لمحة عن تاريخ سورية
سكن الأنسان سورية منذ اقدم العصور وترك شواهد وأثار مادية كثيرة تدل على نشاطه ووجوده فالهياكل العظمية البشرية التي اكتشفت حتى الان ترحع الى حوالي 100 ألف سنة، في حين أن بعض البقايا الأثرية المكتشفة تعود الى ما قبل 150 ألف سنة ويمكن اعتبار سورية المنطقة التي تم فيها تدجين القمح واختراع الخزف واكتشاف المعادن وهي من أهم منجزات انسان ما قبل التاريخ . لهذا يصف المؤرخون سورية بأنها ، خلاصة لتاريخ العالم.
فعلى شاطئها اخترعت أول أبجدية في العالم (أبجدية أوغاريت) قرب اللاذقية التي أصبحت أما للأبجديات المعروفة كافة ، وكان لها ابلغ الأثر في نشر العلم والثقافة بين بني البشر ، ولهذا فأنها تعتبر من أعظم المكتسبات للانسان، فيها دمشق أقدام مدينة ما تزال موجودة على الأرض .
سورية عبر العصور
أنت في سورية. أنت اذا حيث للتاريخ صوت ، وللتراب أريج الحضارات. سهولها ليست كالسهول، ولا جبالها ، ولا بواديها: اقلب أي حجر فيها، أي ذرة من تراب تجد ألف تاريخ يتكلم. وأنت تكاد لا تذكر أي مكان على أرضها حتى تتوهج أمام عينيك قصص المجد وتتزاحم عندك ذكريات الدأب الانساني المبدع كله منذ كان الانسان : ماري، ايبلا، حبوبة، أوغاريت، قادش، عمريت، آفاميا، دورا أوروبوس، تدمر، بصرى، شهبا، الرصافة….. أسمعت يتل الحريري؟ حفروا فيه بضعة أمتار فوجدوا مملكة باهرة الحضارة ، مملكة (ماري).
وهل سمعت بتل مرديخ؟ بضعة أمتار أخرى ووجدوا مملكة (ايبل) الحاضرة المزهرة التي خلبت عقول الباحثين والمكتشفين ولا تزال، وتل رأس الشمرة؟ هناك اكتشفوا(أوغاريت) الحاضرة التي كانت ينبوع ثقافة وتثقيف للبشرية كلها .
وتل حلف؟ وتل أحمر؟ وتل الخويرة ؟ وتل الرماد؟ وتل سوكاس؟ وتل حبوبة الكبيرة؟ ..تلال…تلال…خبأت في رحمها ممالك وقصور ومدائن كما تخبئ الصدفات اللؤلؤ والمرجان.
ألم أقل لك ان سهول سورية ليست كالسهول ؟ وان تلالها ليست كالتلال ؟ فغلى الأرض السورية ولدت أروع الحضارات، وتفاعلت أعظم المدينات، وأبدع الانسان المنجزات التي لا تزال ترفع البشرية في نعمائها حتى اليوم: هذه الفترة البعيدة من حياة الانسانية لازالت بقاياها متناثرة في أكثر من مكان في سورية
. حضارة المعدن نشأت في (تل حلف) على ضفاف الخابور ، ومن قبل ذلك كان ابتكار شي الصلصال وجعله خزفا وزخارف . وتتابعت الابداعات والانجازات منذ الألف الثالثة قبل الميلاد : في مملكة(ماري) على الفرات كانت قصور ورسوم وكان ازدهارتجاري وثقافي مشهود. مملكة (أوغاريت) على الساحل السوري قدمت للانسانية. ابتكارها المعجز:الأبجدية الأولى في العالم ، أما مملكة (أيبلا) فقد اكتشفت في قصرها الملكي أروع وأضخم مكتبة وثائقية تنظم أمور التجارة والدبلوماسية والصناعية وعلاقات الحرب والسلم مع الممالك الأخرى، اذا أن سلطان (ايبلا) ونفوذها امتدا من جبال الأناضول شمالا حتى سيناء جنوبا ومملكة (أكاد) شرقا، وكانت ذات شهرة عريضة بصناعتين هامتين: المنسوجات الحريرية الموشاة بخيوط الذهب، والخشب المحفور والمطعم بالعاج والصدف
