[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
مها حسن ـ باريس
وافقت على تناول العشاء عند جانو، رغبة في الخروج قليلا من المشهد الثابت، حيث العيون والأذهان والمخيلة والمشاعر والأمنيات... كل ما فيّ منصبّ ومتركّز ومتوقف على المشهد ذاته، مشهد الثورات المتلاحقة في العالم العربي. أنتقل من محطة تلفزيونية لأخرى، من موقع لآخر، من جريدة لأخرى... على الفيسبوك واليوتوب، وحتى إيميلاتي الشخصية، لم يعد أمامي موضوع أو مادة أتحدث بها، وأهتم بها، سوى الثورات العربية. لا تكاد الساعة الإخبارية تكفي لتغطية الأحداث، لهذا فالأخبار مفتوحة، ساعات وساعات... ونحن على أعصابنا، نترقب في كل لحظة، خبر جديد، مباغت، يخفف قلقنا وانتظارنا.
بعضنا يذهب إلى النوم مجبرا، خشية أن يحصل أمر كبير، بينما نكون غائبين في النوم، لهذا ننام بعين واحدة، عين تحاول سرق إغفاءة للراحة، والثانية تتلصص على التلفزيون أو الكمبيوتر.
أمام هذا " الإدمان" الإخباري... وجدت أن الذهاب إلى منزل جانو فرصة إجبارية لي، لتفريغ شحنتي الانفعالية، وتغيير المشهد الثابت أمام عينيّ أو الفكرة الثابتة، ولو بصياغات متكررة مختلفة، في رأسي.
اصطحبني فيليب مع مريام وجيريمي، وانطلقنا في نهاية النهار، وكان آخر شيء أفعله بعد أن أنهيت ارتداء ملابس، هو إطفاء جهازي الكمبيوتر والتلفزيون، المفتوحين معا، كي لا أفوّت حدث قد يتم في لحظة ما.
بدأت السهرة بأحاديث عادية رتيبة عن أوضاع العمل والموسيقا والمغنين المفضلين وطريقة إعداد الطبق الفلاني... هذه الأحاديث التي تبدأ عادة كمقدمات عامة بين أشخاص لا يعرفون بعضهم ، أو على الأقل، لا يعرف الجميع بعضهم البعض ، حيث وبغياب رونيه، زوجة جانو، كان عليّ أن أبذل بعض الجهد النفسي في التعرف على باتي، الصبية الكاميرونية المدعوة أيضا. كنت أعتمد على وجود رونيه للتخفيف عني انفعاليا، وفاجأني غيابها، وعدم التقاطي لشرح جانو على الهاتف، بأن رونيه ستعود إلى باريس في الأسبوع القادم، بعد شهرين من إجازة خارج فرنسا. حسنا، لا بد من أحاديث بلهاء، كي لا ندخل في مباشرة الأحاديث التي تأتي جوابا على سؤال أكثر بلاهة، أكرهه بشدة "ماذا تفعل/ تفعلين في الحياة؟" ، أي السؤال عن المهنة.
جانو الزوج المدلل، الصاخب، المرح، راح يشرح لنا صعوبة ملاحقته لأمرين معا: التحدث مع أصدقائه، ومتابعة الطعام. مستغربا كيف تقوم رونيه بهذا، مستغربا أكثر وموافقا لي، على أن جميع النساء تقريبا يفعلن هذا، ينتقلن من غرفة الاستقبال إلى المطبخ، ويراقبن ويتابعن بدقة، الأحاديث والحوارات مع الأصدقاء المدعوين، وكذلك تسلسل مراحل الطعام، وخاصة ذلك الذي في الفرن.
كانت باتي تقدم بعض العون لجانو، ورحنا نتهكم بمكر على جانو، بأن هدفه الأساسي من دعوة باتي، هو أن تحل محل رونيه في ترتيب المائدة وغسيل الأطباق ربما، وهي تقسم بأنه يحلم بهذا، لن تمس طبقا، ولكنها، ودون وعي، كانت تتحرك معه نحو المطبخ.
بغتة، وكعادة أغلب الرجال الفرنسيين، بينما كنا غارقات في الثرثرة، نحن النساء الثلاث، وجد جانو وفيليب وجيريمي أنفسهم في المطبخ، يعتنون بترتيب الطعام، ونقل الصحون والكؤوس إلى الطاولة.. بينما انخرطنا نحن النساء في حديث عن الطعام، ردا على ملاحظة جانو التهكمية لباتي" منذ أن دعوتني إلى الطعام إلى منزلك، منذ سنتين، وأنا لا أثق بطعامك". كان السبب ، راحت تشرح باتي، هو القرد.
