لقاء غير منشور مع الشاعر الراحل محمد القيسي
حاوره: د.محسن الرملي
أغلب لقاءاتي بالراحل العزيز محمد القيسي كانت تتصادف بخروجنا معاً من مبنى جريدة (الرأي)، فنبحث عن مقهى قريب أو نواصل رفقتنا حتى وسط المدينة تجوالاً في المكتبات، ولا أدري لماذا كانت تمتاز أغلبها بالمزاح والمناكفات التي تنطوي على الاستفزاز أحياناً، فيكرر تحذيره لي مداعباً: "هـا.. لا تنس بأني قد كنت مُلاكماً في يوم ما" ونضحك.
وقد تم هذا اللقاء في مقر (رابطة الكتاب) في عمان مساء يوم 17/10/1993م. وهو يندرج ضمن سلسلة لقاءات كنت أعدها آنذاك لفكرة كتاب بعنوان (حوارات في الثقافة الأردنية) تجاوزت العشرة لم أنشر منها سوى اثنين في حينها، فيما ضاع بعضها في تنقلاتي وبقي البعض الآخر منها ضمن أوراقي، وهذا اللقاء من بينها:
* " بين قوسين وجدنا عمرنا ينسل منا
بين قوسين سُجنّا
واكتشفنا آخر الأمر،
اكتشفنا كم هرمنا..".
هذه الأبيات وكل ما نلاحظه على محمد القيسي في المرحلة الأخيرة؛ من ذلك (كتاب الابن) والانسحاب الاجتماعي، وقوله لي في المرة الأخيرة "لقد كُتبت عني مقالات ودراسات كثيرة، واستُفِز حين قلت له: الآن بدأت تُقرأ، وطبعك لمجاميعك الشعرية الكاملة.. كل هذا وغيره ألا يدل على أن القيسي يعد لنهايته ويرتبها بشكل يريد أن يراه وهو حي.. فماذا تقول عن ذلك؟.
ـ لا تنتهي الحياة إلا في الصمت ومادامت الكتابة تقول وتجد مساحتها في القلب والورق فهذا يعني أن نبض الحياة مازال يسري فيّ وأن الكلام مازال قابلاً للإفضاء.. إن دائرتي وإن اتسعت وتشعبت وأخذت أمداء وأشكال وأجناس كتابية متنوعة إلا أنها لم تكتمل بعد، وإذا جاز لي أن أُعقّب على ذلك فربما أصفه بغنى وكثافة الحياة التي عشت، وما أزال أعيش عبر حالة من الموت المبرمج والذات التي هي ليست أكثر من حجر في البناء العام، وربما أن كل ذلك يمدني بالإصرار على الحياة بكل ألوان الطيف فيها حتى لتبدو الغزارة، التي غالباً ما يشار إليها في تجربتي، تبدو لي ليست بغزارة وأن صمتاً كثيراً تخللها فأن تكون شاعراً وأن تعيش الحياة التي نعيشها كشعب لابد وأن نتوقف للغناء وللصراخ أيضاً.
* يقول البعض أن القيسي قد أبدع في وصف المرأة من الخارج ولكنه لم يتناول دواخلها وهمومها وهواجسها بعمق، فماذا تقول؟.
ـ ذلك قول مردود ولعله يصدر عن قارئ ليس بقارئ لأعمالي ولا هو بالمتفحص فيها.. إن المرأة عبر تجربتي الشعرية أخذت أبعاداً أعمق بكثير مما يقول السؤال أو الملاحِظة.. ذلك أنني لم أتكئ على المرأة، في قصيدتي، كرمز أو دلالة لأرض أو وطن أو ثورة وبذلك أكون مُغيّبا للمرأة حضوراً وجسداً ومعنى.. إن المرأة في شعري وكما أشرت كثيراً.. هي امرأة من لحم ودم، أعرفها، أتفاعل معها وربما أبكي بين يديها أو في غيابها فألجأ إلى الإنشاد كتعويض للغياب القاسي، وأن تدخل المرأة كمرأة واقعية في القصيدة فإنما لأضعها في الإطار والمناخ النفسي والاجتماعي ضمن لحظة تاريخية معينة لا انبتات عنها، ولا تكون هذه اللحظة على حسابها، كما أخذ الحب في القصيدة ألوان هذا المناخ التاريخي والاجتماعي وإذاك يمكن ارتفاع المرأة من مستوى الواقع إلى مستوى الرمز والدلالة، أي إدغام البُعد الذاتي في العام وارتفاعه ليشكل لدي هماً ذاتياً وعاماً في آن.. كيف إذن للمرأة في قصيدتي أن تبدو عائمة على سطح الكلام.. وكيف لها في الحياة أو لا تمخرني أبداً وهي التي على مدى العمر كله تسكن مسار وتترصدها الروح..؟!.
