أبطال حكايتنا اليوم هما القط والفأر , وقد قلت حكايتنا وهي ليست بالحكاية , فلتسمها عزيزي القارىء ما شئت أن تسميها , ولكن اعتدنا أن نرى أسماء تلك المخلوقات في الحكايات , لذا تراني بدأت بكلمة ( حكايتنا ) , ولم ولن أغير الكلمة , فأنا أراها حكاية وإن كانت تفتقر إلى العناصر الأدبية للحكاية أو للقصة .
القط والفأر عدوان لدودان لبعضهما البعض منذ أن حملهما نوح عليه السلام في سفينته , وأظنه حينها قد فصل بينهما , وإلا لما وصلت سلالاتهما إلينا , ولو كانا قد التقيا لكان أحدهما أو كلاهما في عداد المنقرضين ,
ومن يوم انتهى الطوفان ونجت السفينة بمن فيها استمرت العداوة بين هذين المخلوقين , ولم تزل قائمة إلى يومنا هذا وأظنها باقية إلا أن يرث الله الأرض وما عليها , وما بعد ذلك فإخاف أن أطلق العنان للتخيلات والتوقعات كي لا أدخل في الحرام والحديث عن الغيبيات ,
أما بنو البشر فلم يكونوا بمعزل عن تلك العداوة , فلقد وقفوا جميعاً إلى جانب أحد الخصوم واتخذوه خليلاً , بينما ناصبوا الآخر الكراهية والبغضاء واتخذوه عدواً , ولا غرابة في ذلك فإن لهم ما يبرر موقفهم من ذلك الصراع , وأنا كأحد أبناء البشر لا أجد حرجاً في إعلان موقفي بكل جرأة وموضوعية , موقفي الداعم والمؤيد لبني القطط والرافض الكاره لمعشر الفئران ومن تبعهم من جرذان ومتجرذنين ,
فبالعودة إلى السيرة الذاتية والطباع المتوارثة لكل منهما نجد ما يلي :
القط : وله مسميات أخرى مثل ( البس والهر ) , هو مخلوق أليف لا يعيش إلا حيث يتواجد أبناء البشر , مخلوق جميل الشكل هادىء الطباع , يمكن ترويضه بسهولة ليكون صالحاً للتواجد في المنازل أو على مقربة منها , يكتفي بأي طعام يحصل عليه , مؤدب مهذب لا يؤذي أحداً ( من البشر ) , ينظف منطقته من الآفات الضارة والمزعجة كالعقارب والصراصير وما شابه , يحب النظافة بشكل غريب على باقي أنواع الحيوانات حتى الأليفة منها , فيقوم بتنطيف جسده بشكل دوري عن طريق وضع القليل من لعابه على يده وفرك أجزاء جسمه بها , وتتجلى نظافته حتى في عملية تخلصه من الفضلات ( اجلكم الله ) , فلا ( يعملها ) إلا في حفرة يصنعها في التراب أو الرمل , ولا يغادر المنطقة إلا بعد أن يدفن ما وضعه دفناً محكماً , وأعتقد أن الكثير منكم قد عاشر القطط ولن يجدوا غرابة فيما أقول , وقد حدثتني والدتي عن قطة عاشت في بيتهم القديم حيث كانت لا تأكل إلا ما يقدم لها في المكان المخصص , وإذا كانت جدتي تقوم بفرم اللحم واضطرت إلى مغادرة المكان للحظات , كانت تنادي القطة وتشير لها أن تحرس اللحم بحركة اعتادت عليها , وبالفعل كانت تغادر والقطة جالسة إلى جوار اللحم تتلفت في كل الاتجاهات وكأنما هي تحرسه , من هنا نتعرف على خصلة جديدة من الخصال الحميدة لهذا المخلوق , ألا وهي الأمانة , ولا يعيبه إن كانت تلك الخصلة مرتبطة بشبعه , فليس من المنطق أن نطالب الجائع المحروم بعدم المساس بأكل شهي وضع أمام عينيه , فصون الأمانة من طباع القطط في الوضع الطبيعي , فالقط قنوع عفيف النفس إن شبع .
