تتمة...ل
قراءة سورية-آرامية للقرآن-1-
كريستوف لوكسنبرغ
[23] ويُختتَم الباب بتبيان أن المعنى الفني لـكتاب الفصول مازال متضمنًا في كلمة قرآن. لكن الأكثر لفتًا للنظر هو نتيجة مفادها أن مصطلح أم الكتاب، الآرامي الأصل، ينبغي أن يكون الأصل المكتوب وأنه لم يكن في النية على الإطلاق استبدال القرآن بالأصل المكتوب. وقد يحتجُّ بعضهم بأن تفاصيل الحجة في سياق قراءة سورتي يوسف 1-2 وآل عمران 7 قد ضُغِطَتْ في هامشين، لكن الحجة بيِّنة مع ذلك. ويقدم لوكسنبرغ البرهان على أن مصطلح قرآن نفسه هو المفتاح لفهم تلك المقاطع الغامضة التي أسقط في يد المفسرين، من داخل الموروث ومن خارجه، وهم يتناولونها. فإذا كانت كلمة قريان تعني "كتاب الفصول"، وإذا كان النص نفسه يدَّعي أنه توضيح لنصٍّ أسبق، فإن النص الأسبق لا بدَّ أن يكون كُتِب بلغة مختلفة. والمرشح الأوحد في حالتنا هو العهدان القديم والجديد باللغة السريانية، الـبشيتا. من هنا فإن لتأثير الآرامية على عربية محمد أصلاً نصيًّا قابلاً للتحديد. ويقدم لوكسنبرغ في نهاية عمله حجة قوية مفادها أن سورة الكوثر إنما هي تلميح واضح إلى بشيتا رسالة بطرس الأولى 5: 8-9. وبالفعل فإن هذه السورة التي لا يتجاوز طولها الثلاثة سطور من أصعب السور على كلا المفسِّرين العرب والغربيين. ويبيِّن لوكسنبرغ السبب في هذا: لأنها مؤلفة من تدوين بالعربية لنصٍّ من العهد الجديد السرياني، بمعنى أن هذه السورة تكاد لا تحوي كلمةً عربيةً واحدة. إنها نصوص "موحى" بها؛ وبمقدار ما يحوي القرآن مقبوسات منها أو تأويلات لها فإن القرآن أيضًا "وحي".
[24] كانت هناك في زمن محمد لهجات عربية عديدة. وفي المواضع العشرة التي يدَّعي فيها القرآن أنه كُتِبَ بالعربية، يبيِّن لوكسنبرغ أولاً أن لتلك المقاطع أشكالاً نحوية مشكلة على المفسِّرين ويختلف تأويلها من مفسِّر لآخر. فهو، مثلاً، يشير في سورة فُصِّلت 44 أن ثلاثي فصَّل العربي يعني "قسَّم"؛ لكن سياق الكلام هنا كان يتطلَّب "ميَّز" أو "أوَّل" أو "ترجم"؛ إذ لا نجد هذا المعنى لهذه الكلمة العربية في أيِّ مكان آخر، كذلك لا تورِد المعاجم السريانية–العربية أيًّا من الكلمتين كترجمة للأخرى؛ ورباعي ترجم (المأخوذ عن السريانية مباشرة) هو الدال على الترجمة بالعربية. غير أن كلمة برش/برِّش السريانية يمكن أن تعني في نفس الوقت "قسَّم" و"ترجم" (ككلمة هبديل العبرية؛ وهذا أيضًا مثال على "نسخة دلالية" أشرنا إليها أعلاه). الطبري كذلك فهم فصَّل وكأنها مرادفة لـبيَّن (سورة الدخان 3)، التي تعني أيضًا "ترجم". إن الآية 44 من سورة فُصِّلت تشهد بوضوح على مصدر للقرآن مكتوب بلغة "أعجمية". وعلى خطى الطبري، يسجِّل لوكسنبرغ وجود خلل في نص هذه الآية يبيِّن وجود أصل غير عربي لأجزاء من القرآن. وحجته هنا ضعيفة بعض الشيء، لولا البراهين الإضافية المستنتَجة من أحد عشر موضعًا أخرى من القرآن، حيث طبَّق لوكسنبرغ هذه الحجج عينها وحججًا أخرى مشابهة تطبيقًا متماسكًا في حلِّ مصاعب تدور جميعًا حول المصطلحات المتصلة بوحي القرآن ولغته. وهذه الحجج تترك القليل من الشك في أن لوكسنبرغ كشف الغطاء عن سوء فهم أساسي لهذه المصطلحات ضمن سياقها القرآني.