… ولا تزال سورية حتى اليوم وبعد أكثر من ثلاثة آلاف عام تشتهر بهاتين الصناعتين فالبروكار السوري الحريري ذو الخيوط الذهبية فريد من نوعه في العالم، والموزاييك السوري الخسبي المطعم بالصدف والعاج أجمل الهدايا التي يتبادلها الناس في كل مكان. ولكن سورية اليوم لا ترى نفسها مجرد متحف كبير متنوع تتراكم فيها آثار الحضارات البشرية واحدة فوق أخرى. فسورية تفخر، لا شك بهذا التراث العريق الحافل الذي تضمه أرضها ، ولكنها لا تريد أن يتحجر التفاتها الى الماضي، بل تريد كل يوم أن يكون هذا الماضي المجيد حافزا يدفعها الى ان تتطلع الى أمام، وتستشرف المستقبل فتسابق الزمان وتحتل مكانها اللائق تحت الشمس
. فشعبها العربي الذي عركته التجارب على مر العصور يعرف ان على كاهله مسؤوليات جساما تتطلب ألاتكون انجازاته اليوم وتطلعاته المستقبلية بأقل من انجازات أجداده المتناثرة في كل من أرضه العريقة. شعب سورية العربي يعرف أن عشرات من أهم معارك التاريخ جرت على هذه الأرض، ولكنه يعرف أيضا أنه مثلما هو مطالب بخوض معركة الدفاع عن ترابه وتخومه وثغوره فانه مطالب بأن يخوض معركة هائلة التحديات ألا وهي معركة البناء والتنمية والتطوير
. فاذا ما لمحت أبراج المعامل تطاول أعمدة التاريخ ، والسدود تتناثر على امتداد الأراضي السورية جنبا الى جنب مع العصور والأوابد وىلآثار القديمة ، والمدارس والمنشآت الثقافية ترتفع أبنيتها في ظلال قلاع الماضي وأقواس مجده فاعلم أن المستقبل على هذه الأراض انما يستمد زخمه وقوته من ذلك الماضي الباهر. حين تبين أن مياه بحيرة الأسد ستغمر، لدى تشكلها بعد انشاء سد الفرات العظيم، مئذنتين (مسكنة) و (المريبط) الأثريتين تقرر انقاذهما وتم نقلهما حجرا حجرا الى مكان مرتفع لاتطاله المياه انقاذ هذه الأوابد كان رمزا الى أن الشعب العربي السوري حريص على المستقبل حرصه على الماضي وأنه يريدهما أن يتعايشا معا. على أرضه مجدين يعانق أحدهما الآخر.
لهذا حين تأتي الى هذه الأرض الطيبة ستجد أنك في رحاب التاريخ وفي رحاب المستقبل ، وأنك تشهد في اللحظة ذاتها: الأمس، واليوم، والغد جميعا.
التاريخ العام من خلال المكتشفات الأثرية سورية قبل التاريخ خلال العصور الحجرية:يبدأ العصر الحجري القديم الباليوليت في سورية منذ مليون عام وينتهي عام 12 ألف ق.م.
أما العصر الحجري الوسيط فيمتد من عام 12 ألف ق.م إلى عام 8 آلاف ق.م. ويبدأ العصر الحجري الحديث قبل الفخار منذ ذلك التاريخ وحتى الألف السادس ق.م ويمتد عصر الفخار حتى الألف الرابع ق.م.
