د. الضاوي خوالدية- تونس:
إن تسامح الثورة التونسية المفرط مع مشتقات "الجذر" المخلوع طمأن "هؤلاء" المشتقات، ثم طمعهم، ثم شجعهم على وضع خطط للإيقاع بالثورة والبدء بتنفيذها بكل دهاء وشراسة وأنانية و"صُحة عين".. منها ذكرا لا حصرا:
- اعتبار الثورة حركة احتجاجية لا غير أقصى ما تهدف إليه إصلاحات سطحية "حكومة الغنوشي ومحاولات إصلاح الدستور والاستفتاء والإسراع بانتخابات رئاسية والإبقاء على مجلس النواب وربيبه مجلس المستشارين...".
- زعزعة الأمن وتدمير الاقتصاد في كل المناطق المحرومة المقهورة، خاصة التي أنجبت الثورة وقدمت الشهداء بسخاء "اعتصامات المطالبة بزيادة الأجور وإيقاف الإنتاج في مؤسسات كبرى كشركة الفسفاط والمعامل الكيمياوية، وقطع الطرقات والدعايات وإثارة النعرات القبلية..." مرتزقة الخفاء لهذه الأعمال الشريرة تجمعيون وإداريون تجمعيون أيضا.
- رفع شعار المصالحة أولا وأخيرا التي تعني "عفا الله عما سلف" قنصا كان أو نهبا أو جلدا أو قتلا أو سجنا أو حكم عسف متخلفا أسود دام 23 + 33 سنة.
- تكوين عشرات الأحزاب المشتقة من التجمع بغية الحصول على "الحق" في وضع العراقيل في مسار الثورة.
- محاولة شراء اتجاهات سياسية وجمعيات وأفراد بمال سياسي هادفين إلى جعلهم أدوات تخريب للثورة الجارية وأمل الشعب في مستقبلها ومستقبله.
إن ما ذكرته قليل مختزل قد لا يكمل الصورة دون الإلمام بالصيحة الجديدة القديمة التي كادت تجعل كثيرين يصيحون صيحتهم وهي الاستفتاء الذي يرونه مخادعين داسين السبيل الوحيد إلى الانتقال إلى دولة شكلها ديمقراطي حقوقي مساواتي، ومضمونها استبداد بن علي زايد الطرابلسية، رافضين بداية انتخاب المجلس التأسيسي الذي سيقوم بكل المهام التأسيسية للدولة الجديدة، وعند فشلهم تشبثوا بقرنه بالاستفتاء الذي سيكبل هذا المجلس التأسيسي تكبيلا يجعله عاجزا عن البت في أمهات قضايا الشعب التونسي المعيشة والمستقبلية عالة على مقررات هيئات لا شرعية دستورية ولا قانونية لها، بل منصبة تنصيبا تحوم حوله شكوك كثيرة.
فما هو الهدف البعيد من هذه الضجة الكبرى حول ضرورة الاستفتاء الذي سيحدد مجال تحرك المجلس التأسيسي ويكون التصويت عليه يوم التصويت على المجلس التأسيسي؟
إن الإجابة لتبدأ بالتذكير بحد كل من انتخاب المجلس والاستفتاء، الانتخاب: عملية يدلي فيها الناس بأصواتهم للمترشح المفضل لديهم "من بين آخرين" القادر في نظرهم على تمثيلهم في المجلس المترشح لعضويته، والاستفتاء: إدلاء الناس بأصواتهم في مسألة دستورية أو سياسية مهمة.
المعروف أن الانتخاب يلغي الاستفتاء. كما في بريطانيا التي لم تستفت شعبها إلا مرتين، مكتفية بالانتخاب لأن انتخاب النواب من قبل الشعب يخولهم دستوريا البت في كل المسائل الدستورية والسياسية..
إنّ هدف الاستفتائيين البعيد، بعد فشلهم في إلغاء الانتخاب "المجلسي" الذي يبني الدولة الجديدة الديمقراطية، هو حصر مهامه في كتابة الدستور في فترة قصيرة ومنعه بالتالي من وضع الأسس المتينة لدولة الثورة الدولة الشرعية النظيفة من بقايا نظام بن علي، والمحافظة، كما يدعون وبعض الأحزاب والشخصيات على "حداثة بورقيبة وبن علي"، تلك الحداثة التي ما تركت قشرة من قشور حضارة الغرب إلا وردتها ونمتها وبثتها ونشرتها وما سمحت بجذوة من روح حضارة الأجداد، ولا بقبس من لبّ روح حضارة الغرب على دخول الوطن حتى أجدبت البلاد والعباد أو كادا، وغار دم حياتهما أو كاد لولا نزر من حمم بركان مختزن في أعماق الشعب ومدخر ليفجره في وجه من أراد الإجهاز عليه.
إنّ مأتى إصرارهم الحقيقي على تضييق مجال حركة المجلس التأسيسي والمحافظة على مكتسبات الحداثة المزعومة لرعبهم المرضوع من ثدي نظامين فاسدين من أي تيار ذي بعد تأصيلي عربي إسلامي قد يكون نجاحه باهرا في الانتخابات التأسيسية، فيؤسس دولة عربية إسلامية ديمقراطية مدنية، السيادة الحقيقية فيها للشعب تقطع مع ترّهات الماضي وأباطيله وعسفه البشع ومسخه التونسي مسخا لا مثيل له في التاريخ الحديث، وتبني مجتمعا متجذّرا في هويته وثقافته ومتفتحا وحديثا.
* dr_khoualdia@yahoo.fr
المصدر
Alarab Online. .