ما الذي دفع الرئيس "أبو مازن" إلى دفع الأمور إلى حافة الهاوية بإعلانه أن الطلب الفلسطيني سيقدم إلى مجلس الأمن للحصول على العضوية الكاملة، وإلى تجاهل الجهود الأميركية والدولية الرامية إلى استئناف المفاوضات، والجهود الأوروبية الرامية إلى ذات الهدف، ولكن ضمن صفقة يتجه من خلالها الفلسطينيون إلى الجمعية العامة، للحصول على "عضو مراقب" لدولتهم؟
كيف سنضمن عدم عودة الفلسطينيين من الأمم المتحدة بـ"خفي حُنين"، وذلك بعدم تمكنهم من الحصول على الأصوات التسعة في مجلس الأمن لكي يعرض الأمر للتصويت، أوبعدم عرضه على التصويت أصلًا بموافقة أو دون موافقة من الفلسطينيين، فهذه النتيجة ممكنة في ظل عدم تمتع الطلب الفلسطيني بأغلبية مريحة، لأن القاعدة الوحيدة المتبعة في مجلس الأمن بأنه لا يوجد قواعد، فكل شيء ممكن إذا كان هناك توافق عليه، ومستحيل إذا لم يوجد التوافق، فيمكن لمجلس الأمن أن يؤجل النظر في الطلب الفلسطيني لحين تطور عملية السلام، أو يكتفي ببيان يحدد الأسس العامة لـ"عملية السلام"، وهذه صفعة كبيرة لا يقلل من وقعها البطولة الكامنة في الجرأة في تقديم الطلب إلى مجلس الأمن على الرغم من المعارضة الأميركية والإسرائيلية.
يجب دراسة الأمر بدقة، ولو اقتضى تقديم مشروع القرار مع الطلب، أو التوجه في اللحظة الأخيرة إلى الجمعية العامة لمنع احتمال عدم عرض الأمر للتصويت في مجلس الأمن (وهذه هزيمة)، أو بعدم الحصول على الأعضاء التسعة اللازمين (وهذه هزيمة مضاعفة).
يجب أن نتذكر أننا وقّعنا اتفاق المصالحة ولم نطبقه، ودعونا إلى المفاوضات ولم تستأنف، وحددنا مواعيد لإجراء الانتخابات المحلية ولم نلتزم بها، ولا نريد أن نذهب إلى الأمم المتحدة ونعود دون دولة ذات عضوية كاملة أو مراقبة، ما سيسبب إحباطًا كبيرًا في صفوف الفلسطينيين، ونصرًا مريحًا لإسرائيل.
لا بد من الحصول على أغلبية كبيرة مريحة في مجلس الأمن حتى تضطر الإدارة الأميركية لاستخدام الفيتو، وليمهد ذلك الطريق للذهاب إلى الجمعية العامة ونحن أقوياء ومنتصرين، فعدم اضطرار الولايات المتحدة لاستخدام الفيتو أو عدم التصويت في مجلس الأمن يجعلنا ضعفاء وإمكانية نجاحنا في الجمعية العامة أقل بكثير.
جاء موقف "أبو مازن" في خطابه الأخير "تعبيرًا عن الغضب الشديد من الموقف الأميركي" الذي عبر عنه مبعوثَا الرئيس الأميركي "هيل" و"روس"، اللذان حملا تهديدات أميركية أقوى من السابق، وصلت حدَ نقل رسالة له "بأن التوجه إلى مجلس الأمن سيعتبره باراك أوباما بمثابة صفعة" و"اعتداء شخصي على رئيس الولايات المتحدة الأميركية".
هذا بالإضافة إلى إعادة طرح مسودة لبيان لا يختلف كثيرًا عن الذي طرحته هيلاري كلينتون على أطراف اللجنة الرباعية في شهر تموز الماضي، ورفضته روسيا وأوروبا والأمم المتحدة؛ لأنه يشكل تراجعًا عن موقف الرباعية، وعن الموقف الأميركي نفسه.