[25] ويبيِّن لوكسنبرغ في الباب الثاني عشر أنْ ليس أصل القرآن ولغته وحدهما يختلفان عما يدَّعيه المفسِّرون الذين كتبوا في الأمر بعد انقضاء مائتي سنة على الشروع فيه، إنما أيضًا أن العديد من المقاطع الأساسية يتضمن كلمات أو عبارات تمت استعارتها من السريانية إلى العربية. ففي تحليله لسورة مريم، الآية 24، حيث جاء: "فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربُّك تحتك سريَّا"، يستنتج أن هذه الآية يجب أن تُقرأ كما يلي: " فناداها من فور أن انطرحت [لتضع] ألا تحزني قد جعل ربُّك وضعك شرعيَّا". إن نقاش لوكسنبرغ المسهب لتعقيدات هذا المقطع يحلَّ الصعوبات النحوية للعربية بطريقة تتناسب مع سياق الكلام: يسوع ينفح في مريم الشجاعة على مواجهة أقربائها، على الرغم من وضعها طفلاً خارج الزوجية. ثم يقدم هذا الفصل حججًا مطوَّلة تتناول مشكلات مفرداتية وقواعدية وتركيبية ونظمية في سورة هود 116-117.
[26] ويقدَّم الباب الثالث عشر الدليل على وجود قواعد صرفية آرامية في نحو القرآن. فالأمثلة على عدم التطابق النحوي في التذكير والتأنيث (كوجود فاعل أو اسم مؤنث مع فعل أو مقيِّد مذكر) ظهرت لأن الأشكال السريانية المؤنثة أسيئت قراءتُها كصفات خبرية مفردة مذكرة في محلِّ نصب أو أسماء فاعل (أو مفعول) عربية، حيث الاسم المتعدِّي فاعل مؤنث. ففي السريانية تتخذ الصفات الخبرية أو أسماء الفاعل (أو المفعول) دومًا الصيغة المطلقة (الصيغة الخبرية). فالصيغة السريانية المؤنثة المفردة، مدوَّنةً إلى العربية، مطابقة لصيغة النصب المفردة المذكرة العربية الأصيلة. وهذه الظاهرة شائعة جدًا في القرآن (مثلاً في سورة مريم 20، 23، و28). وكانت الحجة التي طرحها العديد من المفسِّرين لتفسير هذه الشذوذات هو أنه تمَّت التضحية بقواعد الصرف للحفاظ على إيقاع الآية. ويبيِّن لوكسنبرغ ضعف هذه الحجَّة من خلال تبيان كيف تمت، في العديد من الحالات، التضحية بالإيقاع من أجل تأدية قاعدة صرفية (مثلاً في سورتي الأحزاب 63 والشورى 17). علاوة على ذلك، على الأقل في حالة واحدة تتعلَّّق بتركيب شاذٍّ لجملة في سورة مريم 32، نلحظ أن الترتيب السليم نحويًّا للكلمات كان من شأنه أن يتطابق مع الإيقاع. وفي المواضع التي تقابل فيها صيغة المذكر صيغة مؤنثة أدرك لوكسنبرغ أن الناسخ حذف "المفعول به المفرد المذكر"، جاعلاً منه صفة خبرية، بدون أن يلاحظ أن الصفة صفة سريانية خبرية مؤنثة مدوَّنة في العربية. وما يؤيد كون هذه الصيغ الخبرية/المطلقة، كما وردت في القرآن، صيغًا سريانية أن العربية استعارت دومًا الأسماء والصفات السريانية في صيغتها المطلقة وليس في صيغتها المبالغة ("غير المقيدة" أو "المعجمية")؛ مثلا:ً الله > إلاها: الحالة المطلقة إله؛ وكذلك قريب > قريبا: الحالة المطلقة قريب. ويبرهن لوكسنبرغ عندئذٍ أن فقدان تاء التأنيث في عربية القرآن إنما يعود لنفس الظاهرة. ويتبيَّن أن العديد من القواعد الصرفية العربية، كما وضعها أوائل النحويين العرب لتفسير هذه الحالات الشاذة، قد وُضِعَت لهذا الغرض بالذات، وقد كتبها أناسٌ لم يعودوا يفهمون اللغة الأصل التي كُتِبَت فيها. وينال المصير نفسه ما اصطُلِحَ على تسميته التمييز، الذي يتطلب وضع الاسم في العدد التسلسلي + الاسم في المفعول به المفرد. ويبين لوكسنبرغ أن الاسم في جميع الحالات هو حقًّا اسم سرياني مذكر بصيغة الجمع، حيث للأسماء المذكرة في صيغتي المفرد والجمع في السريانية التهجئة نفسها.