* وماذا عن الرأي القائل بأن قصائد القيسي تحتاج إلى تكثيف أكثر من ناحية الشكل، أما من ناحية المضمون فهي تحتاج إلى بلورة حاسمة وقناعة ثابتة بالمطروح؟.
ـ هذا كلام لا يعني شيئاً، بعيداً عن القصيدة وتفحصها أو تحديد مثل هذا الوصف على قصائد بعينها لنتناقش.
* وهل تشكل الرقابة هاجساً عندك أثناء عملية الكتابة؟.
ـ لا.. لم تكن لتشكل الرقابة بكل أنواعها وأبعادها هماً أو فاصلاً أو طيفاً يمر ما بيني وبين الورقة البيضاء.
*ما هي القضية الرئيسية عند القيسي؟
ـ كيف يمكن أن يطرح علي مثل هذا السؤال؟! وهل يكفي جواباً أن أقول: هي قضية شعبي الفلسطيني عبر سلسلة المؤامرات ومحاولات تغييبه وإلغائه بدءًا من هذا القرن وليس انتهاءً بعقده الأخير.. بمعنى: أن القضية الأساسية التي تشغلني هي قضية الحياة والوجود الكريم الذي يحدث بالمعنى والضرورة.
* وماذا تقول عن بعض السلوكيات السائدة في الوسط الثقافي الأردني، مثل: الشللية والعلاقات الشخصية والحسد والوصولية؟
ـ لا يعنيني الوقوف عند هذه المسميات.. لا يعنيني كثيراً بحق، وإن كان يسوءني ويملأني ضجراً كل هذا الفقر والخواء الذي يُجَمَّل أحياناً بالثقافة.
* بماذا تفسر عدم بروز أعلام في الأدب الأردني على نطاق واسع عربياً وعالمياً؟
ـ الساحة الثقافية الأردنية ساحة مغلقة وضيقة تاريخياً، والثقافة ـ شأن كل البلدان العربية ـ هي آخر اهتمامات الدولة والناس، يبقى الأمر والرهان قائماً على الأفراد والأسماء ومدى تحركها في الأفق الثقافي الأوسع خارج الحارة التي كثيراً ما يغنون بها ـ أعني حدود العاصمة ـ مع ذلك ثمة أسماء في الساحة، استطاعت تجاوز هذا الطوق المحدود إلى الأفق العربي الأوسع، ومنذ الستينات تقريباً، وكنت قد شهدت أهم المجلات الأدبية العربية، بيروت ودمشق وبغداد، أسماء عربية كثيرة من هذه الساحة ولكن مع الزمن تقلصت الأسماء بتقلص الاهتمامات والدأب المتواصل إلى ما يمكن أن نعدهم على أصابع اليد.. وذلك يكفي.
* حدد لي أهم وأبرز الأسماء الأردنية في مجالات: الرواية، الشعر، القصة..
ـ هناك في الشعر: عزالدين مناصرة، وليد سيف، تيسير سبول وعرار رغم غيابه. أما في الرواية فليس غير اثنين هما: تيسير سبول وأمين شنار، وهناك أسماء بدأت تظهر بعد ذلك مثل مؤنس الرزاز.. وفي القصة القصيرة: محمود الريماوي وجمال أبو حمدان ومحمود شقير.
* وما هي في رأيك أبرز مشكلة في الثقافة الأردنية؟.
ـ إذا سلمنا جدلاً بوجود مشكلة في هذا الحقل فهذه المشكلة المنعكسة من الحارة نفسها هي مشكلة الحارة أساساً ومشكلة الفهم لمعنى وأهمية الثقافة رسمياً وشعبياً هي: غياب المؤسسة الجادة والمنبر الجاد والسياسة الثقافية الجادة، إضافة إلى الأمية الثقافية المتفشية في أوساط ما نسميهم بالمتعلمين، كأنما لا يكفي هذا الواقع الأمية الأبجدية.. طبيعي لا أنسى فقر وفراغ المناهج التعليمية سواء في المدارس من الابتدائية حتى الجامعة، فلم تعد الجامعة مثلاً بؤرة ثقافية ومشغل ثقافي يخرج الأسماء والقادة والمبدعين في كافة الحقول الثقافية، غدى العلم مجرد ورقة تُسهل الحصول على وظيفة ما لننعم في فقر هذا الواقع تماماً.