وما يساعد على تفسير قرار التوجه إلى مجلس الأمن، أن طرح مبعوث اللجنة الرباعية توني بلير وكاترين أشتون (ممثلة الاتحاد الأوروبي) لم يكن بعيدًا عن نظيره الأميركي، حيث طالبوا بعدم الذهاب إلى الأمم المتحدة، وإذا ذهب الفلسطينيون فليذهبوا إلى الجمعية العامة، وأوروبا ستصوّت لصالحهم إزاء نص مشروع القرار على ما يأتي:
§ ألا تذهب القيادة الفلسطينية قبل أو بعد حصولها على العضوية المراقبة لدولة فلسطينية إلى مجلس الأمن للحصول على العضوية الكاملة.
§ أن تلتزم بالعودة إلى المفاوضات الثنائية دون شروط.
§ ألاّ تقدم طلبًا للدخول إلى محكمة الجنايات الدولية.
§ الإلتزام بما جاء في البيان الأوروبي في كانون الأول 2009، وخطاب أوباما في أيار 2011.
أبو مازن وجد نفسَه في وضع صعب، فمن جهة، الفيتو الأميركي يقف له بالمرصاد في مجلس الأمن، وما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من تدهور في العلاقات الأميركية – الفلسطينية، ومن جهة أخرى، تصويت أوروبا لصالح القرار الفلسطيني ليس مضمونًا في مجلس الأمن ولا في الجمعية العامة إلا إذا أخِذت مطالُبها، التي يعني الأخذ بها تقييد اليد الفلسطينية وتفريغ الإنجاز الفلسطيني الممكن (الدولة غير العضو) من معظم إيجابياته. وهذا يجعلها مدخلًا للعودة إلى المفاوضات دون شروط، وهذا أسوأ ما يمكن حدوثه للفلسطينيين، لأنه يعني عودتهم إلى "بيت الطاعة الإسرائيلي" وهم أضعف بكثير مما كانوا عليه عندما خرجوا منه.
أبو مازن يريد الجمعية العامة مع تصويت أوروبي، وإلا يذهب إلى مجلس الأمن، لممارسة أقصى الضغوط على الإدارة الأميركية واللجنة الرباعية، لعلها تقدم عرضًا أفضل لاستئناف المفاوضات في اللحظة الأخيرة، لأن قرارًا من الجمعية دون أوروبا لا يعطيه الكثير، بل ستؤيده الدول التي أيدته سابقًا واعترفت بالدولة الفلسطينية دون قرار دولي.
تأسيسًا على ما سبق، فإن خيار اللجوء إلى الأمم المتحدة كوسيلة تكتيكية لاستئناف المفاوضات فشل قبل أن يبدأ. فاستئناف المفاوضات بعد التوجه سواء بحصول الفلسطينيين على دول مراقبة أو بدونها دون التزام إسرائيلي مسبقًا بإنهاء الاحتلال، وإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، ووقف الاستيطان وقفًا تامًا، تعني انتحارًا سياسيًا. فالحصول على العضوية المراقبة لا يعني تلقائيًا أن مرجعية وقواعد المفاوضات قد تغيرت، وأنها ستكون تفاوضًا بين دولتين، على أراضي دولة تحت الاحتلال، وليس على أراض متنازع عليها، فالأمر الحاسم هنا ما يتفق عليه كمرجعية للمفاوضات.
