بلوم :
انه اسم لأحد ضباط حرس الحدود الصغار الذين ينضحون بالكراهية والعنصرية لكل ما هو عربي ، هذا الثوب العاري الذي ارتداه العديد من قادة الحكم العسكري ، وصنعوا منه سياطاً لجلد المواطنين العرب،خاصة في قرى المثلث الجنوبي كي يتركوا الوطن ويرحلوا ، لأن الحدود لم تكن تبعد عن بيوتهم سوى بضع خطوات ، "بلوم"
هذا سقط في منطقة الوسط ، بين الواقع والخيال ، بحيث تعجز ريشة الرسام عن رسمه ، له الإطار الخاص في نذالته وساديته وحقده ، تتجسد في اعماله وسلوكياته وتصرفاته المجنونة روح "قراقوش" الذي لعنه التاريخ بعد أن اوصل تصرفاته الى حد الخروج عن منطق العقل الى منطق الجهل المجبول بالكره والانتقام .
ان تصرفات "بلوم" تلخص ممارسات واعمال كل ما قام به الحكم العسكري ، وباقي المؤسسات في الدولة التي كانت تغذيه بالعنصرية وتمنحه بطاقات الدخول بفرح وشماتة الى ميادين التعذيب وملاحقة ومطاردة المواطنين العرب .
"بلوم" قد يصلح ان يكون احد رجالات عصابات المافيا لكن الحكم العسكري جعله الآمر الناهي ، المستبد ، المتحكم بأرواح عشرات الألوف من الموطنين العرب ، يسجن ويقتل من يريد ويحد من حرية من يريد وينكل وينتقم ممن يريد دون التقيد بأي قانون يردعه أو يحد من سلطته ، كان هو القانون والقانون هو ، انه بمثابة حاكم عسكري يتجول في القرى العربية ، بين البيوت وبين الحقول والبساتين ، يعترض المواطنين ويصدر الاحكام بحقهم متى يشاء ، مع انه ولد ونشأ فوق ارض عربية هي المغرب ، رضع من ثدي مائها وهوائها وخيراتها ،لكن يجهل كل معاني الإنسانية .
ترك في الذاكرة الفلسطينية قصصاً وحكايات تنزف دماً ومرارة ، صوراً تظهر الاستخفاف المعجون بعقد صهيونية تتمسك بجنون العظمة ودفن كرامة الآخرين .
اخراج القصص من الذاكرة صعب ، لكن الأصعب أن يبقى القلب والذاكرة في حالة نسيان ، ان اعادة النشاط للذاكرة الفلسطينية جزء من كتابة التاريخ ، التاريخ الذي يتسرب الآن من بين الأيدي ، ولا نعلم هل نستطيع الامساك به أم
يسمك بنا الاحفاد غداً وهم في حالات الغضب ويسألوننا ، لماذا مزقتم الصور وتركتم البوم الذاكره فارغاً .
لذلك اسرب بعض الصور لهذا الضابط " القراقوشي " لعل هناك من يتذكر" بلوم " ويضيف صوراً جديدة.
عد النجوم
حدثني العم ابو محمد قصته مع الخواجه بلوم كما عرّفه فقال:
كانت البلد - يقصد قريته - لا تزال في بداية الخمسينات، صغيرة، أزقتها ترابية ضيقة ومتعرجة يخيم عليها الظلام في الليل لانعدام الإنارة بالكهرباء أو أية طاقة ضوئية أخرى .
أضاف أبا محمد ...كنت اسمع عن الخواجة "بلوم" وكيف كان يعترض الناس الآمنين ويعتدي عليهم بدون سبب وبدون رحمة ، لكنني لم أكن اصدق انه يوجد بشر يمكن ان – يكب شره على الآخرين مثل هذا الدون - لقد صدقت القصص والحكايات التي قيلت عنه بعد ان جربت واكتوى جلدي .
كنت كعادتي اصلي كل اوقات الصلاة في المسجد الوحيد في القرية ، وفي احد الايام وكان موسم قطف زيتون كما أذكر ، خرجت من البيت كعادتي بعد ان قلت يا كريم، في طريقي الى المسجد لاداء صلاة العشاء، كان الظلام حالكاً لدرجة انك لو مديت اصابعك قدامك ما شفتها ، وصارت الرجل في الشارع قليلة، والسبب اقتراب موعد منع التجول ، وانت بتعرف انها الناس ما معها ساعات لهذا السبب كانت تنضب بدري وتقعد في بيوتها .
