بعدما سمع أجوبتنا عن رغبات المستقبل البعيد؛ رفع قلمان في يده، أحدهما حبر أسود والآخر رصاص .. نظر نحو الفصل المكتظ بالطلاب، الجميع يتطلع نحوه باهتمام .. كتب على الصحيفة البيضاء بالقلم الرصاص، ثم قلب القلم ومسح الكلمة وقال موجها سبابته نحو العبارة المشطوبة "هذه هي الأحلام" .. ثم رفع قلم الحبر وكتب نفس العبارة فوق حدود الخط المختفية وحاول مسحها فلم تختفي، فأشار إليها "هذه هي الحياة" .. أخذت أنظر نحوه باهتمام لا وعي فيه، الجميع كان ينظر نحوه باهتمام لا وعي فيه، ثمة نبرة ساحرة تجتر في صوته وتُعتم وضوح ما يخرج من فمه .. الأحلام والحياة ؟ ما الذي يفترض بطفل في العاشرة أن يعرف عن الأحلام والحياة ؟ .. أخذت أفكر بقوة ولكنني لم أفهم جيدا، عدت إلى البيت وكتبت الحادثة في دفتر كنت قد أسميته "حينما أصبح كبيرا"، حيث يفترض بي أن أفهم كل تلك الأشياء الغامضة اللعينة .
قلبت صفحة الدفتر ضاحكا فرأيت صورة "المرقب القديم" ملصقة بعناية .. لم أفهم جيدا وجوده هنا، أظن أنني لم أكن أستوعب سبب التقديس لذلك البناء الحقير .
قبل 20 عاما، لم يكن هنالك شيء يثير الاهتمام في المجمعة .. الأوجه المغفلة والمحلات الفارغة والشوارع المكسرة والمباني المتقزمة .. "المرقب" يبدو معلما تاريخيا يفترض به ان يثير الاهتمام، جبل فوقه منارة لعينة متهدمة .. هذه المدينة خلقت لمن بلغ نقطة الاكتفاء .
عندما كنا نخرج أنا وصالح، نجد صعوبة في تحديد وجهة معينة، حيث أن كل الأوجه تنتهي بينما لازلنا نبحث حيثيات القرار، فنركن السيارة على طرف طريق السد المظلم، ونستكمل السهرة بسندوتشات الشاورما اليابسة وسواليف تثير غثاء البعير .
كان لكل منا أحلامه، الجادة والسخيفة، فإن كان هنالك حق لسكان هذه المدينة فهو حق الحلم بأي شيء لعين، فلا يوجد فيها غير الأحلام .
وبعد سنوات حينما ذهبت إلى الرياض للدراسة الجامعية، اكتشفت الشوق إلى تلك المدينة المنزوية في عمق سدير .. تخيَّل ؟! .. لطالما تصورت القدر شبيها بألفريد هيتشكوك، رجل يجمع بين حمق الوجه الساخر وخبث التفكير، حتى أنني أصبحت مع كل مصيبة ألعن هيتشكوك .
مر الوقت سريعا في الرياض حتى تحولت إلى صورة نمطية لم تعد تستطيع مجابهة الشعور الصارم بالملل .. كنا نستأجر الأفلام من محلات الفيديو في البطحاء، الضرب والرفس والرومانسية والانفجارات والضحك والصخب والخيال، شارون ستون وشوارزينجر وستالون وفريد شوقي وسعاد حسني وأمينة رزق، نيويورك وكاليفورنيا ولندن وباريس والقاهرة والفيوم، العالم بأكمله يدور في ذلك الصندوق الصغير، نتطلع فيه بأحلام مختلفة، الجادة والسخيفة، فكما كان الوضع في المجمعة فإن سكان هذه العاصمة المنحطة يملكون حق الحلم بأي شيء، إذ لم يكن يوجد فيها غير الأحلام .
وبعد سنوات حينما سافرت إلى شيكاغو وانكشف العالم الفسيح، شعرت بوخز الشوق الحقير لتلك البقع السافلة، يتسرب باستحياء .. كنت أتذكر طلعات طريق السد بصحبة سندوتشات الشاورما اليابسة، وأسترجع صور سهرات الأربعاء أمام فيلم جديد .. أتذكر "مرقب" المجمعة وبطحاء الرياض، الأوجه الجامدة والشوارع المكسرة والمحلات المبتذلة بشيء من الحنين إلى كل ما كان بسيطا يتبرأ من رومانتيكية أحلامي المخدوعة .