يقع أقدم موقع للعصر الحجري القديم نراه في سرير نهر الكبير الشمالي وهو يعود إلى مليون عام، ثم نرى في حوض العاصي آثار هذا العصر ولكنها تعود إلى نصف مليون عام. وفي غربي اللطامنة (1) شمالي حماه عثر على موقع لهذا العصر يعتبر من أهم المواقع ومن أندرها في العالم، عثر في سرير النهر على آثار معسكر بشري محفوظ ضمن طبقة من الرمل والطمي مؤلفة من أدوات حجرية فؤوس، سواطير ومكاشط وتبين أن الإنسان كان يستفيد من النار.
وثمة مغائر في يبرود (2) كشفت عن آثار الإنسان القديم الذي عرف بالترحال، فلقد تعاقب على هذه المغائر مجموعات بشرية خلال خمسين ألف عام انتشرت في أنحاء سورية، وقد استعمل الإنسان وسائط حجرية جديدة وجدت في الكوم البادية حيث الينابيع. ثم ظهر إنسان النياندر تال الذي أصبح أكثر حضارة، فهو نحات ماهر استفاد من العظام في صناعة بعض الأدوات، كما استفاد من قدح النار ومن ألوان التراب لتزيين أدواته وأجسامه، ومارس دفن الموتى في طقوس محددة.(3)
وفي أواخر هذا العصر عاش الإنسان العاقل 40ألف ق.م وهو السلف المباشر للإنسان الحالي.
المكتشفات الأثرية قبل التاريخ تبين اللقى الصوانية التي تم اكتشافها في المواقع الأثرية التي تعود إلى ما قبل التاريخ طريقة التعامل مع الحياة لتحقيق الاستقرار والأمن، ولعل أكثر هذه اللقى هي أدوات حربية بذاتها، كان الإنسان القديم يستخدمها قبل اكتشاف المعدن، من الحجر الصوان القاسي، وكانت هذه الأسلحة ضخمة غليظة في العصور الحجرية القديمة، ثم أصبحت دقيقة مشذبة في أواخر العصر الحجري الحديث. ولقد اكتشف في موقع "أم التلال" بين تدمر والفرات على أدوات راقية الصنع ومثالها رأس نبلة من الصوان، ونصيلات مستقيمة أو ملتوية. ولقد عثر على أدوات تحمل بقايا القار الذي استخدم منذ ذلك الزمن لتثبيت الأدوات على المقابض أو الرماح. و دلّت التحاليل على أن هذا القار عولج بالحرارة بشكل منظم. وفي الجرف الأحمر على الفرات، عثر على أدوات صوانية عسكرية نقشت عليها رسوم هندسية ورموز وحيوانات. وهذه الأدوات التي تعود إلى 11 ألف عام تأخذ شكل القدوم والمكاشط والثواقب والأنصال ورؤوس السهام التي عثر على أنماط منها في مواقع: الخيام وحلوان والمريبط... ولكن في "الجرف الأحمر" كانت ثمة أدوات عسكرية مصنوعة من العظم على شكل إبر بعيون مشروطة، وأنصاب بلطات مصنوعة من قرون الأيل، ولقد ثبتت هذه الأدوات مع مقابضها، التي اكتشفت لأول مرة في هذه الموقع.
على أن موقع تل صبي أبيض على البليخ قدم لنا نموذجاً لمستقر محصّن يعود إلى الألفين 12-13ق.م.
وفي موقع الكوم - قدير على بعد8كم شمالي تدمر تم اكتشاف موقع أثري يعود إلى الألف السابع ق.م وكان الإنسان قد سيطر بقوة على الزراعة وتدجين الحيوان، واستطاع أن يستقر ويبني بيوتاً فوق أكمة قرب نبع غزير، وقد بدت هذه المجموعة السكنية متناسقة بينها فسحات وأزقة، وكانت البيوت كبيرة أو صغيرة ذات غرف مخططها مضلع وذات جدران خارجية متينة ومدعمة القواعد، واعتني بتوزيع المجاري لتسريب المياه، مع أركان لإشعال النار فيها موقد أو تنور، ولقد عثر في الموقع على أحجار كريمة مما يشير إلى أن السكان كانوا يمارسون التجارة. وهذا التل كشف عن أسلوب حياة البدوفي العصر الحجري الحديث..