بعد هذا المختصر عن أحد طرفي الصراع نقوم بفتح بطاقة التعريف الخاصة بالطرف الآخر .
الفأر : مخلوق دميم الشكل سيء الطباع , يتواجد في العادة كما القط في أماكن تواجد البشر , لكنه لا يتواجد إلا متخفياً متطفلاً , تمتد يده الآثمة إلا كل شيء بالتخريب , لا تستطيع اكتشاف مكان إقامته إلا من خلال فضلاته التي تنتشر بشكل مقزز في بقعة واسعة من مسكنه , أو من آثار الدمار التي تلحق بأي شيء يجده أمامه , فإن وجد بالخزانة وجدت قميصاً ممزقاً أو بنطالاً مقضوماً , وما له وتمزيق الملابس ؟ يقول البعض أنه يستعملها لبناء عشه , ولكن الراجح أن لا تبرير لذلك إلا عشقه للخراب وهوسه في تدمير كل شيء , وإن وجد في المطبخ ( لا سمح الله ) فإنك ستجد فضلاته في الأطباق وأواني الطعام والشراب , وكأنما عرف بمكره أنه في ذلك سيلحق الأذى ببني البشر من خلال إثارة شعور التقزز عندهم ,
نعود من حيث بدأنا لنتحدث عن الصراع وموقف أبناء البشر منه , فلا أظن أنني سأختلف مع أيٍ منكم عندما أبارك وقوفنا إلى جانب القط ونبذنا للفئران , ومن آلاف السنين نجدنا كبشر نربي القط في بيوتنا ونطعمها ونعتني بها , في حين نحارب الفئران بكافة السبل المتاحة ونحاول القضاء عليها , وكم تغنينا ببطولات قط انقض على فأر فسحق رأسه , وكم من تمليسات نالها أحد القطط على فروته لتشجيعه على مهاجمة وكر تتواجد فيها تلك المخلوقات الدميمة ؟ , وكم شعرنا بالحنق والحقد على فأر استطاع الفرار من قط يلاحقه ؟ وكم وكم ..
ظلت قناعاتنا على حالها حتى تنبهت للأمرشركة أمريكية فأنتجت لنا وللعالم بأسره سلسلة حلقات المسلسل الكرتوني ( توم أند جيري ) ومن منا لم يتابعه سرأ أو علانية , إن كنت بالغاً عاقلا وتتابع حلقات المسلسل فلا تخجل , فأنا شخصياً أتابعه , وها قد قاربت على الأربعين ولم أزل أتابعه , لكني اليوم تنبهت لأمر غاب عني سنوات طويلة , كيف استطاع هذا المخرج وذلك الرسام وتلك الشركة المنتجة من تغيير قناعاتي وفطرتي ؟؟
كيف بت أصرخ فرحاً عندما يتلقى القط ضربة من الفأر توقعه أرضاً أو ترميه الى السماء ؟
كيف صرت أشعر بالحزن عندما يتلقى الفأر ضربة على مؤخرته ولو كانت غير قاتلة ؟
كيف صرت أشفق على الفأر وأحس بطيبته ؟ بينما أحس بحقدي وسخطي على القط ؟
كيف صرت أتمنى وأنتظر بفارغ الصبر وصول الكلب الضخم نصير الفأر الضعيف المسكين ليخلصه من الطاغية ؟؟ يا ألهي كيف انقلبت الصورة عندي ؟
بحثت عن منتج العمل فتلاشت حيرتي وابتسمت , وقلت في نفسي يا رجل إنها أمريكا , استطاعت أن تقلب صورأ أكبر من صورة القط والفأر , واستطاعت أن ترسم صورة الجلاد يستغيث , وأن ترسم صورة الضحية يحمل في يده خنجراً يقطر دماً , فهل سيعجزها قلب صورة قط وفأر ؟؟ هل سيعجزها ؟؟؟؟