أذكر أنني اطَّلعت في الجامعة على صور لسالم في صغره بجانب إخوته وأخواته، متحلقون في بيت حجري صغير في قلب بريدة، تطوقه أشجار على حواف السور، كان منظرا يثير الروح .. اشتريت كاميرة فوتوغرافية وأخذت ألتقط صورا عشوائية، الحارة والشقة والمسجد وشوارع الرياض وأزقتها، كنت أتوقع العودة إليها ذات حين، ولكنني انجرفت في تيار الحياة الخامل، تيارٌ يسير وسط نهر يصب في مستنقع النسيان .
ولذا كانت النتيجة أطنانا من الذكريات المشوشة .. لا زلت أتذكر بيتنا القديم في حي اليرموك بغرفه وأروقته، بضجيجه وهدوئه، بأثاثه البالي وجدرانه الضاحكة، برائحة الشتاء في أعماقه، وبحرِّ الصيف في أحشائه .. لازلت أتذكر شارع بيتنا الصغير، أشعر بضربات الإسفلت المتحجر في قدمي وأنا أعدو خلف الكرة الطائشة وأسابق الريح .. لازلت أتذكر الحارة، والمدرسة، والمسجد، وجميع تلك الأماكن التي زرتها، ذابت في عمق الزمن كحلقات الدخان في نهار عاصف .
لطالما أحسست بأن الذكريات شبيهة بأغنية سمعتها لأول مرة فأدمنت سماعها حتى مللت منها .. فإذا تذكرتها بعد سنوات أحسست بشيء ينبعث كالروح في داخلي، فأعود إلى مجلداتي المهملة لأبحث عنها، وإذا سمعتها أدركت بأنني لم أكن أبحث عنها؛ بل عن اللحظات التي قضيتها معها .. لم أكن أبحث عن "الشيء" الذي فقدته، وإنما عن "الوقت" الذي فقدته فيه .
أهذه هي أغلب ذكرياتنا ؟ مجرد الحنين إلى الماضي ؟ إلى واقع موازي ؟ .. حتى وإن كان ذلك الماضي عاديا بلا طعم أو رائحة ؟
قلبت صفحة الدفتر المهترئ فوجدت سؤالا آخر لا يقل حيرة في مسخرته الطفولية عن غيره "لماذا أحب الكبدة وأكره المربى ؟" .. يؤسفني القول أنني لا زلت غير قادر على إجابة هذا السؤال .. لازلت لا أفهم لماذا أحب الكبدة، ولازلت أجهل كرهي للمربى .. كيف يقال أنني أختار وفق ذوقي وأنا لا أعرف من هو ذوقي اللعين ومن أين يأتي ؟!
لازلت أتذكر أول مرة أكلت الكبدة في شيكاغو، شعرت بحنين لا يوصف .. تقهقرت 6 سنوات إلى الوراء، وتخيلت نفسي من جديد أجلس فوق كرسي عتيق في بوفيه السعادة مع شلة قسم الكيمياء في جامعة الملك سعود .
حضرت إلى العاصمة للدراسة الجامعية وحيدا، هاربا من بيت يتدثر بالوحدة لا أم ولا أب ولا أخ فيه، قادما نحو العاصمة الثرية بصجتها ولجتها وضجيجها لينتهي بي المطاف مع "عزوز الخبل" في شقتنا البالية الحقيرة، تغرق في رطوبة الشتاء وتطبخ في حر الصيف .
كانت جمعة الشلة في بوفيه السعادة من أهم طقوسي، رغم أنني لم أكن أدرك ذلك حينها .. كنت أضحك كثيرا على اسمه، السعادة لفظ أضخم من أن يطلق على بوفيه يديره بنقالي يبصق في يد ويقلب الكبدة باليد الأخرى .. ولكن يبدو أنني كنت مخطئا، فها هو يقف في ذاكرتي شامخا لا يعبأ باجترار الزمن .
لم أكن أطلب سوى الكبدة .. أجيء أولا، وأجلس على إحدى الكراسي الحديدية المثقلة بتخوم الصدأ، تبارزني الرفض بصرصرة مزعجة وكأنها ملت هدير الصراخ، واكتفت بأنين مكتوم لا يعبر عن الرفض، بقدر ما يعبر عن الألم .