وفي تل حالولة على الفرات اكتشف نظام مماثل لتسريب المياه يعود إلى 8700ق.م واستمر الاستطيان حتى 200سنة، ويمتاز هذا التل بتقدم صناعة الأدوات والأسلحة من الصوان الأسود الأبسيدي والكوارتز ومثالها رؤوس سهام وهياكل المناجل المركبة بظهور محدبة وشفرات ومكاشط. كما يمتاز هذا التل بالعثور على آثار سور.
وكما ذكرنا فإن أهم المواقع الأثرية في العصر الوسيط والحديث تل المريبط الذي يقع على الضفة اليسرى للفرات مقابل مسكنه بالس، وهو موقع يعود إلى 8500ق.م وهو العصر النطوفي المنسوب الى وادي النطوف في فلسطين، ومن حسن الحظ أن عمليات التنقيب السريع التي جاءت قبيل غمر الحوض بمياه سد الفرات، قد وصلت إلى اكتشاف أقدم منزل مبني، وهو مسكن دائري محاط بسياج ارتفاعه 70سم من ألواح الطين المجفف المدعم بأعمدة الحور الفراتي، وقد غطيت بطبقة طينية دفن تحتها جثة أحد الأجداد، وفي وسط المنزل موقد، واكتشف حوله أدوات صوانية كالمنجل والمكشط والمنكاش والمخرز والمثقب والمسنَ.
وكان ثمة منازل شتوية وأخرى صيفية، ومن ميزات هذه البيوت صغر حجمها، وكان بلاطها الحجري ملوناً أحياناً كما كانت جــدرانها مـزينة
ببعض الأشكال الهندسية، أما السقوف فكانت مغطاة بطين مدكوك مع الأعشاب، مما نراه في بيوت القرى الشمالية اليوم.
وفي تل حالولة على الفرات اكتشف نظام مماثل لتسريب المياه يعود إلى 8700ق.م واستمر الاستطيان حتى 200سنة، ويمتاز هذا التل بتقدم صناعة الأدوات والأسلحة من الصوان الأسود الأبسيدي والكوارتز ومثالها رؤوس سهام وهياكل المناجل المركبة بظهور محدبة وشفرات ومكاشط. كما يمتاز هذا التل بالعثور على آثار سور.
وكما ذكرنا فإن أهم المواقع الأثرية في العصر الوسيط والحديث تل المريبط الذي يقع على الضفة اليسرى للفرات مقابل مسكنه بالس، وهو موقع يعود إلى 8500ق.م وهو العصر النطوفي المنسوب الى وادي النطوف في فلسطين، ومن حسن الحظ أن عمليات التنقيب السريع التي جاءت قبيل غمر الحوض بمياه سد الفرات، قد وصلت إلى اكتشاف أقدم منزل مبني، وهو مسكن دائري محاط بسياج ارتفاعه 70سم من ألواح الطين المجفف المدعم بأعمدة الحور الفراتي، وقد غطيت بطبقة طينية دفن تحتها جثة أحد الأجداد، وفي وسط المنزل موقد، واكتشف حوله أدوات صوانية كالمنجل والمكشط والمنكاش والمخرز والمثقب والمسنَ.
وكان ثمة منازل شتوية وأخرى صيفية، ومن ميزات هذه البيوت صغر حجمها، وكان بلاطها الحجري ملوناً أحياناً كما كانت جــدرانها مـزينة
ببعض الأشكال الهندسية، أما السقوف فكانت مغطاة بطين مدكوك مع الأعشاب، مما نراه في بيوت القرى الشمالية اليوم.
تل براك قبل أن نتحدث عن إيبلا وماري والدخول في بداية التاريخ، لابد أن نعرض للحديث عن تل براك الذي يقع غربي نهر "جغجغ" أحد روافد نهر الخابور وعلى بعد 42 كم من مدينة الحسكة. و على هذا التل كان مقر "نارام سين" وكان قوي التحصين منيعاً.