[27] ويكتشف المرء في الباب نفسه كيف أساء المفسِّرون اللاحقون قراءة الجذور السريانية وحرَّفوها. ففي إحدى هذه الحالات نجد أن كلمة جو (سورة النحل 79) مقروءة خطأ بمعنى "الهواء المحيط" هي، في الأصل السرياني جَوْ، التي تعني في آنٍ معًا "الدخيلة" أو "الباطن" والتي يمكن أن تستعمل أيضًا كحرف جر يعني "داخل". ويبيِّن لوكسنبرغ في سورة النحل 79 كيف أن استعمال المفردة كحرف جرٍّ أكثر منطقية من الحلِّ الذي طرحه المفسِّرون. لكن قواعد العربية الفصحى، التي وُضِعَتْ بعد ما يقرب من الثلاثمائة سنة بعد القرآن، لا تتذكر معنى الكلمة كحرف جر، وإن بقيت بعض اللهجات العربية المحلية تستعمل الكلمة في أصلها السرياني كحرف جر. وهكذا عندما نقرأ الآية 79 في سورة النحل "في جَوِّ السماء" للإشارة إلى الطير التي تبقى "مسخَّرات... ما يمسكهنَّ إلا الله" فإن اللهجات المحلِّية تُجمِع على أن "في جَوَّا البيت"، بمعنى "في داخله"، لغة عربية سليمة. إن سوء قراءة المفردة القرآنية العربية جَو بوصفها "هواء" صار اليوم جزءًا من المصطلحات الفنية للعربية الفصحى المعاصرة، حيث يقال "البريد الجوي" والقوى الجوية" و"الخطوط الجوية" و"النشرة الجوية"، وكلهُّا يستعمل جَو. وهكذا فإن المعنى الذي تخيَّله النحاة هو الذي مازال حيًّا.
[28] ويرينا لوكسنبرغ أخيرًا صيغًا فعلية عربية ناتجة من دمج جذرين سريانيين متمايزين. وهو يفصِّل حجَّته التي نكتفي منها هنا بالإشارة إلى أن الالتباس يتأسَّس على لفظ مصدره السريانية الشرقية. فمعنى الفعل سخَّرَ يقابل، أحيانًا، كلمة شخَّر السريانية التي تعني "لام" أو "وبَّخ"، وأحيانًا أخرى، شَوخَر بمعنى "أعاق" أو "منع". وقد حصل الالتباس لأن الكلمة السريانية شَوخَر كانت تُلفَظ في السريانية الشرقية والمندائية كـشَاخَر أو شَخَّر.
[29] يناقش الباب الرابع عشر موضوع سوء فهم العبارات الاصطلاحية العربية المنسوخة عن عبارات آرامية. وينظر لوكسنبرغ في سورة الإسراء 64 حيث جاء: "واستفزِزْ من استطعتَ منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعِدْهم ما يعدُهم الشيطان إلا غرورًا" (ص 217)؛ إذ يدلُّ الجمع الغريب بين الاستفزاز وحالة الحصار على خطأ في القراءة. والعربية في حالنا هي التي أسيئت قراءتُها، تلك العربية التي تترجم حرفيًا عبارات سريانية. فبحسب تحليل لوكسنبرغ ينبغي أن تُقرأ هذه الآية كما يلي: "واغْوِ من استطعت منهم بصوتك وفُقْهُم حيلة وكذبًا وخداعًا واغْرِهم بالمال والأولاد وعِدْهم ما يعدُهم الشيطان إلا باطلاً" (ص 220).