وانا ماشي في امان الله ورايح على الصلاة شعرت بوحشة لأني لم اقابل احد في الطريق ، حتى ان جارنا ابو صبحي انفقد مع انه كان ينتظرني كل يوم عند باب بيته ونذهب سوياً الى المسجد .
بعد ما قطعت دار ابو صبحي أخذت اتحدث مع نفسي ... واحياناً بصوت عال ! قلت وين راحت الناس ما في حدا في الشارع ؟؟ فكرت ارجع للبيت لأني خفت أنو في منع تجوّل وانا معيش خبر ! لكني لم اسمع من ينادي باعلان المنع ، بعدها سألت حالي يا ترى أذن الوذان وأنا معيش خبر؟؟ اسا بنشوف في المسجد .
توقف ابا محمد برهة عن الكلام لأن السعال اجبره على ذلك ، ثم تناول كأساً من الماء وقال بعد ان افرغه في جوفه على ثلاث دفعات ، لا تلومني يا ابني والله اشي بنشف الريق ، اشو بدي اقلك ، ليش خليتني اتذكر الليلة السودة اللي بدي احكيلك عنها ، قلت له معذرة عمي ابو محمد اتحملني .. يجب فضح هذه الجرائم امام الأجيال الحالية والقادمة ، لعل المسؤولين عنها ينالوا عقابهم ، قاطعني ابا محمد بقوله:
املي بالله ان ينالوا عقابهم قبل ما اموت ، ثم استمر في حديثه بعد ان تنهد من اعماقه ، بعد ما قطعت دار ابو صبحي بحوالي مئة متر تقريبا لمحت وانا ماشي ناس واقفين بجنب الحيط ، تأكدت من ذلك عندما اقتربت منهم دون ان احدد ملامح وجوههم او مقاسات اجسامهم او حتى الوان ملابسهم ، كانوا يتحركون كالاشباح لأنهم يتسترون بالظلام ، اديت لهم التحية لأنني ظننت انهم من الجيران او من الحارة على الاقل ، لكن بدلاً من الرد كما امر الله سبحانه وتعالى في سورة النساء : و(اذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها او ردوها) طبقوا المثل اللي بقول اعمل امليح بتلاقي قبيح، بدأ القبيح عندما اقترب مني أحد هؤلاء الاشباح واعترضني بطريقة استفزازية وقال لي " انت لازم يوقف " تيقنت انه عسكري عندما امعنت النظر بملابسه زيتية اللون وسلاحه .. سلاحه كان مدفع رشاش متوسط الحجم ، بسط وجهه حتى كاد يلامس وجهي فشممت رائحته النتنة ، ثم خاطبني بصوت لا يختلف عن فحيح الافعى قال: انا الخواجة بلوم .. هل سمعت به ؟
صمت ابو محمد قليلاً كأنه يريد ان يستمد قوته من جديد ، فطلب المزيد من الماء ، قال : يلعن هذيك الساعة اللي خلتني اشوف هذا المجرم ، لكني والله يا ابني ما خفت منو .. شو .. يعني .. بلوم ..بلوم ما بقطع الراس إلا اللي ركبو ، سألته ماذا اجبته عندما عّرف نفسه بأنه الخواجا بلوم ؟ اجاب ابا محمد في الحال ، قلت له :
أهلاً خواجة بلوم ...شو عاوز؟ هميت بدي امشي حتى الحق الصلاة ، لكنه دفشني في كتفي وسألني هذا الخسيس ، هل انت تعرفني من قبل ؟ قلت له : أنا الصحيح ما بعرفك ولا عمري احكيت معك ، لكنه بدلاً من ان يدعني امشي ، خاطبني بصوت خافت وبلغة عربية مكسرة قال بصيغة سؤال عجيب ومحيّر :
كيف بتقول لواحد مثلي السلام عليكم وانت لم تعرفه من قبل؟ !!اجبته في الحال ؟ كلمة السلام يا خواجة لرب العالمين وليس للعبد ، لم يفهم هذا العلج قصدي لأنه رد علي قائلاً :
مين هذا عبد !! أنت اسمك عبد ؟ معك هوية !!رديت عليه : هلا انا يا خواجة بدون هوية لأني رايح اصلي في الجامع ،لكن بيتي قريب اذا ولا بد سأذهب في الحال لاحضارها .. تسطيع ان تأتي معي للبيت اذا اردت ،لكن قليل الاصل رفض اقتراحي وقال لي :
انت معتقل لانك متسلل سوف نأخذك الآن الى مكان قريب من الحدود ولا اعرف بعدها ايش بصير، يمكن الجنود يقتلوك .