ولقد شهد هذا التل أحداثاً عسكرية هامة، امتدت خلال حقبة طويلة من الزمن أي من الألف السادس إلى الألف الثاني ق.م، وفي هذا التل عُثر على بناء مدرج ومعبد وفيه عُثر على محتويات هامة، ففي المعبد عُثر على تماثيل حيوانات وأقنعة بشرية وعيون أصنام حتى سمي بمعبد العيون ، وتعود الى الحقبة 3500 - 3300 ق.م.
وفي معبد "تل براك" هذا عُثر على مئات من التماثيل وآلاف من الكسر الحجرية والرخامية تمثل أشخاصاً لم يعرض منها إلا الكتفان والرقبة والعينان البارزتان جداً، مما يدل على استخدام سحر الإصابة بالعين، فهي إذن تمائم لتحمي من الشر والعدو. ولعلها تعاويذ قدمها السكان إلى المعبد تعبيراً عن تفانيهم لصد العدوان المحتمل الذي يهدد المدينة. وثمة تمائم عُثر عليها في المعبد في شرفة العيون، تمثل حيوانات كالضفدع والقنفد والدب والأسد.
تل حبوبه ليس بعيداً عن تل براك. اكتشف "تل حبوبه كبيرة" على الضفة اليمنى للفرات الأوسط والذي يعود إلى 3500-3300ق.م مع موقعين آخرين هما "قناص" و"جبل عرودة"، وهذه المواقع تعتبر من أهم المواقع الأثرية في الشرق الأدنى.
لقد بدا مخطط "حبوبة" واضحاً تماماً بعد عمليات التنقيب التي تمت منذ عام1969. فعلى ضفة الفرات وخلف أسوار منيعة ظهرت المدينة بمخططها المنتظم وأبنيتها الآجرية مقسمة إلى أحياء سكنية، وأحياءً للمشاغل ومنطقة إدارية فيها أثر للقصر والمعبد وإلى الجنوب امتدت بساتين مروية(9).
بلغ عرض سور "حبوبه" ثلاثة أمتار مدعم بالأبراج التي تنتهي بمحارس في أعلاها، وعلى السور أفاريز أو نتوءات أمامية وخلفية على مسافات متساوية تذكرنا بأسوار قلعة حلب، وأمام السور الرئيسي يقوم سور آخر أضعف وأقل عرضاً. وكان للسور بوابتان. ولم يبق من هذا السور الحصين إلا المداميك السفلى، أما في الجنوب فلقد زالت آثاره، بسبب العوامل الجوية والأمطار، ولعل السور كان ممتداً حول مساحة 18هكتاراً.
لقد عاشت "حبوبه" ما يقرب 150عاماً، ويدل السور على وجود تهديد خارجي أدى إلى هجرة السكان. ومضت قرون عديدة حتى عاد الإنسان لاستيطان هذا التل.
لقد عثر في تل "حبوبة" على كثير من اللقى، منها أختام لربطات أكياس مختومة على الطين تمثل أسوداً وطيوراً وثعابين وعقارب لطرد الشر والأذى والعدوان، وعليها أرقام رمزية استخدمت لأول مرة في التاريخ.
لقد كانت هذه الأختام الطينية تمسك رباط الأكياس التي تحمل البضائع والرسائل، فلا تفتح دون كسر هذه الأختام.
ولقد عثر على بعض التمائم التي تمثل حيوانات رمزية تستخدم كتعاويذ وتصنع من الأحجار الكريمة. وكان معناها الرمزي يرمي إلى الحماية من الأخطار والعدوان.
ولمثل هذا الهدف كانت تقدم القرابين إلى الآلهة تقرباً وسعياً وراء حمايتها، وقد عثر على أباريق على أشكال مختلفة منها شكل قنفد وقد صمم بشكل يحاكي أشكال الفن الحديث.