[30] إن المناغمة بين المقاطع التي يجمعها الموضوع يشكِّل وجهًا آخر يدل على الصعوبة النصية للقرآن. يفحص البابان الخامس عشر والسادس عشر عما يمكن أن ينجم عن سوء قراءة إحدى الآيات من تداعيات تؤدي لسوء قراءة مطابِقة في مجمل النص، ليس على أساس التشابه في القواعد أو المفردات، بل لأن الآيات المبعثرة تلمِّح إلى مفهوم واحد. ويعالج لوكسنبرغ في الباب الخامس عشر موضوع "الحور العين" وفي الباب السادس عشر موضوع "الولدان"، فيأخذ سورة الدخان 54 منطلَقًا للنقاش. وقد جاء في هذه السورة: "كذلك وزوَّجناهم بحورٍ عِينٍ". فالفعل زَوَّجَ بمعنى "النكاح" أو بمعنى "قرن بهيمتين للتسافد" هي من أخطاء إبدال الزاي راءً، من جهة، والجيم حاءً، من جهة أخرى (وكلا الحرفين لا يتميز واحدهما عن الآخر إلا بالنقطة)، فنحصل على رَوَّحَ بمعنى "أراح" أو "أنعش" بدلاً من زَوَّج، حيث المفعول بهم هم المتَّقون. أما الاستنتاج الرئيسي لهذا الباب فهو أن تعبير "حور عين" يعني "[جفنات] بيض وجواهر [من بلور]"، وليس "نساء بيض واسعات الأعين" (سور الدخان 54 وسورة الطور 20). فقد فحص لوكسنبرغ أولاً بعناية عن كلِّ مكوِّنات هاتين السورتين، ولاحظ أن القرآن يذكر أنواعًا أخرى من الثمار في الجنة، وتحديدًا النخل والرمَّان (سورة الرحمن 68)، إضافة إلى الأعناب (سورة النبأ 32) التي ذُكِرَت أيضًا عشر مرات في سياق الكلام على ثمار الجنَّات "الأرضية". وبما أن الفقهاء الأوائل يعلمون أن القرآن يستعمل الكلمة السريانية جنتا > جنَّة للدلالة على الجنَّة السماوية، فإن العنب ينبغي أن يكون ثمرة الجنة بامتياز (ص 234). فلِمَ، إن كانت هذه هي الحال، لم يُذكَر العنب ضمن ثمار الجنَّة "السماوية" إلا مرة واحدة فقط؟
[31] للإجابة على هذا الأمر، استند لوكسنبرغ على الفقه الأسبق، وتحديدًا على فقه تور أندراي وإدموند بِك، مبينًا وجود علاقة ما بين صور حدائق جنة الفردوس في القرآن وأناشيد أفرام السرياني التي عنوانها في الجنَّة. فقد لاحظ أندراي أن كلمة حور مشتقة، أغلب الظن، من كلمة سريانية تعني بيض، لكن الهدف من حلَّه كان القول بأن الاستعمال القرآني مجازي نوعًا ما. فلا هو ولا بِك اعتبرا في حينه أن كلمة حور العربية بمعنى "عذارى" كانت ناجمة عن سوء فهم المفسِّرين.
[32] يستعمل أفرام كلمة جُبْنا، "الكرمة"، المؤنثة نحويًّا، التي تتفق مع كلمة حور؛ ومنها استنتج أندراي أنها، كما وردت في القرآن، مجازٌ المقصود منه "حور الجنَّة". لكن مفاد حجة لوكسنبرغ بخصوص سورتي الدخان 54 والطور 20 أنه بدلاً من المفرد عين ينبغي قراءة الجمع عيون، مشيرًا إلى عناقيد الكرمة. والقرآن في أماكن أخرى يشبِّه الجفنات بـ"اللآلئ"؛ فلا بدَّ أن تكون بالتالي "جفنات بيض"، الأمر الذي لا يتضح من النص للوهلة الأولى. ثم يقدم لوكسنبرغ تنويعين لقراءة هذه العبارة: القراءة الأولى تترجم الجملة "[جفنات] بيض بلورية"؛ والقراءة الثانية – وهي التي يتبناها لوكسنبرغ – هي "[جفنات] بيض [كـ]ـجواهر البلور". وبذلك نقرأ الآية المرمَّمة: "كذلك روَّحنا [عن المتَّقين في الجنة] بـ[ـجفنات] بيض [كـ]ـجواهر البلور."