بعد هذا التهديد والترهيب كي يهبط عزيمتي ، انتقل الى فصل الشتم واسماع الكلمات السوقية الرخيصة، الحقيقة ان التهديد والشتائم لم تهمني مثل نزع الحطة والعقال عن رأسي ، واجباري على خلع قمبازي عن جسمي، عندما رآني جنوده الذين كانوا كالكلاب المسعورة يشدون بالسروال والقميص وانا امنعهم ، أخذوا يسخرون مني ، وحاول احدهم فك رباط السروال فضربته على يده ، لقد قاومتهم ومنعتهم من اذلالي ، كان صوتي عالياً لكن احداً من الجيران لم يسمعني .
ربط الانذال ذراعي من الخلف بالقوة بواسطة الحطة وأمرني كبيرهم "بلوم" بالصعود الى سيارة الجيب التي كانت تقف قريباً منهم ، فهمت منهم اثناء مكوثي في السيارة بأنهم كانوا بانتظار اصطياد فريسة أخرى ، لذلك اخذت استدعي الى الله ان لا يمر احد حتى لا يقع بايدي هؤلاء الوحوش .
بعد مضي حوالي ربع ساعة من جلوسي في السيارة وحدي ، انزلوني منها ، توجه لي "بلوم" وقال ؟ سنطلق سراحك في حالة واحدة يا عربي ، قلتله كيف يعني ؟ اشو المطلوب مني !!! المطلوب منك ان تنظر الى اعلى ، الى السماء وتعد الف نجمة من نجوم السماء ... اسمعت الف نجمة!ّ! بعدها بتروح على البيت ، سوف نراقبك ، عليك التطلع فقط الى أعلى ، الى السماء ، إياك تنزل راسك لتحت .
فك الجنود وثاقي ومنعوني من ارتداء القمباز والحطة ، فعلاً صدقت وبدأت بالعد لعل هذا يفك اسري ويخلي سبيلي ، نظرت الى السماء بقدر ما كانت صافية ، كنت أحمل في داخلي غضباً وبركاناً.
بدأت أعد بصوت مرتفع لعل احداً يسمعني ويخلصني من هلورطة ، اثناء العد كنت اسأل نفسي : هل انا عاقل ام مجنون . هل أنا في حلم ولا علم ؟ هل يوجد احد في العالم قادر على عد النجوم .
عندما وصلت الى العدد 150 وانا اشير بأصبع السبابة الى قبة السماء ، اقترب مني السفاح "بلوم" وقف الى جانبي وهمس في اذني ، اسمع اكمل ما طلبته منك ، أنا سأذهب لمقابلة المختار ، سوف يراقبك جنديان من جنودي ، اذا توقفت عن العد راح يضربوك ، لازم يبقى وجهك ورأسك لفوق ، صدقت ان هناك كلبان من كلابه يحرسانني ، قبل ان اسمع صوت محرك سيارة الجيب يعلن مغادرتهم المكان ، قال لي المأفون "بلوم" شلوم عربي .
بقيت اتطلع الى السماء حتى شعرت بدوران في رأسي وغباش في عيوني ، نسيت نفسي والخطر المحدق بي .
نظرت حولي بشكل غريزي ، وما لبثت ان سمعت اناساً يتحدثون مع بعضهم البعض ويقهقهون ، كان صوت جاري ابو صبحي واضحاً ، عندما اقتربوا مني دون ان يعترضهم احد من الجنود ، عرفت انني وقعت في مكيدة "بلوم ".
عندما رآني ابو صبحي سألني ماذا تفعل هنا وحدك يا ابو محمد ؟ لماذا لم تأت لأداء صلاة العشاء ، والله قلقنا عليك ، لم أتمكن من اجابته لأن عضلات رقبتي تيبست ،ما قدرت احرك راسي ، قبل ان احاول اجابته واخباره بما حدث معي ، شعرت بدوران وفقدت توازني وسقطت على الارض .
نقلني ابو صبحي ومن معه الى بيتي ، سمعتهم يتساءلون مين اللي شلحوا القمباز والحطة يا ترى؟؟
رقدت اسبوعاً كاملاً في الفراش دون ان اشكي امري الى أي مسؤول لأن حاكمك ظالمك .