" خارطة سورية عبر التاريخ " إن هذه التسمية تعني سكان الغرب ولقد أطلقها الأكاديون منذ عصر صارغون على إخوانهم ممن نزحوا باتجاه الغرب، وفي اللغة السومرية أطلق عليهم اسم "مارتو" التي تحمل المعنى نفسه.
ولقد عرفت هذه المنطقة باسم بلاد عمورو وأطلق على البحر الأبيض المتوسط اسم "بحر عمورو العظيم" كما عرف إله العموريين اسم "عمورو" وهو إله الصيد والحرب وزوجته عاشرة، ربة المسرات والنشاط وتشبه عشتار.
وتمتد حدود بلاد عمورو لتشمل سورية ولبنان والأردن وفلسطين. بل لقد امتدت إلى بلاد الرافدين بين عام 2100-1800ق.م. ففي الجنوب كانت سلالة ايسن في "لارسا"، ثم قضت على هذه السلالة سلالة بابل الأولى التي تزعمها حمورابي وهي سلالة عمورية أيضاً. وفي الشمال فإن سلالة شمشي أدد 1813ق.م.التي أسست بلاد أشور كانت ذات أصل عموري أيضاً.
أما صارغون ملك أكاد 2350ق.م فإن أعقابه ينتمون إلى الهوية العمورية ودليل ذلك اسم أحدهم"نارام سين" الشهير. ولعل ماري "تل الحريري" التي تقع على الفرات في سورية كانت عاصمة الإمبراطورية العمورية. وتتابع التنقيبات في التلال الأثرية السورية أعمالها للكشف عن أبعادها. وليست إيبلا "تل مرديخ" إلا حاضرة عمورية لا تقل أهمية عن ماري، بل لعلها كانت أوسع نفوذاً نظراً لموقعها المتوسط من بلاد عمورو.
أما يمحاض "حلب" وترقا "العشارة" وألالاخ "تل عطشانة" وعمريت وقطنه "المشرفة" وتل خويرة، فإنها مواقع هامة حافلة بالآثار المكتشفة أو هي في طريق الاكتشاف، وهي تؤكد اتساع الإمبراطورية العمورية، هذه الإمبراطورية التي استمرت حتى منتصف الألف الثاني ق.م، حيث ظهر النفوذ المصري واشتد التنازع بين المصريين وبين البابليين والآشوريين والحثيين. وكان الهكسوس من العموريين الذين هاجروا إلى مصر واستمر حكمهم لها من عام 1785ق.م-1580ق.م.
ولقد تم التعرف على ملوك ماري وإيبلا من خلال ألوف الرقم التي أوضحت أبعاد هذه الإمبراطورية وأوضحت علاقة المدن ببعضها. وتحدثت عن الحروب التي تمت مع الأقوام أو المدن الأخرى.
بلاد آرام ويبدو أن هذه التسمية جغرافية أيضاً، فهي تعني الأراضي العالية وذلك بالنسبة للرافدين أو هي تعني الأراضي المرتفعة الجبلية.
فمصطلح أرام النهرين كما ورد في التوراة إنما يعني الأقسام الشمالية من الرافدين وبالتحديد المنطقة الواقعة بين منبع البليخ وحتى الفرات، ولقد عرفت باسم بين النهرين أو "مينروبوتاميا" ومركزها "حران". وكان بولوبيوس 202-120ق.م المؤرخ الإغريقي أول من أطلق هذه التسمية.
على أن الآشوريين هم الذين أطلقوا اسم أرومو وأرامو وجمعهم اريمي على بلاد أرام وعلى سكان تلك المنطقة. كان هؤلاء السكان قد استقروا منذ الألف الثالث في هذه المنطقة وكانت لهم لهجتهم المتميزة التي حملت فيما بعد اسمهم. أما وجودهم السياسي فلم يتضح إلا بعد زوال السلطة العمورية أو بعد ضعف نفوذها عام 1500ق.م. إلا أن تواجدهم المستقر والمشترك أوضح حدود بلاد أرام.