أقلب في الجريدة إن وجدتها، أو أستغرق في مراقبة الآخرين بخمول لا يدرك مرور الوقت، إلى أن يتوافد أفراد الشلة الأربعة .. كان هنالك عبادي، الذي ظل يحلم لسنوات باحتراف كرة القدم رغم أنه أعرج، لينتهي المطاف به معلما لمادة الإحصاء .. وهنالك سالم، من أوائل الذين حاولوا اختراع كاميرة يستطيع من خلالها تصوير الهواء، لينتهي به المطاف محللا في مختبر مستشفى الشميسي .. وهنالك منصور، الوحيد الذي حقق حلمه بالوفاة أثناء تناول كمية هائلة من الحشيش .. وأخيرا يظهر عاصم، الرجل الذي حلم بتكوين إمبراطورية عقار ضخمة تحولت بقدرة قادر إلى محل للتميس .. وفي نهاية الخط أقف بشموخ، الوحيد الذي لم يكن يملك أحلاما محددة عدى حلم العيش في رومانتيكية الحياة الساحرة، لينتهي به المطاف كـ"أخصائي في التحليل الذري المخبري للطاقة البترولية" .. أتحدى "ابن أمه" أن يستطيع شرح هذه الجملة، حتى عندما تطبعها في قوقل يخبرك بأن النتائج المعروضة هي: صفر .. عندما يسألني ابني أحمد: ماذا تعمل يا أبي ؟! أخبره بأنني مدير، فينظر نحوي بحيرة ثم يقول "هل درست 10 سنوات لتصبح مديرا ؟!" حينها فقط أفهم دوافع تلك المرأة التي سلقت أولادها وأطعمتهم للكلاب .
كنا زمرة شباب تضج بحيوية فتية، تبعثرها بعشوائية الغافل .. لم يكن بيننا قواسم مشتركة، غرباء في وطن جديد، يطردون أشباح الوحدة بضجيج الصحبة دون النظر في هويتها .. كانت الغربة هي التي تجمعنا، ولذا استمرت شيئا خاصا بنا، من غيره لن تكون هنالك جمعة في بوفيه السعادة .
كنت أقضي جُلَّ يومي بين جدران الجامعة الحقيرة، عشر ساعات أبذلها في دراسة شيء لا يمت للحياة بصلة، وعندما أعود إلى شقتي أصطدم بحقيقة أنني أسكن مع رجل مجنون يدعى "عزوز"، يشككني أحيانا بأنني أعيش في مشهد من رواية الشياطين لديستوفيسكي .. فعزوز رجل يجب أن يوضع مثالا لاختلال توازن الكون، أقرب التحاليل منطقية في تحليل ماهيته هو أن القدر تشاجر مع الطبيعة ذات مرة فانسلَّ شيء لا تنطبق عليه قوانين الميتافيزيقيا .. هو "عزوز"
كان يدرس صباحا في كلية الطب، ويسكر عصرا في استراحة ابن عمه شماس، وينام ليلا في شقتنا .. ينجح في كل مواده بجودة عالية، لا أحد يعلم كيف .. كان يقف بجانبي ممتلئا بشك مهول ثم يقول "هل تعلم أنني سأقتل أحدا يوما ما إن أصبحت طبيبا ؟!" التفتُّ نحوه بريبة فاستكمل بوعي ثابت "هذه القدرة الخارقة على الموازنة بين الانحطاط والصعود لا يمكن أن تتكلل دائما بالنجاح، ولذا أخبرك كصديق، إذا أصبحتُ طبيبا فلا تراجع عندي، فربما يكون من حظك السيء أن تأتي في تلك اللحظة اللعينة" .. كان قادما من الخرخير، إلا أنه لازال يحمل في أعماقه رعبا مهولا من أمه .. حتى أنه كان يموه شربه للعرق بوضعه في "قوطي لبن"، خوفا مما وصفه بـ"اختلال في تضاريس القدر قد يؤدي بطريقة سينمائية غير متوقعة إلى دخول أمه من هذا الباب" وأشار نحو باب الشقة .. ولذا يجب توخي الحذر دائما .
كان يمثل مادة خصبة للحديث .. لقد خلق ليكون نقطة مركزية، وهو ما كان يسحرني فيه، إذ أنني على النقيض منه كنت محاطا بكل هذه الزوبعة من دون أن أكون جزء فعالا فيها .. فما بين شلة البوفيه وخزعبلات عزوز وملعنة الجامعة؛ مرت الأيام سريعة موقرة بالتقلبات والتغيرات متخمة بصراعات الرغبات واكتشافات الذات .. إلا أنها رغم ذلك تبدو فارغة جدا، أقف فيها موقف المتفرج، لم أكن متورطا في شيء عدى الإصرار على الاستمرار في التذمر والحلم بشيء ساحر مختلف .
