم ببساطة مضحكة مبكية، وكما أفلحت "شهرزاد" (ألف ليلة وليلة) في إشغال "شهريار" التاريخ عن قتلها كما سبق واعتاد على فعل ذلك، سحرته بأن عاش معها مستمتعاً بطلاوة حديثها وصبرها ودهائها، وتُعيد "شهرزاد" رواية (الأرملة السوداء) المشهد مكرراً، مظهرة مدى سذاجة ذاك الـ "شهريار"، وتمنيات الكثيرين وحِرصهم على ضمان بقاء الرجل إلى جانب توأمه أو قرينه المرأة، وأن الحياة على أرضنا لا تستمر ولا تزدهر بصراع الجنسين صراعاً مصيرياً حاسماً وقاتلاً، وهذا العالم لا يستطيع أي مخلوق آخر أن يُعمره إلا الإنسان كاملاً بالرجل والمرأة معاً، وخوف النفر القليل على مصير الرجل لم يكن مبرراً، لأن الله تعالى سيُعيد توازن الطبيعة حتى لو نقص عدد الذكور في منطقة ما، بسبب ظروف الحروب أو الزلازل أو السلوكيات السالبة كمثلية الجنس واللواط، أو أي كوارث أخرى إن غلبت، فيأتي بقوم يخلفون البائدين، وقد أكد الله سبحانه على ذلك في مواقع كثيرة من القرآن العظيم، وأدلة التاريخ ماثلة تملأ الكتب، والآثار تدعم التوثيق، قال تعالى: (((نُذهبكم ونأتِ بخلق جديد)))، وحين يقل الرجال فلن تقف المرأة والعلم مكتوفي الأيدي، فهناك أساليب كثيرة لزيادة النسل وتعويض النقص، كما حصل حين اجتهد الألمان لتعويض ملايين الذكور الذين ماتوا في الحرب العالمية الثانية، ثم قد تلجأ الدول للاستنساخ حين تعدم الوسائل المألوفة الأخرى، وفي حالات الضرورة القصوى، ولكن الهجرة حالياً تُشكل البديل الأرخص للتعويض عن نقص العمالة أو لزيادة أعداد الفئة الأقل.
وعلى الرغم من أن أبطال الرواية الفاعلين والمؤثرين كلهم من حملة الشهادات الجامعية وبتخصصات مختلفة، ومن الطبقة المثقفة والمتوسطة، إلا أنهم اتفقوا في مرضهم النفسي والتهيؤ لفكرة أن مصير الرجل مهدد بالإنقراض، وأهميته تتضاءل مع الزمن، ومع كل هذا جرت الأمور على غير ما قامت جمعيتهم عليه، وهذه الشكوك التي تتسرب في نفس القارئ تجعله يتصارع مع ذاته، أو يضطر لرد مثل تلك الأفكار إلى حالات فردية وتعقيدات وأمراض نفسية.
أعتقد أن الروائي صبحي فحماوي، أراد تجريباً روائياً يقوم على مفاهيم علمية ووثائقية لتوصيل فكرته، فبدلآً من أن يكتب سلسلة من المقالات، أو يؤلف كتاباً في تطبيقات اجتماعية، خلق عملاً درامياً فيه تصادم حاد لدرجة القطيعة بين الرجل والمرأة، ملخصه أن الرجل مظلوم ومهدد بالإنقراض، ثم استدرك بشكل متسرع في تمكين "شهرزاد" بدخولها بطلة مؤثرة بأسلوب متسارع وغير مقنع نوعاً ما، لتنجح في تعديل التطرف الحاصل في عقول من تحاملوا على المرأة، فكانت ناجحة في ثني "شهريار" عن قسوته وإعطائها حق الحياة الطبيعية والجاذبية والحب والتمكن من التعايش مع الرجل، وأوقفت حالة الاستنفار والقلق على مصير الرجل، لا بل وفي النهاية نجد أن "شهريار" بطل الرواية برغم كده واجتهاده للعمل على مواجهة الأنثى حتى لا تقضي على الرجل بأفكارها ونزواتها وبتصرفاتها وتحكماتها، نجد أن الأنثى "شهرزاد" عادت وتحكمت في مشاعره وربما سيطرت على البطل "شهريار" وبسهولة، وكأنه كان مهيأً لذلك، أو علامة فارقة على ضعف استقرار فكره، فأصبح هو الساعي إلى إرضائها، (صار "شهريار" يسبق الأعضاء الإداريين بالحضور مبكراً إلى الجمعية فتقابله السكرتيرة "شهرزاد") الرواية