[33] ومن الأمثلة العددة ذات الصلة في الفقرات من 15–2 إلى 15–9، يتابع لوكسنبرغ عذارى الجنة في القرآن. ففي الفقرة 15–2، يلاحظ لوكسنبرغ أن كلمة أزواج يمكن أيضًا أن تعني "أنواع" (سور البقرة 25 وآل عمران 15 والنساء 57). وتبدو مثل هذه القراءة أكثر منطقية حيث تصير: "فيها أنواع [ثمار) مطهَّرة." ويربط لوكسنبرغ هذه القراءة بسوء فهم زوَّج في سورة الدخان 54، فيجد أن الخطأ في تأويل آية ينسحب على آيات المضمون الثيمي ذي المتات في أخرى. والمحاججة قوية كذلك في الفقرات الأخرى. ومن الملفت فيها المناقشة في الفقرتين 15–5 و15–6 المعقودة على الآية 56 من سورة الرحمن والآيات 70 و72 و74، على التوالي، حيث جاء، إشارة إلى عذارى الجنة، اللواتي "لم يطمثهنَّ إنس قبلهم ولا جان". بدلاً من ذلك، تتكلم هذه الآية على جفنات الجنة التي "لم يدنسهنَّ إنس قبلهم ولا جان". ويشير لوكسنبرغ إلى أن الآية 72 من سورة الرحمن تقيم دليلاً آخر على التوازي القرآني مع أناشيد أفرام، الذي كتب أن جفنات الجنة مثقلة بـ"العناقيد المتدلية".[9]
[34] ويتابع الباب السادس عشر هذا التحرِّي، مشيرًا إلى سوء قراءة مماثل تلتبس فيه جفنات الجنة بـالوِلْدان (بمعنى الشبان اليافعين). فقد جاء في سورة الإنسان 19: "ويطوف عليهم ولدانٌ مخلَّدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤًا منثورًا". وكلمة ولدان هنا كلمة عربية صحيحة، لكنها مستعمَلة بمعنى مستعار من كلمة يلدا السريانية، وذلك لأن "ولدانًا" كاللؤلؤ عبارة مشكوك فيها بعض الشيء، وخاصة إذا اعتبرنا أن "اللؤلؤ" كناية عن عناقيد الجنة، كما تبيَّن من الفقرة السابقة. وقد بيَّن لوكسنبرغ أن في السريانية تعبيرًا هو يَلدا دَجْـبِـتَّـا، بمعنى "ابن الكرمة"، كما جاء في البشيتا: متى 26: 29، مرقس 14: 25 ولوقا 22: 18، حيث يتنبأ المسيح بموته وقيامته: "الحق أقول لكم إنِّي لا أشرب بعدُ من وَلَدِ الكرمة (يَلدا دَجْـبِـتَّـا بالسريانية) هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه جديدًا في ملكوت أبي." وهنا عصير العنب هو الـ"ولد". إن مادتي كلٍّ من يَلدا وجبِـتَّـا في المعاجم العربية–السريانية تعطي على التوالي، بالإضافة إلى "ولد" و"كرْم"، "ثمرة" و"خمرة". ويقدم لوكسنبرغ دلائل إضافية، من سور الصافات 45 والزخرف 71 والإنسان 15، على أن وصف عناقيد الجنة في نشيد أفرام السرياني هو المنهل الذي نهل منه النصِّ القرآني الأصلي. [35] ونجد في الباب السابع عشر تأليفًا لتقنيات ومكتشفات الدراسة السابقة وتحليلاً لسورتين كاملتين: سورة الكوثر وسورة العلق، اللتين يقدِّم لوكسنبرغ لكلٍّ منهما تفسيرًا وترجمةً كاملين. وقد قدمنا