منذ ذلك الوقت تقريباً توسع الآراميون باتجاه الجنوب لكي يستولوا على جميع المنطقة .
ومن المؤكد أن الآراميين لم يكونوا على مستوى واحد من الحضارة
أسورا عربايا وصلت الدولة الآشورية الحديثة أوج توسعها في عصر آشور ناصربال وكانت سورية جزء من هذه الإمبراطورية. ولكن بعد أن استولى شاروكين 713 ق.م على ميديا قام ملك ميديا مع ملك بابل ودمرا عام 612ق.م نينوى وانتهى بذلك عصر الآشوريين.
وظهر الاخمينيون الفرس من أعقاب الميديين وأسس قورش اوسيرهوس 559-529 ق.م دولتهم. ثم جاء بعده قمبيز الذي استولى على سورية وعلى مصر وكان مستبداً أشبه بالمجنون.
ثم جاء دارا الأول ابن هيستاسيس 523 ق.م الذي قسم الإمبراطورية الضخمة التي وصلت إلى جبال الهندوس شرقاً وإلى مصر غرباً إلى20 ولاية Satrapies مرزبانة تتمتع بحكم ذاتي مع سلطة مركزية للمرزبان وتعني بالفارسية سيد البلاد. ولقد عددت هذه الولايات في كتابات هيرودوت III XC-XCV. على أن كتابة بهيستون تضمنت أسماء ثلاث وعشرين ولاية، أما كتابة نقش رستم حيث قبور الملوك الاخمينيين فلقد تضمنت أسماء ثمان وعشرين ولاية. وكانت ولاية سورية من حران شمالاً إلى سيناء تسمى اسورا عربايا
(19).
وتشمل منطقتين: ـ شمالية هي منطقة الجزيرة وحلب وحتى حوران والليطاني
ـ وجنوبية هي بلاد العرب
الشام كان العرب في الجنوب يطلقون اسم الشام على جميع أجزاء المنطقة الشمالية من البلاد العربية.
وما زال اسم الشام يتردد على ألسنتنا، على الرغم من الأسماء البديلة الرسمية، فالناس في جميع أنحاء البلاد العربية، عرفوا الشام من خلال التاريخ، وتضطرهم ظروفهم لكي يعرفوا الشام من خلال الحدود السياسية، فيتبادلون تسميات أخرى، ولكن اسم الشام ما زال أكثر تداولاً، على الرغم من أن حجم هذا الاسم تكثف في مدينة واحدة هي دمشق.
إن اسم الشام قديم، ولقد استعمله العرب للدلالة على جميع المناطق الشمالية. كما أن عرب الشمال كانوا يطلقون اسم اليمن يمنات أو يمون على مناطق الجنوب، وكان الهمذاني في كتابه الإكليل قد ذكر لأول مرة اسم الشام.
ولم يكن لبلاد الشام حدود سياسية ثابتة، ولكن الاصطخري كان أقدم من أوضح حدود الشام فهو يقول:
وأما الشام فإن غربها بحر الروم وشرقها البادية من أيلة إلى الفرات، ثم من الفرات إلى حد الروم وشمالها بلاد الروم، وجنوبها حد مصر وتيه سيناء، وآخر حدودها مما يلي مصر رفح، ومما يلي الروم الثغور.
ويضيف الاصطخري وهو يتحدث عن الحدود الشمالية لبلاد الشام أنها مما يلي الروم وهي ملطية والحدث ومرعش والهارونية وعين زربة والمصيصة واذنه وطرسوس وهي ثغور شامية، وتقع اليوم في تركيا.
ويتفق الاصطخري مع ابن حوقل والمقدسي في تحديد أقسام أو أحياء بلاد الشام، فيرون أنها فلسطين والأردن ودمشق وحمص وقنسرين ويضيفون إليها الجبال والشراة.