* وعن النقد، هل ترى بأن النقد قد أنصفك؟
ـ أشار كثيرون ممن كتبوا عن أعمالي الشعرية إلى الغبن الذي يلحق بتجربتي الشعرية وصوتي، سيما في الأجهزة الفلسطينية الرسمية وإلى أني شاعر لا ينحني أو يخضع، فأنا مُصَنَّف كمشاغِب وبالتالي يظنون أن التعتيم على اسمي، كأن لا يظهر على شاشة التلفزيون أو لا يخرج صوتي في المذياع.. كأن ذلك كفيل بغيابي، لكنني غالباً ما أقفز إلى خطوة أبعد من كل ما يحاولون، ثم أني أرى، ليست المسألة في الإنصاف وعدمه من قبل من يتعاملون بالكتابة النقدية، فذلك ليس مهماً، على الأقل على مدى العقدين الأخيرين، حيث تلوث كل شيء وانغمر انتماءً وركضاً وراء ثقافة البترودولار ومنابرها التي تدفع غالياً، فأي كتابة إذاً تأتي لنا عبر هذه المنابر؟!.. مازلت أراهن على الصدق والحياة، وأني لن أصير إلى إنسان كامل، فأنا في الأخير شاعر إن لم تأت الشهادة.
* ما هو أهم حدث في حياتك وأثر على إبداعك وحياتك الشخصية؟.
ـ هناك حدثان بارزان، على الأقل، في تجربتي الشعرية. الأول: انتكاسة الثورة عبر مراحل تدهورها وانكماشها وارتدادها الذاتي وما عكس كل ذلك على روحي كإنسان وشاعر باعتباري ابناً لها، والحدث الآخر هو موت الأم والذي تجلى وانعكس في أكثر من كتاب وعلى أكثر من شكل أدبي، بما شكّل وأضفى من غنى وعمق فني على قصيدتي، ذلك أنها كانت الكتاب الأكثر تأنياً وعمقاً موغلاً في الألم.
* ما هي الوسائل التي ترى بأنها كفيلة بحل أو تجاوز الإشكاليات التي تخص الثقافة الأردنية؟.
ـ لا حلول لدي سوى الخروج من الفقر والفراغ الذي حُدد أو حددناه سابقاً، أما كيف؟ فذلك يعني الجميع وهذه مسؤوليتهم.
* وماذا عن الدوريات والملاحق الثقافية في الصحف والمجلات؟.
ـ لم تعد أية مؤسسة ثقافية تؤدي دوراً جاداً.. لا شهرية ولا فصلية ولا أسبوعية.
* ما هو المعوق الأساسي في أن يكون للمثقف دوراً مؤثراً على حركة الشارع والناس والحياة؟.
ـ لم يعد الآن بإمكان الكتابة أن تحرك شارعاً. كان ذلك في زمن بعيد.. فالإنسان المحتاج إلى رغيف لن تُحركه كلمة، وفِّر كرامته، حريته، طعامه، ساعتها سيكون قابلاً للاستقبال الثقافي بشكل عام ويعكس الصدى. الآن أصوات الكتابة هي أصوات بلا صدى، والكتابة ـ غدت ـ بالنسبة لي، شكلاً من أشكال العزاء الذاتي ولا أُعطيها دوراً أكبر من حجمها ولا أعول الآن على الأقل في المدى القريب والزمن المتاح.
* ماذا تقول حول دعوة البعض نحو أدب إسلامي؟.
ـ لا أتوقف أمام هكذا دعوات، هناك أدب أو لا أدب، ولا معنى لأن نضفي عليه عقيدة، لأن عقيدة الأدب الوحيدة هي: الحياة والإنسان.
* وكيف تنظر إلى مستقبل الأدب؟.
ـ مادام الإنسان باقٍ، ستبقى أشكال تعبيره وأشكال قوله كمتنفس للحياة، لأننا لن نصل في يوم ما إلى الكمال.. أو السعادة.
* ختاماً، ماذا تقول للوسط الثقافي الأردني؟.
ـ لو أخذت هذا الموقف لربما فُسر بغير معناه، ولربما يعيد البعض أوصافه القديمة حولي من البطريارك إلى الكومبراردور العائد.. إلى الأدب.. إلى غير ذلك، وأنا بعيد عن هذه المسميات والأوصاف.. لأقل فقط: إن الحياة أمامنا جميعاً فلنحاول أن نعثر لنا على معنى فيها، هذا المعنى الذي ربما يُوفره الإبداع كأفق قابل للإغناء بآفاق أخرى.