ولذا بلغت سُدَّة التخرج معدوم الخطط .. وجدت أمامي عدة خيارات محدودة بلا وعود ثابتة، لم أخطط لأي من هذا، كانت حياتي تسير إلى مستقبل مجهول، في كل مرة كنت أحاول فيها انتزاع احتمالٍ حول ما سيحدث أجد نفسي أتهرب من نقاش ذاتي .
كنت أنظر إلى الآخرين .. عبادي وسالم وباقي الشلة وهم يمضون في تطبيق سلسلة حياتهم كغيرهم، مبرمجة منذ أيام طفولتهم، نظام يسلبهم كثيرا من "حرية" الاختيار، و "يحررهم" من قساوة تجربته وحيرة أسئلته، تبدو حياتهم مباشرة، الارتجال يكون في تفاصيلها فقط، هنالك مساحة لأحلامهم، وهنالك مساحة لحياتهم، لا يوجد تداخل بين المساحتين .
كنت أفكر بأن الناس يعيشون أدوار غيرهم، من يريد أن يكون فنانا يمارس هوية الفنان، ومن يريد أن يكون تاجرا يمارس هوية التاجر، ومن يريد أن يكون عاديا يمارس هوية الجماعة .. لم أكن أعرف ما الذي أريده أساسا لأمارس دور غيري، فضلا عن أنني لم أرد ممارسة دورٍ غير دوري أنا، أريد أن أبتكر لنفسي دورا مفصلا على ذاتي .. كنت منغمسا في ضلال أنني شخص مميز، سأحقق أشياء مميزة، هذا الوهم كان يخنق ضميري حينما أختار مصيرا "عاديا" .. لم أكن أدرك أنني بالفعل "شخص عادي"
لو كنت أعلم أن هذا الصراع سيتمخض بعد سبع سنوات غربة عن "أخصائي في التحليل الذري المخبري للطاقة البترولية"، لكنت حفظت كرامتي بأن لا أصطنع صراعا لا يجب أن يعيشه سوى أناس سيحققون شيئا حقيقيا .. ولكنني لم أكن أدرك ذلك .. كنت أقول لهم بأننا "يجب أن نكون كحالم يعيش في إحدى أغاني فيروز"، وقد كنت فخورا بهذه الفلسفة وكأنني اكتسبت بفضل معرفتها ضمانا بالتميز، غير مدرك بأن الإدراك الفكري العميق لا يحقق بالضرورة نتيجة واقعية .
أرعبتني إمكانات الحرية المشرعة في هذا القرار، ولكنني وجدت أيضا في حريتها جزء كبيرا من الراحة، إذ كنت معدوم الفعل، مركون بهدوء على رصيف الحياة، وتعاسة الإنسان لا تبدأ إلا حينما يُحكم غاياته ويحدد أهدافه، يبدأ بالركض خلفها أينما قادته، منغمس في فوضوية إدراكها .
المضحك في الأمر أن الحيرة تأخذ وقتا أكثر من اتخاذ القرار، إذ يبدو الأخير سهلا حينما تحين ساعته، تطغى عليه العفوية والارتجال .. فما أذكره هو أنني ولسبب مجهول ودون لغط درامي وجدت نفسي أمتطي بساط البعثة .. لا أذكر لماذا، وأشك أنني كنت أعلم لماذا .. ربما لم أجد شيئا آخر ؟ .. مضيت مخلفا ورائي زمرة من الذكريات المكركبة، ولا شيء غيرها .. لم أكن أملك أحدا أو قيدا يربطني هنا .. كنت حرا، حرية كئيبة سوداء .
لازلت أتذكر آخر يوم لي هناك، يوم غريب كالأحلام، ثقيل كالآلام، بطيء وسريع يمر ولا يمر .
كان يبدو للآخرين يوما عاديا كغيره، عصر خميس دافئ، نسائمه صافية تخالطها رائحة العطر الربيعي، أوراق الشجر لم تنفض بعد ما ترسَّب فيها من ماء المطر، والشوارع لازالت تصطبغ به فتلمع حينما يهبط عليها ضوء الشمس الداكنة في صفرتها، ورائحته تنتثر في الهواء كوسوسة المشاعر .. المحلات تفتح مشرعة أبوابها، والناس تسير منشغلة في مجيئها وذهابها، وجدول الشارع الممتد يمتلئ بالسيارات كتيار نهر جارف .
