فوزي الأسمر
تقول صحيفة "واشنطن بوست" "18/ 9/ 2011" في مقال مطول لها إنه إذا كان هناك أي شيء تستطيع أن تعتمد على استمرار تدحرجه في الأمم المتحدة فهو الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. إنه الجرح الذي لا زال ينزف.
وهذا صحيح. فإذا ما عدنا وراجعنا ملفات هذه المؤسسة الدولية، والقرارات التي اتخذت بشأن القضية الفلسطينية منذ أكثر من نصف قرن، والتي لم يطبق منها سوى قيام دولة إسرائيل، لوجدنا أن هذا الجرح لا يزال ينزف، وسيستمر كذلك حتى يحصل الفلسطينيون على جميع حقوقهم.
وكلما تعمقنا في هذه القضية تضاربت الأمور في معظم الأحيان ويختل توازن تصرفات بعض الدول ومواقفها بالنسبة للقضية الفلسطينية، لدرجة أن دولا كبيرة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، تتغاضى عن فلسفتها وإنسانيتها والمبادئ التي تقوم عليها وتتخذ مواقف تتناقض معها، تمشيا ليس مع مصالحها فحسب، بل مع مصلحة إسرائيل. والواقع أن مصالحها كان يجب أن توجهها إلى الاتجاه الآخر.
ولعل المواقف الأخيرة لإدارة الرئيس باراك أوباما، وتعهده الشخصي بإستعمال حق النقض "الفيتو" ضدّ تطلعات الشعب الفلسطيني خير مؤشر على ما نقول. بمعنى آخر أن هذه الإدارة ترفض حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، في حين أن مبادئ الولايات المتحدة تدعو إلى حق الشعب في تقرير مصيره والحصول على حريته!!.
فليس غريبا أن تطلب أمريكا وبعض الدول الأوروبية من الفلسطينيين التنازل عن توجههم إلى الأمم المتحدة، ليس مقابل منحهم البديل العملي والجاد والذي يمكن تطبيقه لحل مشكلتهم، بل تعمل ذلك كي تحافظ على ماء وجهها، وتمشيا مع المطلب الإسرائيلي.
وتعرف هذه الدول أن التوجه الفلسطيني للمؤسسة الدولية هو بمثابة خطوة أخرى في مسيرة الشعب الفلسطيني للحصول على حقوقه، كون هذا التوجه لن يحل القضية الفلسطينية حسب رغبة شعبها.
فمسيرة الشعب الفلسطيني حافلة بالكفاح والنضال، حاول فيها الفلسطينيون التوصل إلى حل لقضيتهم بطرق مختلفة من الكفاح المسلح إلى الإعتراف بأن فلسطين تابعة لشعبين، الشعب الفلسطيني والشعب الإسرائيلي، وعبر إتفاقيات "أوسلو وواي بلانتيشن وكامب ديفيد وغيرها" ومحادثات مستمرة، ولقاءات سرية وعلانية، وقدمت القيادات الفلسطينية التنازل تلو الآخر وكلها باءت بالفشل وبقي صوتهم صراخا في البرية.
فالسبب الرئيسي في هذا الفشل، كما هو معروف للجميع، هو التصلب الإسرائيلي في رفض كل ما قدمه الفلسطينيون "والعرب كذلك"، والاستمرار في مصادرة الأراضي وبناء المستعمرات اليهودية، وفوق كل شيء عدم اعتراف إسرائيل بأن أرض فلسطين تابعة لشعبين. وبعض المسؤولين في الزمرة الحاكمة في إسرائيل اليوم يقولون بصراحة إن "أرض إسرائيل" تابعة للشعب اليهودي فقط.
لقد عقد الكثيرون الأمل على الرئيس الأمريكي باراك أوباما خصوصا في أعقاب خطابه التاريخي في جامعة القاهرة. ولكن هذه الآمال تساقطت مثل أوراق الخريف خلال مسيرته السياسية، ووصلت لدرجة أن إدارته تريد أن تتصدى لحق الشعب الفلسطيني، وتتحدى العالمين العربي والإسلامي اللذين تحدث إليهما أوباما مباشرة من القاهرة طالبا الوصول إلى تفاهم معهما. وقد وجد نداءه هذا تجاوبا كبيرا.
فهذه الإدارة التي تنادي في كل صباح ومساء بضرورة تطبيق الديمقراطية في العالم وخصوصا في العالم العربي، وتنزل العقوبات على الدول التي لا تتماشى وسياستها وسياسة إسرائيل، ولكنها تقف قاصرة مترنحة أمام مطالب إسرائيل.