أعلاه نبذة عن سورة الكوثر. لكن تحليل الآيات التسعة عشر لسورة العلق جميعًا يغطي ما يزيد عن 22 صفحة. ونجد بين الحلول العديدة التي يقدمها هذا الباب أن الحرف أ الذي حيَّر المفسِّرين والنحاة هو في الحقيقة كلمتين مختلفتين: الحرف السرياني أَو بمعنى "أو" والحرف السرياني إين بمعنى "إنْ" أو "حين". وبالجواز هنا عن تفاصيل المحاججة نقول إن هذه السورة يجب أن تُقرأ كدعوة للاشتراك في صلاة طقسية وأنها تحمل "طابع مطلع مسيحي–سرياني، استُبدِلَت به الفاتحة (من السريانية بتاخا) في تقليد لاحق". وهذه ليست مجرد ليتورجيا عادية، بل هي القداس الإلهي، الاحتفاء القرباني المقدس، كما يتبيَّن من إعادة لوكسنبرغ صياغة الآيات 17-19 من سورة العلق: "فليَدْعُ [الذي "كذب وتولَّى"] معبوده [عندئذٍ] سندعُ الزبانية كلا لا تطعْه واسجد واقترب [تناول القربان]" (ص 296). وهذا جدير بالانتباه لأن هذه هي أقدم السور بحسب الموروث الإسلامي، وهي تكشف عن جذور مسيحية–سريانية. كذلك يبيِّن لوكسنبرغ أن مصطلحات قربانية وثيقة الصلة، كالتي في سورة العلق (جزنا عن البراهين عليها في هذه المراجعة)، تلمِّح أن الآيتين 114-115 من سورة المائدة تشيران إلى القداس القرباني المقدس (وليس إلى العشاء الأخير وحسب). لكن دليلاً إضافيًا للتأكيد على صحة هذه القراءة إنما يأتينا من مقطع شعري للشاعر الجاهلي العربي المسيحي عدي بن زيد الذي وصلتنا نبذة عنه في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (توفي عام 967). أما الباب الثامن عشر فهو خلاصة شاملة وجيزة تُختتَم بها الدراسة.
[36] إخراج الكتاب من حيث النوعية إجمالاً جيد. هناك بعض الأخطاء المطبعية، بما فيها ترقيم بعض الفقرات (في الصفحتين 237 و239 مثلاً)، والقليل جدًّا من الأغلاط النحوية. كذلك يتسبب إخراج الصفحة أحيانًا في صعوبة القراءة. وهذا يعود جزئيًا إلى طبيعة الدراسة، التي تتطلب أبجديات عربية وسريانية ومندائية ولاتينية تتقاسم المساحة في هوامش ومقبوسات في المتن من المصادر.
[37] ويفتقد عمل بهذا المدى، يقدم الأشياء مجتزأة، بالضرورة إلى تماسك الدراسة الكاملة وأناقتها. لكن ما يترتب عنه يظل مع ذلك واضحًا: لا بدَّ لأية دراسة علمية مستقبلية للقرآن أن تأخذ هذا المنهج بعين الاعتبار. فحتى إذا اختلف العلماء على النتائج فإن المنهج الفقهي اللغوي منيع؛ إذ وضع منهجًا يختلف جوهريًّا عن تقاليد التفسير التي يعتمدها المفسِّرون العرب والغربيون. فلقد زعزع لوكسنبرغ النظرة إلى القرآن بوصفه نصُّا "نقيًّا"، نصًّا خالصًا من الصعوبات اللاهوتية والفقهية اللغوية التي تتخلل تاريخ نقل النصوص، أي التوراة العبرية برواياتها المختلفة.