لكن ليس بالنسبة لي .. العالم كان غريبا، أحسست بأن كل شيء من حولي يودعني .. بدت الأشجار والصخور والأوجه والطرقات والأزقة والبنايات والضحكات والمحلات والشمس والسماء والنجوم والهواء هلامية في شاعريتها، تنبض في عمق الكون ..
مضيت أتطلع في كل شيء يدور حولي كالحلم، كصور فوتوغرافية لا تخالطها حركية الزمن .. أدق الحركات وأصغر التفاصيل تبدو لي ثمينة، تكتسب قبسا من جاذبية فريدة لا يمكن إدراك كنهها، نبصرها حينما نشعر بالضعف أمام احتمالية فقدانها، فينكشف لنا العالم الآخر، العالم المضاد لعالم الحس الجامد، لعالم العادة الذي لم يعد ينتبه لهذه التفاصيل .
في شيكاغو استنشقت عبق عطر جديد يتسرب طفيفا من ذلك العالم، أحسست بأن الدنيا خلقت مرة أخرى، وأن كل شيء كان لم يعد موجودا .. لقد عشت وهما جميلا تطاول على الزمن فسرق عاما مر كالحلم، الحب والخيال والجنون والعبث تمتزج في قالب سحري واحد .. لأول مرة في حياتي شعرت "كحالم يعيش في إحدى أغاني فيروز"
سكنت بجانب رجل مجنون يدعى جون فينتو، مكافح شق طريقه ليصبح طالبا في كلية الحقوق .. لا أعلم ما هي قصتي مع المجانين .. كان يسكن مع والدته، المرأة الأكثر قبحا وخساسة في التاريخ الأمريكي الحديث على حد تعبيره، حتى أنه رفع ضدها دعوى قضائية بحجة أنها أورثته قبحها مما سبب له أزمات نفسية حادة، إلا أن قضيته رفضت لنقص الأدلة .. كان جون مصرا بعد تخرجه على استقبال أكثر الحالات صعوبة، ويسمح لنفسه بالتأثر بأفكار موكليه التي تضخ حماسة الإجرام في حياته المستقيمة، حتى أنه اقتحم شقتي ذات مرة ببندقيتين ملقمتين، وطلب مني أن أرافقه للسطو على بنك محلي صغير لتوفير المال لعملية تغيير جنس موكله، الذي فشل بدوره في اختلاس أموال رئيسه ويواجه حكما بالسجن .
شيكاغو بدت بالفعل مكانا ساحرا للعيش، تذكرني بأفلام وودي آلن بكل شذوذها وجاذبيتها وشخصياتها .. الطرقات والفتيات والكاركترات والشواطئ والكافيهات والمطر، كنت كمن يعيش في لذة لا تنقطع، تمتد في لحظة سرمدية تختزل الخلود .
كنت أدرس في جامعة تكتظ بالفتيات .. طوال حياتي لم أشاهد على الطبيعة فتاة واحدة، بينما تعرفت في أول شهر على ستة منهن، حينما تضحك إحداهن يثب طفل ساذج في داخلي، يريد أن يحتضن كل شيء جميل ..
لم أكن أدرك أن المرأة تخلق من جديد، توجد شيئا من العدم .. حينما تعرفت على سوزان شعرت بأن العالم سماء وأرض فقط، وما بينهما فراغ أبدي .. آمنت بالحب والسعادة، آمنت بإمكانية القبض على اللحظة، آمنت بأن الظلام ضوء أسود وأن الحزن طريق للفرح .. كانت فتاة ساذجة تضج ببراءة نقية، تمثل بالنسبة لي تجسيدا خياليا لدورا زوجة ديفيد كوبرفيلد الطفولية .. كانت تملك قدرة هائلة على حب كل شيء والتعاطف مع أي شيء بطفولة خالصة، كنت أعترف لها بأنها أثبتت لي أنني شخص جيد رغم الخطوط الدقيقة الأخلاقية، لأنه لا يمكن لشخص سيء أن يحبها، سيتعب كثيرا في مصارعة براءتها الساذجة .