لقد برهن الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة في آخر انتخابات لهم أنهم ديمقراطيون، وأنهم على مستوى المسؤولية، إلا أن ديمقراطيتهم لم تحصل على رضى إسرائيل، وبالتالي على رضا الولايات المتحدة، لأنها لا تتماشى مع مطالب إسرائيل وأمريكا.
ولكن البعد الآخر الكامن في هذا التحرك الفلسطيني نحو الأمم المتحدة، وتعرفه أمريكا وإسرائيل والدول الأوروبية وكل من المهتمين بالصراع الشرق أوسطي، أن هذا التحرك هو بمثابة خطوة وليس حلا. فالقضية الفلسطينية لا تنتهي بقيام دولة فلسطينية على جزء من أرض فلسطين. فهناك ثوابت لا يمكن لأي رئيس فلسطيني التنازل عنها في مقدمتها حق العودة والتعويضات.
فإسرائيل من ناحيتها تريد أن يكون أي اتفاق بمثابة اتفاق نهائي، بمعنى أن يتنازل الفلسطينيون عن كل حقوقهم مقابل دولة لا تحل إلا جزئيا مشكلة سكان الضفة والقطاع فقط. وهناك جدال حول هذه النقطة بالذات حتى بين الفلسطينيين أنفسهم، ولكن من هو صاحب الحق الذي يستطيع أن يقول لأي شخص فلسطيني أن ليس له حق بالعودة إلى وطنه وأرض أجداده؟
وكان هناك اعتقاد، لا يزال سائدا عند البعض حتى اليوم، يقول إن تفتيت القضية الفلسطينية، وتشعبها سيؤدي في نهاية المطاف إلى تحجيم القضية وبالتالي حقوق شعبها، وسيجد الفلسطينيون طريقهم داخل الدول العربية والمهجر وتنتهي القضية بشكل أو آخر. إلا أن الأمور لم تسر حسب هذه الأهواء، فكلما اعتقد البعض أن هذه القضية سقطت عن سلم أولويات الاهتمامات للشعوب العربية يحدث ما يبرهن عكس ذلك.
فالتطورات الأخيرة في المنطقة برهنت أن لا إستقرار ولا سلام دون حل عادل ومقبول للقضية الفلسطينية، وأن هذه القضية هي صاحبة الشرعية الأساسية في منطقة الشرق الأوسط، وأن الوصول إلى قلب وعقل الأمة العربية لا يمكن أن يتم إلا عن طريق الدعم للحق الفلسطيني.
فقد عبر عن ذلك بوضوح وصراحة سمو الأمير تركي الفيصل، في مقال له في صحيفة "نيويورك تايمز" "13/ 9/ 2011" حيث قال إنه: "يجب على الولايات المتحدة أن تؤيد التوجه الفلسطيني إلى الأمم المتحدة لإقامة دولتهم هذا الشهر وإلا خاطرت في خسارة المصداقية القليلة الباقية لها في العالم العربي".
ويقول الفيصل إن إستعمال الفيتو سيؤدي إلى عواقب سلبية، إضافة إلى "أنه سيؤدي إلى إلحاق أضرار كبيرة بالعلاقات الأمريكية- السعودية وسيؤدي إلى اضطرابات لدى المسلمين في العالم".
والأمر لا يقتصر على الأمير تركي الفيصل العربي؛ فقد أظهر استطلاع للرأي العام العالمي قامت بتمويله "شبكة الإذاعة البريطانية" "BBC" وبثته يوم 19/ 9/ 2011 أن 49 بالمائة من الذين شاركوا في الاستطلاع يؤيدون قيام دولة فلسطينية ويعارض ذلك 21 بالمائة، و30 بالمائة إما ليس لديهم رأي أو قالوا إن على حكوماتهم أن تقرر. وقد شارك في هذا الإستطلاع للرأي العام 20,446 شخصا ينتمون إلى 19 دولة.
كما أن الصحافة العبرية نشرت العديد من المقالات لكتاب كبار، ولسياسيين مخضرمين يطالبون حكومتهم بالإعتراف بالدولة الفلسطينية كسبيل وحيد لحل النزاع. كما قامت حركة في إسرائيل تجمع التوقعيات حول نفس الموضوع على أمل التأثير على حكومتهم.
لقد حان الوقت للعالم أن يستفيق على حقيقة ما يجري ويعرف أن الشعوب لا تتنازل عن حقوقها مهما طال الزمن، وأن يعرف حقيقة إسرائيل وتصرفات أمريكا التي تتناقض من المبادئ والقوانين الإنسانية والمقولة الأمريكية الشهيرة: "السيادة تكمن في الشعب" و"نحن الشعب". والفلسطينيون شعب وله كل الحقوق كباقي الشعوب.
Alarab Online. © All rights reserved.