صفحة 188، ويختلط الأمر عليه فيُسلمها زمامه، ويبدأ رحلة التقرب منها، وبالتالي أصبحت المرأة "شهرزاد" هي التي ترسم له الخطط والتحرك ولجمعيته التي أسسها مع مجموعة من المثقفين والأثرياء، حتى أننا لم نلحظ أي تصادم بينها وبين أي من أعضاء الجمعية، ولا بين أعضاء الجمعية أنفسهم، وبسبب وجود الجنس اللطيف والأنثى الذكية بينهم سببت هذا الإنحراف لمائة وثمانين درجة عن الأهداف التي قامت الجمعية عليها، فنجحت بطلة الحكاية "شهرزاد"، وأعادت سيرة نجاح جدتها "شهرزاد" (ألف ليلة وليلة) التاريخية وغيّرت اسم الجمعية، فلم تؤثر على "شهريار" وحده، بل عادت ثانية تقود مجتمع هؤلاء الصفوة من المختصين والخائفين على مصير الرجل من الإضمحلال أو التناقص إلى حد الانتهاء والاستغناء عن وجوده في الحياة، وادعاء فكرة أن الأنثى ستستطيع تخليق العدد الذي يلزمها من الرجال فقط وحسب حاجتها، ودون إعطائه أهمية تُذكر أو تسليمه قيادة حياة الأسرة والمجتمع، أملاً في أن تعود هي إلى سالف مجدها عبر عصور التاريخ القديم حين كانت الآلهات والمرأة هي معبودة الرجل وسيدة الكون والأمة!
ثم إننا نستدل على هشاشة فكرة "شهريار" الخيالية وخشيته من سطوة المرأة، تطور الأمر في النهاية فأصبحت السكرتيرة "شهرزاد" هي الأهم في الجمعية التي أُسست أصلاً لحماية الرجل من الأنثى، وأقتنع "شهريار" القاضي والمحقق والخبير والمثقف الجامعي بكفاءة "شهرزاد" وبشكل محزن يُقارب الاستسلام المبكر، وبالتالي أثبتت هي لحميع أعضاء الجمعية أنها مصدر إلهام وكسبت ثقتهم، فأصبحت هذه الجمعية تُدار فعلاً بأنثى، واستطاعت أن تغيّر فكرة قلق مؤسسيها على مستقبل الرجل وحياته، لا بل بدَّلت هذه الأنثى فكرة الجمعية من أساسها، فبدل تخصصها الأساس والقائم على فكرة مواجهة سلطة الأنثى خوفاً على الرجل، أصبح اسم الجمعية (جمعية حماية الأسرة) أي الرجل والمرأة متلازمين متساويين ومتكافئين بدل متنافسين.
ثم إننا نجد أن السارد نصَّب نفسه الخصم والحكم في الرواية؛ فلم يترك للقارئ أن يتصارع مع نفسه، ويتحاور مع الآخر بحريته، ولأن بطل الرواية "شهريار" هو قانوني قاضي (مدعي عام)، فطبيعة عمله وفكره هي الاستماع للإدعاء والحُجة المقابلة، فكانت الرواية "محاكمة" مكشوفة النتيجة، والمدعي على المرأة وهو "شهريار"، والمدافعة عنها وهي "شهرزاد" يخرجان متوازيين يحتاج كل منهما الآخر، ليُكملا حياتهما الطبيعية.
(وكانت الفرحة الكبرى أن قررا الاحتفال معاً بتخرجهما دكتوراً ودكتورة في مقر (جمعية حماية الإنسان) كانت الحفلة مدهشة وبادرة طيبة، تؤكد تضامن الرجل والمرأة في حياتهما المشتركة) الرواية صفحة 190.
في الختام نجح الروائي صبحي فحماوي في إثارة مثل هذا الموضوع على بساط البحث بأسلوب درامي يخلط بين التراجيدي والكوميدي كمادة جاهزة للنقاش والمتابعة سواء من قِبل الرجل أو المرأة على السواء حين تتداخل أمورهما أو تتعقد، حتى إذا انتقلت العلاقة الودية والمطلوبة إلى علاقات متوترة تصل المحاكم والقضاء، وحسب مضمون الرواية فإن من الممكن حل معظم مشاكل الإنسان بالعقل والفهم والتثقف والتعاون والتوسط والإقناع، وفي النتيجة تدخل محتوى ومضمون هذه الرواية ضمن أدب ما يُسمى المادة التعليمية، بسبب الأسلوب الذي بُنيت عليه.