رسالة إلى كرسي مخلوع الذراع
عزيزي الكرسي مخلوع الذراع: تحية لك أيها المرمي في أحد مستودعات هذه المدينة النائمة على وجعها منذ الأزل. نعم تحية لك، فلا رغبة عندي اليوم لأبثّ حديثي إلى بشر. سئمت فعل ذلك حقاً، ولعل قطة تعبر الشارع المجاور، غير عابئة بالخطر المحدق بها، وبمصيرها المشؤوم تحت عجلات مركبة ما، أو فراشة تحط على شباك نافذة في صباح جميل، أو حتى طائر اخطأ طريق هجرته، يفهمون حديثي هذا أكثر من أي مخلوق بشري صلف. ولأصدقك القول أني لم أكن لأفكر بمعاودة الكتابة لولا حاجة تئن في صدري منذ أيام، تجبرني عليها، فقد مرّ وقت طويل جداً لم أجد فيه أي مبرر لأكتب.
عزيزي الكرسي مخلوع الذراع: متى كان الإنسان يملك طباعاً ثابتة؟ وأرجو ألاّ أثير لديك شفقة بما سأكتبه. حقاً، لست بحاجة لها الآن، حتى وإن أخبرتك بأنني للتو مثلاً، عرفت أني لا استطيع العيش في غير ما تعودته نفسي، بمشاعر حزينة، وشعور سلبي تجاه كل شيء. أعرف أن هذا يمكن أن يثير لديك رغبة بالغثيان! بالمناسبة! هل تشعر الكراسي مخلوعة الذارع بالغثيان، أم أنها تعودت حبس أنفاسها، لكثرة ما عبرها من مؤخرات؟
فعلاً، هذا ما أنا عليه أيها الكرسي الطيب، ولا محيط آخر مفتعل ومفبرك يمكن أن يلائمني، رغم أن ما أعيشه مفهوم ومقبول -على الأقل عندي- بل ومركز العالم كما أراه، لكن لم أجرب أن أجد مهرباً من هذا الإحساس مطلقاً، لأنيّ باختصار، لا اشعر بأي عدائية تجاهه.
أخي الكرسي: لا أخفيك بأن هذه المشاعر السلبية والعدائية تملّكت جسدي الساكن هذا، وفكّكت -إلى حد ما- أي صلة بيني وبين روحي، حتى ظننت لوهلة بأني بحاجة إلى أجساد متعددة، تتقاسم تعب هذي الروح، وربما العكس أيضاً.
قد ترغب أيها الكرسي، في طرح سؤال حول ما إذا كنت يوماً أريد التغلّب على إحساسي بوحدتي!؟ سأفترض أنك سألت! وسأجيبك: إنه إحساس جميل حقاً، فلم أسع يوماً إلى بذل ضمانات لأي آخر يوشك الاقتراب مني. لا ضمان لذلك أبداً، إذ سيكتشف هذا الآخر أنه لم يربح شيئاً، كما أنه لم يخسر مطلقاً.
أدركت، يا كرسييّ العزيز، في وقت سابق جداً، للوقت الذي حفظت فيه عدد أصابعي الحقيقية، أنني في حفلة تنكرية. الله وحده يعلم متى تنتهي. لكني -وبمعنى ظاهري فقط- صنعت تلاؤماً زائفاً مع كل فرد من أفراد هذا الوحش الهائل الذي يسمونه "مجتمع"، فتبنّيت أفكار الوحش، وعاداته وأعرافه، وصرت أقول وأتصرف كما يريد رغبة في إزالة أي تعارض بيننا، بل وبنيت جسوراً من الوهم الذي يجوس في رأسه وحده، بأن كل مشاعر العدوانية تلك آلت إلى زوال، ولن تعود.
أرأيت يا سيدي الكرسي، أن لا شيء ينبع من رغباتنا نحن؟ مثلما لم تكن أنت هنا في هذا المكان وحيداً برغبتك، مهملاً، مخلوع الذراع، ويعلو ظهرك الغبار والسأم. إنه مجتمع ينتظر منا أن نفعل ما يريده الآخرون. أن نكون لطيفين، طيبين، مبتسمين على الدوام. ينتظر منا أن نكون عملات صالحة لكل زمان ومكان. أن نكون سلعاً غير مغشوشة. باختصار، إننا ما ينُتظر أن نكونه! فكل شيء محدد مسبقاً كما ترى يا مخلوع الذراع، وما عليك سوى تقمّص ما لا تشتهيه، ما يخالف إرادتك! إرادة! كأني سمعت بهذه الكلمة من قبل؟ لكنني لم أجربها يوماً. حتماً، هي ليست ما تريد أن تمارسه حين تخرج من حجرة الملابس بقياس أكبر أو اصغر من قياسك الحقيقي، لتقول: لا.. هذا القياس لا يناسبني .لا يهم. حقاً، لا يهم، فليست رغبتك أنت في نهاية الأمر، فلم الاعتراض؟
أخي الكرسي العزيز: أبثّ تساؤلي البريء جداً من أية نوايا يمكن أن تحسبها ضدك. إطلاقاً، لا نية سيئة لدي، ولكنني أريد أن اعرف ما إذا كان للكراسي إرادة ورغبات؟ أم تراها مثلنا نحن البشر، أكثر استعداداً للخضوع لإرادة أعلى، وأكثر قبولا لها حينما تحلّ المساءات. ألا ترى، وأنت الكرسي العتيد، أنهم يعقدون اجتماعاتهم في الوقت الذي نكون فيه في أوج تعبنا ويأسنا؟ في الوقت الذي نكون مستعدين للخضوع أكثر من أي وقت آخر؟ هذه حقيقة. حقيقة لا اخجل من قولها بكل تواضع، بل وأعترف بأننا نحن البشر، لسنا سوى مجموعة من الكسحاء الخاضعين. إنها روائع نتفرد بها -كما ترى- وقد امتلأت بها نفوسنا تماماً، كما تمتلئون أنتم بمؤخرات العابرين. هذا ما يجعلنا نتشابه في مصيرنا، فأنت هنا مكسور الذراع في عتمة الوحدة والوحشة، وأنا قبالتك اكتب رسائل منتهية الصلاحية لا يتلقاها أحد.
__________________
منى العبدلي