لقد فاوض الفلسطينيون إسرائيل، خصوصًا منذ مؤتمر أنابوليس نهاية 2007 وحتى الآن دون مرجعية على الرغم من أن القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ينصان على الحقوق الفلسطينية المتمثلة بحق العودة وتقرير المصير، وعلى إنهاء الاحتلال الذي وقع عام 1967، لذا إذا لم يصر المفاوض الفلسطيني على هذه المرجعية، وعلى موافقة إسرائيل عليها، فلا معنى لها، فلا يكفي موافقة المجتمع الدولي، بل المطلوب موافقة إسرائيل (الدولة المحتلة)، وهذا غير متوفر الآن على الإطلاق، فإسرائيل تحكمها أسوأ وأكثر حكومة تطرفًا منذ تأسيسها، والمؤشرات تفيد بأن الحكومة القادمة ستكون أكثر تطرفًا.
إن الحقيقة واضحة كالشمس، فلا يمكن إخفاؤها بغربال، ولا يريد البعض منا رؤيتها، ويريد تأجيل المحتم وهو أن طريق المفاوضات الثنائية أغلق نهائيًا ولا يمكن فتح طريق المفاوضات إلا بتغيير موازين القوى بصورة جدية ملموسة، بحيث يمكن فرض حل على إسرائيل يحقق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، وإذا أصرّت على رفضه سيكون أو سيصبح وجودها نفسه ومستقبلها محل تساؤل.
إن اللجوء إلى الأمم المتحدة لا ينسجم مع العودة إلى المفاوضات، لأن اتفاق أوسلو يقوم أساسًا على اعتماد المفاوضات الثنائية كأسلوب وحيد لحل الصراع، وهو رد طبيعي وضرورة وطنية، لأن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تجاوزته منذ زمن طويل.
أبو مازن أمام لحظة الحقيقة، فإما مواصلة اعتبار المفاوضات "الخيار الأول والثاني والثالث"، وتصوّر إمكانية استئنافها بعد تحسين شروطها. أو أن يعتبر الذهاب إلى الأمم المتحدة نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة، وجزءًا من إستراتيجية جديدة متكاملة يجب أن تستند إلى عدالة القضية، وإلى الربيع العربي، والمتغيرات الإقليمية والدولية، وإلى ضرورة إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، وتنظيم مقاومة شعبية شاملة، والاستناد إلى العمق العربي والدعم الدولي.
فأي خيار سيختار أبو مازن؟
هل استمرار السير وراء وهم المفاوضات الثنائية، ولا يهم كثيرًا في هذه الحالة متى وكيف ستستأنف المفاوضات، أو سنبقى في حالة انتظار لاستئنافها، لأنها ستكون استمرارًا للكارثة. وفي هذه الحالة يمكن إخضاع كل شيء لمدى مساهمته في استئناف المفاوضات، ما يعني ضرورة استبعاد المواجهة الحقيقية مع الإدارة الأميركية، بحيث يكون عدم التصويت في مجلس الأمن واردًا بموافقتنا، أو رغمًا عنا، أو بغض النظر منا.
أم بداية لمسار جديد ينقل ملف القضية الفلسطينية برمته إلى الأمم المتحدة، وفي هذا السياق ستستخدم الإدارة الأميركية الفيتو، وما يمكن أن يقود إليه ذلك من تدهور شامل. وقد يكون من المناسب التوجه في هذه الظروف القائمة الآن إلى الجمعية العامة أولًا، مع عدم الخضوع لأضعف المواقف الأوروبية، فأوروبا لا يستطيع عدد كبير من بلدانها إلا أن يأيدنا، على أن نذهب بعد ذلك في الوقت المناسب إلى مجلس الأمن، ضمن إستراتيجية شاملة مثابرة متعددة الفصول والمراحل والأبعاد وطويلة الأمد، وتستعد وتفتح كل الخيارات والبدائل الأخرى، بما في ذلك خيار حل السلطة، أو انهيارها، أو إعادة النظر في شكلها ووظائفها ومكانها في النظام السياسي الفلسطيني، كأداة في يد المنظمة لخدمة البرنامج الوطني، ومرحلة على طريق إنهاء الاحتلال، وإنجاز الحرية والعودة والاستقلال.
هاني المصري
معا الاخبارية
Hanimasri267@hotmail.com