كنا نلتحف بعضنا في الليالي الباردة، ونفيق على قهوة الصباح الساخنة، ونزهات الشاطئ عند الغروب، وسهرات السينما وجمعات رفقة الجامعة .. العالم بدى خلابا يحتضننا في غشاء رقيق .
مر العام الأول سريعا كالحلم، واجترَّ الثاني شبح العادة فانقبض الموج وانكشف الوهم .. الرغبة العارمة التي ترسم أحلامي في عيش حياة ساحرة ذات عمق عظيم، قد أوجدت بالوهم أشياء كثيرة لم تكن موجودة .. اختلفت شيكاغو كما اختلفت الرياض حينما استُهلكت، وأصبحت مجرد قصة ساحرة تروى في الزمانات .. حتى سوزان؛ أصبحتُ أنظر إليها بفتور، هالة الضوء التي كانت تنبثق منها بدى وكأن أحدا ما قد أطفأها فبهتت، وأضحت مجرد صورة جميلة، وفقدت جميعُ مميزاتها لذة عذريتها فأصبحت تكرارا مملا .. براءتها انكشفت عن غباء وسذاجتها تحولت إلى تجسيد مروع لفكرة العيش مع طفل أحمق .
ذلك العالم الساحر كان موجودا، ولكنه ليس حقيقيا، كالأحلام، خطُّ الرصاص الذي تمسحه الحياة الحقيقية بحبر لا يزول، يذوب في تقادم الأيام كقطرة المطر في النهر الجارف، يستسلم الإنسان لحركة الحياة فتموت فيه روح الفنان .. ولهذا نتأثر كثيرا بالفن، إنه يعيد اكتشاف هذا العالم الغامض لنا في كل مرة لا نستطيع اكتشافه، يشترك مع الدين في شيء واحد يصنع وهم عظمتهما: الحياة مجرد زيف كبير .. الفرق بينهما أن الدين يدعو إلى الإيمان بـ "عالم آخر" ، أما الفن فيحاول البحث عن "العالم الآخر"
وكبيادق الشطرنج، بدأ كل شيء يتساقط، الوهم كقصر سنمار، حينما تسحب حجرا واحدا يتهاوى كل شيء .. أدركت أنني لست شخصا مميزا كما كنت أظن، وبدأ "أخصائي التحليل الذري المخبري للطاقة البترولية" يفرض وجوده ويسيطر على المناطق التي تأبى الاستسلام، المناطق التي لازالت تطمح بالعيش كحالم في إحدى أغاني فيروز .
عدت إلى الرياض في إجازتي السنوية، وسألت ابن عمي أن يطلب من زوجته البحث عن زوجة لي .. وفي ظرف شهر تم الأمر وذهبتُ بها إلى شيكاغو .. كان الزواج إعلانا رسميا بانتهاء حقبة من اللاوضوح، وإقرارا بأنه لا يوجد أحد يعيش في أغاني فيروز .. إنه مجرد حلم يخفف وطأة الجمود .
تذكرت حينها قصة الحبر الأسود في دفتر الأسئلة الحائرة، ما كُتب لا يمكن أن يمسح .. ما كنت أصارع من أجله هو سؤال يائس ينهش الضمير: هل كنتُ مجبرا على كتابة ما كتبت، أم أنني اخترت الكلمة الخاطئة ؟!
قلبت صفحات الدفتر المهترئ بعشوائية .. الكثير من الأسئلة بمختلف الأقلام والألوان، البعض منها يثير الضحك "ما فائدة لبس الطاقية تحت الشماغ ؟ لماذا لا يصيب المرأة الصلع ؟ لماذا لا يوجد أحد في مدينتنا بلا شنب ؟" وبعضها يثير القلق "لماذا نخاف من الظلام ؟ من أين يأتي الخوف ؟ كيف يموت الانسان ؟"
رميته فوق طاولتي بملل كئيب، نظرت ضاحكا بشزر نحو عنوانه الطفولي السخيف "حينما أصبح كبيرا"، مقرا بهزيمتي أمامه .. لم أكن جاهزا للإجابة على أسئلته بعد، لست أعلم حتى الآن ما هي قيمة مرقب المجمعة، ولست أفهم لماذا لازلت أكره المربى، ولا من هو الموت، ولا السبب الذي يمنع وجود رجل في مدينتنا بلا شنب .. لم أكن مستعدا للإجابة، ربما لست كبيرا بما فيه الكفاية .
__________________
أحمد الحقيل