عمر قويدر
حين كنا صغارا ..!؟
.. حين كنا صغارا و اعمارنا لم تزل بمثابة ورود يانعة اخذة بالتفتح على اغصان شجرة العمر باوراقها النضرة و هي تشرب حبات الندى اللؤلؤي بكل عفيوتها و برائتها الجميلة .. كنا نعود الى المنزل مبكرا قبل غروب الشمس و قد تعفرت ملابسنا و تغبرت وجوهنا برمل الحارات.. نتوجه سريعا و خلسة الى دورة المياه ، فنصب الماء على ارجلنا و ندعك اصابعنا بالصابون المعطر، و نعفر وجوهنا بالماء ، و نمسح على رؤسنا و نسحب عليها بالمشط ، ثم نرتدي بيجامة النوم و نعكف على حل الواجبات المدرسية و تسميع الاناشيد التي تغرس فينا حب الحياة و الوطن .. نواظب على قراءة بعضا من سور القران الكريم .. نتناول طعام العشاء ، و قبل ان يرفع المؤذن صوته للاذان يغشانا النعاس ، فنأوي الى الفراش و قد امتلئت قلوبنا باعشاش العصافير الحالمة التي تروح تزقزق فينا فرحا و طربا و هي تنشد اجمل الحانها على وتر الطفولة الناعم فنغرق في احلامنا الوردية بكل هناءة حتى الصباح .. بلا خوف او ارق او فزع .. بلا صراخ او بكاء .. بلا كدر !!
.. حين كنا صغارا لم يكن يسمح لنا بالنظر الى وجوه الموتى او تقبيلهم ، كان الاباء و الامهات يحرصون كل الحرص ان لا تطال اعيننا اية مشاهد تخدش برائتنا و الصور الحالمة المنطوية في عقولنا ، ظنا منهم ان النظر الى وجه الموتى يجلب صفرة الوجه و هزال العافية و لزوم الرجفة و الخوف حين يتمثل الطفل وجه الميت و قد اغمضت عيناه و تبدل لونه و قد تحول و كانه لوحا خشبيا ممدا !! لم يكن يسمح لنا الذهاب الى المقابر كي لا تقع ابصارنا على تلكم الحفرة الضيقة المعتمة الموحشة وهم يلحدون موتاهم .. فقط و بعد بلوغ سن الرشد .. كانوا يصحبوننا الى هناك كي نقرأ فاتحة الكتاب و نصب الماء على التراب الجاف و نغرس بعضا من الاشتال على جانبي القبر ..
.. كان الاباء يحرصون على عدم قعودنا في مجالسهم ، خشية ان تنزلق بعضا من الكلمات المنفرة او التصرفات الغريبة التي قد تخدش حيائنا و مشاعرنا البريئة ..!
.. كانوا يحرصون على اصطحابنا الى حلقات الذكر و صلاة الجماعة و صلاة العيدين .. كانوا يدربوننا على صيام ايام رمضان و وقفة عرفات و يوم عاشوراء .. يعلموننا اداب الطعام و الجلوس و الكلام و حسن الاستماع .. كانوا يزرعون فينا كل الخصال الحسنة التي تضفي على سلوكنا الحياء و الادب ..
.. كانت قطرة الدم الواحدة تثير الفزع في نفوسنا و اهلينا اذا ما شج احدنا راس قرينه بدون قصد بالكرة المطاطية ، حتى ترتجف القلوب و تبلل الدموع مناديل الامهات و تسارع الجدات بتضميد الجرح بحفة من دقيق القهوة و تشرع في رقيتنا ..!
.. لقد فقد كثير من اطفال هذا الزمان برائتهم و عفويتهم و نعومتهم و ملائكيتهم .. اصبحت طباعهم توصف بالشراسة .. هم ضيقي الخلق .. يتأففون .. يتذمرون .. يشكون ضعفا في بنيتهم الجسدية .. يتبدلون بين الكآبة و الشرود الذهني .. ليس فيهم بلاغة او فصاحة ، ولا يتذكرون وصايا الاهل الا بشق الانفس .. لا يوقّرون احدا .. يشتمون بعضهم بعضا .. مشاكسون ، لا حياء عندهم ، لا يواظبون على دروسهم ، خطوطهم اشبه بالطلاسم .. و تركيزهم ضعيف .. يسمعون نداء الاهل عند الزعيق الرابع .. يقضون اوقاتهم مع اجهزة الحاسوب و امام شاشات التلفاز و هم يتابعون البرامج الهابطة و المسلسلات الماجنة التي تخدش الحياء و تزيد من سوء الخلق .. يأوون الى فراشهم في ساعات متاخرة من الليل .. يعانون ارقا شديدا .. يتخبطون في نومهم .. يستيقظون عند صلاة الظهر .. ينهضون وهم فزعين ، و كأن عفريتا يشدهم من فوقهم و من اسفل منهم .. ذلك بان عقلهم الباطن قد ازدحم بمشاهد الرعب و الدم و القتل بسب الافلام الهجينة و المسلسلات المستوردة .. !!
.. نعم لقد استبد الرعب و الخوف قلوب الصغار البريئة و امتلئت مخيلتهم بالصور القبيحة و هم يشاهدون الجثث الادمية التي تعرض على التلفاز و هي ملطخة بالدماء ، و قد تفرقت اعضائها و راحت تجمع في خرق من القماش و تدفع في سيارات الاسعاف .. لقد احتشت عقولهم بصور الفتك و الدمار و مشاهد الاطفال الذين يموتون جوعا و مرضا و قد تحولوا الى هياكل عظمية تصارع الموت .. لقد ارعبهم و زرع الخوف في نفوسهم صوت المدافع و الطائرات و هي تقصف الشعوب الامنة و من بعدها صور الاطفال و قد تخضبت وجوههم بالدماء و بترت اطرافهم و فقئت اعينهم ..
.. لقد اهملنا بهم كثيرا .. نسيناهم في زحمه الحياة و نحن نلهث بالسعي وراء لقمة العيش .!؟
رمينا بهم باحضان الخادمات الاجنبيات .. اطعمناهم و اسقيناهم و كسوناهم .. و لكننا نضونا عنهم لباس التقوى .. قصرنا في بنائهم خلقا و ادبا .. رحنا نبني كروشا و عمارات ، نبتاع و نشتري سيارات ..
.. كثير من اطفال هذا الزمان يملئهم الحزن والحرمان وقد اغتصبت طفولتهم و غادرتهم الفرحة و قد تحولوا الى ورود بلا رائحة و اغصان بلا أوراق و عصافير بلا أجنحة .. امتلئت مآقيهم بالدمع .. كبروا قبل اوانهم ، و قد تبدلت طبائعهم و قست مشاعرهم و اصفرت احلامهم و قل حيائهم ..
سيكبرون يوما .. و نخشى ان تكبر معهم النقمة و اليأس و السوك السيء ..
فكيف و متى نعيد لهم برائتهم و هدوئهم و عفويتهم و رائحتهم الزكية ..
.. فالنعترف جميعا باننا قصرنا في حقهم و دفعنا بهم من حيث لا ندري الى حافة الضياع ..!
.. كان علينا ان نرضعهم منذ الصغر حليب المحبة و المودة و الرحمة ، كي يقودهم الى العدل و الاحسان و حسن الادب و الخلق .. كان علينا ان نلقي بذارهم في تربة صالحة و نتعهدهم بالاهتمام و التقليم و التشذيب .. ذلك اذا اردنا ان نجني ثمارا عذبة المذاق ..!!
" فالعود ان قومته اعتدل واذا تركته صار من الخشبا ...