القرد؟ نظرت إليها مندهشة. أضافت : "أرسل لي أهلي قردا من الكاميرون، فدعوت جانو إلى الطعام". حملقت بها بدهشة خفيفة، إذ لا بد من التخفف من الدهشة، حيث العيش في الغرب، يخفف الكثير من حجم الدهشة... قال جانو متنقلا بين المطبخ وغرفة الضيوف :" لا يمكنني التصور بأنني آكل أصولي، هؤلاء هم أهلي". راحت ميريام تسرد ذكرياتها في إفريقيا عن تناولها للحمّ الأفاعي، حيث وصفت طعمها بالمميز واللذيذ.. ولندرة الحادثة، حاولت توقيف باتي أكثر من مرة، بلطف، لتحدثني عن أكل القرود... كلما رحت أسال، حاولت ميريام تغيير الحديث. كانت ميريام تتضايق من التحدث عن أكل القرود، بينما كنت أنا مهتمة بالأمر بوصفه فرصة لي لتعلم شيء جديد. سألت باتي عن دوافعها لأكل لحم القرد، هل تستمتع به، ماذا يشبه طعم ذلك اللحم؟
تحدثت ميريام عن ضيق غالبية الفرنسيين من أكل لحم الحصان، فيليب مثلا يرفض بشدة، أما أنا، صاحبة هذا المقال، فلا أجد غضاضة عن تناول لحم الحصان. ولكن لا مجال للتشابه بين الحيوانين ، القرد والحصان.
حدثتني باتي عن علاقة عائلتها بالقرود: " القرد حيوان مدلل عند أهلي، في منزل أهلي كنا نربي قردا، تشعرين بأنك أمامه تتحدثين مع كائن بشري، الفرق بيننا وبين القرود أنهم لا يتكلمون" . هنا سمع جانو فقال " حسنا أنتم تأكلون البشر". ضاقت باتي ذرعا بنا. من تهكم جانو، من رفض ميريام المبطن، من دهشتي المهذبة، فقالت بشيء من التوتر:" عليكم أن تفهموا أنتم الشعوب المحظوظون بالخيارات، حين لا تجدون أمامكم سوى هذا الحيوان، فهو صراع الطبيعة من أجل البقاء، هنا تنتفي المشاعر، نأكل القرود لأننا لا نجد ما نأكله". حاولت ميريام التبرير لباتي في سرد حادثة عن أشخاص وجدوا أنفسهم معزولين في أرض نائية، تقطعت بهم سبل التواصل مع العالم، أظن بسبب تحطم الطائرة التي كانت تقلهم، وأنهم كانوا ينتظرون أول من يموت من الجوع، ليأكلونه.
حسنا، صارت المائدة جاهزة، انتقلنا إلى الطاولة الكبيرة، لنبدأ الطعام. سألني جانو بجدية" أنتِ القادمة من تلك البلاد، كيف تشعرين أمام ما يحدث من ثورات ومظاهرات في البلاد العربية".
فاجأني سؤال جانو، ووجدتني بين مجموعة أصدقائي الذين لا يعرفون الكثير عن بلادنا هناك، بمثابة الناطقة الرسمية باسم الشعوب العربية كلها. على مائدة الطعام، ينبغي عليّ التوقف عن الطعام، لشرح وجهة نظري، أمام موضوع يشغلني كثيرا، وتغضبني أحيانا الطريقة، التي لا تروق لي، في تناول حدث سياسي ما، يجري في منطقتنا، فيتناوله الإعلام الغربي، بطريقة مختلفة. كان عليّ أن أكون على مستوى قامة هذه الشعوب، لأشرح حقوقها في الحرية والتخلص من الديكتاتورية والجهل.
باتي، التي تعتقد بأنني إيرانية، يصحح لها جانو، بأنني سوريّة، ثم تحدثني بعد لحظات، على أنني تركية أو عراقية، وهي لا تعرف شيئا عن خريطة الشرق الأوسط، ولا تعرف مكان سورية أو لبنان أو الأردن في الجغرافية. قالت والفرح يتألق من عينيها " أتحدث مع أصدقائي على الشات حول تونس، حول ذلك الذي أحرق نفسه... عندي أصدقاء في الصين، الآن يثورون هناك، لأنهم تعلموا من البوعزيزي.. " ، باتي لم تنطق اسم البوعزيزي جيدا، باتي التي تأكل شعوبها هناك لحم القرد، تعرف البوعزيزي، وتفخر به، وتعتبره مثالا على الحريات والتعبير والثورة... تحدثني عن ثورات السود... يقشعر جسدي من البهجة... أتناول طعامي مسرعة وأتلصص على الساعة، منتظرة أن تنتهي السهرة، لأعود إلى البيت، أفتح التلفزيون والكمبيوتر، وأعود إلى مشهدي الثابت... لا شيء آخر يستحق أن أعيشه في هذه الأيام، أكثر من شهادتي أنني أحيا في هذا الزمن، زمن الثورات، التي يسمع بها أبناء الأدغال الإفريقية، ولو كان طرزان حيا، ربما لجاء إلى ليبيا واليمن وغيرها من البلاد العربية، متظاهرا معنا، يشاركنا هذا الزمن المختلف، الزمن المبهر، زمن سلالة البوعزيزي وثورات الياسمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
مها حسن روائية وصحافية سورية، مقيمة في فرنسا، تكتب في الصحافة والمواقع العربية.
صدر لها : " اللامتناهي ـ سيرة الآخر " رواية ـ عام 1995 في دار الحوارـ اللاذقية ، سوريا، " لوحة الغلاف، جدران الخيبة أعلى " رواية ـ عام 2002 ـ سوريا/ " تراتيل العدم" رواية ـ عام 2009 ـ دار الريس ـ لبنان ـ بيروت حصلت على جائزة هيلمان/هامت التي تنظمها منظمة Human Writs Watch الأمريكية في عام 2005.