[38] تبقى نقطة تساؤل مركزية يثيرها هذا البحث تتعلق بدافع عثمان إلى الإعداد لهذه النسخة المنقحة للقرآن. يورِد لوكسنبرغ الحديثين اللذين يرويان كيفية حصول عثمان على المخطوط الأول. فإذا كان تحليل لوكسنبرغ، حتى في خطوطه العريضة، صحيحًا فإن مضمون القرآن كان مختلفًا جدًّا أيام محمد وتحرير عثمان قد لعب آنذاك دورًا في سوء قراءة عدد من المقاطع الأساسية. فهل كانت إساءة القراءة مقصودة أم لا؟ وهذا التشوه في القراءة عمومًا يحوِّل القرآن من كتاب متجانس إلى هذا الحدِّ أو ذاك مع العهد الجديد والليتورجيا المسيحية السريانية إلى كتاب متمايِز من أصل مستقل. [39] نأمل صدور ترجمة إنكليزية لهذا الكتاب سريعًا. لكنْ رغم قناعتنا بما سيُحدِثه هذا الكتاب من ثورة رصينة فإننا لسنا من السذاجة بحيث نعتقد بأن جميع الاختصاصيين في الإسلاميات في الغرب سينهضون ويستجيبون مباشرة لما يطرحه مثل هذا العمل من تحديات علمية. لكن كما واجهت المسيحيةُ تحدياتِ القرنين التاسع عشر والعشرين الآتية من الفقه الكتابي والليتورجي، كذلك سيستفيد فقهاءٌ في الإسلام جادون، من كلا الشرق والغرب، من الاختصاص الذي افتتحه لوكسنبرغ.
*** *** ***
ترجمة: أكرم أنطاكي وديمتري أفيرينوس
* كريستوف لوكسنبرغ، قراءة سورية-آرامية للقرآن: مساهمة في تحليل اللغة القرآنية، برلين، ألمانيا: الكتاب العربي، الطبعة الأولى، 2000.
** نلفت هنا نظر القراء إلى أن فريق معابر لا يملك التأهيل العلمي الكافي لإطلاق حكم ذي وزن على كتاب د. لوكسنبرغ. لكننا، مع ذلك، ارتأينا نشر هذه الدراسة القيمة عنه نظرًا لأهمية المنهج المعمول به الذي لا يتناقض، في التحليل النهائي، مع مناهج التفسير المعمول بها في مدارس الفقه الإسلامي، على اختلاف مشاربها (باستثناء التفاسير الصوفية التي تعتمد الخبرة الداخلية مرجعية أخيرة)، كونها تعتمد قواعد نحو اللغة العربية وصرفها أساسًا للتفسير. (المحرِّر)
[1] أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل القرآن (القاهرة، طب 3، 1968).
[2] أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرَّم الإفريقي المصري ابن منظور، لسان العرب (بيروت، 1955).
[3] ريتشارد بِلْ، القرآن: مترجمًا مع إعادة ترتيب نقدية للسور، ج 1 (إدنبره، 1937)، ج 2 (إدنبره، 1939).
[4] ريجيس بلاشير، القرآن (مترجمًا عن العربية)، (باريس، 1957).
[5] رودي باريت، القرآن: ترجمة (شتوتغارت، برلين، كولن، ماينتس، طب 2، 1982).
[6] ر. باين سميث، محرِّر، المعجم السرياني، ج 1 (أوكسفورد، 1879)، ج 2 (أوكسفورد، 1901).
[7] كارل بروكلمان، المعجم السرياني، (هالِّه في سكسونيا، 1928).
[8] جاك أوجين مِنَّا، المفردات الكلدانية–العربية (الموصل، 1900)؛ أعاد طباعته مع فهرست جديد روفائيل ج. بداود (بيروت، 1975).
[9] لا يحيل لوكسنبرغ إلى المرجع في أفرام بل يقبس عن كتاب:
Des heiligen Ephraem des Syrers Hymnen de Paradiso und contra Julianum, in Corpus Scriptorum Christianorum Orientalium (CSCO), Scriptores Syri, t. 78, vols. 174 [Syriac], t. 79, vol. 175 [German translation] (Louvain, 1957).
والمقطع الذي يشير إليه لوكسنبرغ موجود في النشيد السابع، الآية 17. وفي الواقع يستطيع المرء إيجاد النص في CSCO, vol. 174, p. 29. كما يوجد العديد من المقاطع المماثلة حيث الثمار تتشابه مع ثمار الجنة. راجع بهذا الصدد:
Sebastian Brock, tr. and commentary, St. Ephrem: the Syrian, Hymns on Paradise (Crestwood, N.Y.: St. Vladimir’s Seminary Press, 1998).
عن :معابر