ويرى المقدسي أن دمشق هي المكان الوحيد في إقليم الشام الذي يصح أن يسمى مصرا. والمصر عنده كل بلد حله السلطان الأعظم وجمعت إليه الدواوين وقلدت منه الأعمال وأضيفت إليه مدن الإقليم، مثل دمشق.
وأما حلب وحمص وطبرية والرملة وصفد فهي قصبات وما تبقى فهي مدن عادية، ولم تكن هذه القصبات وحدات إدارية ثابتة.
وهكذا فإن حدود بلاد الشام ، بحسب ما أورده الجغرافيون العرب الأوائل هي تقريباً سورية الحالية ولبنان وفلسطين والأردن وسيناء وقسم من تركيا
نهاية الحكم العثماني في القرن التاسع عشر ظهر إبراهيم باشا في سورية 1831هـ/1740م الذي أراد أن يطبق إصلاحات في الجيش والزراعة والمالية. ولكن النفوذ الأوربي ابتدأ بالظهور وقد أصبح محمد علي في مصر خطراً على الدولة العثمانية وأوربا وانتشر الوعي القومي. وظهر في الشام مفكرون دعوا إلى التحرر والإصلاح منهم عبد الرحمن الكواكبي ونجيب عازوري، ثم ظهرت جمعيات في سورية تدعو إلى يقظة العرب ووحدتهم وتحررهم لمجابهة جمعية الاتحاد والترقي التركية، وكانت الجمعية العربية الفتاة تطالب بالحكم الذاتي، ومن أبرز أقطابها عبد الحميد الزهراوي.
ثم كانت مشانق جمال باشا في دمشق وبيروت تعلن عن أول قافلة للشهداء في سبيل الحرية والاستقلال. وما أن اشتد ساعد الداعين للتحرر، حتى ابتدأت المفاوضات بين الحسين شريف مكة وبين بريطانيا التي وعدت بدعم تحرر العرب، وابتدأت الثورة العربية الكبرى في 10/6/1916، ودخل العرب حلفاء في الحرب العالمية الأولى لتحرير وطنهم من نير السلطنة.(20)
نكل الحلفاء الإنكليز والفرنسيين بوعودهم وقسموا البلاد في اتفاقية سايكس-بيكو السرية لتبقى تحت انتدابهم، ثم عدلت هذه الاتفاقية في مؤتمر سان ريمو وأصبحت بلاد الشام مقسمة إلى أربع دول، سورية ولبنان وفلسطين وشرقي الأردن، وكانت سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي وأما فلسطين وشرقي الأردن فقد أصبحتا تحت الانتداب الإنكليزي مع العراق.
الانتداب الفرنسي منذ نهاية الحرب العالمية الأولى واستقلال البلاد العربية عن الدولة العثمانية المنحلة، لعبت السياسة الدولية الاستعمارية دوراً قاسياً مخالفاً لمنطلق عصبة الأمم المتحدة ولجنة "كنغ - كرين" التي أوفدها الرئيس الأمريكي ويلسون سنة 1919 للتحقيق في رغبات الشعب، وكان من أهم ما ورد في تقريرها "أن الوحدة الاقتصادية والجغرافية والجنسية السورية، واضحة ولا تبرر تقسيم البلاد وبخاصة أن لغتها وثقافتها وتقاليدها وعاداتها عربية في جوهرها.
وأن توحيد سورية يتماشى مع أماني شعبها ومبادئ عصبة الأمم". ولقد أكد المؤتمر السوري في تموز 1919 حق الشعب في وحدة بلاده واستقلالها ضمن حدودها الطبيعية، من جبال طوروس شمالاً إلى خط رفح - العقبة جنوباً، ونهر الفرات والخابور شرقاً وً البحر المتوسط غربا، هذه المنطقة التي جزئت فيما بعد إلى أربع دول هي سورية ولبنان وفلسطين وشرقي الأردن. تم ذلك في اتفاقية سرية بين فرنسا وإنكلترا عرفت باسم اتفاقية سايكس - بيكو التي رفضها السوريون، فأعلنوا استقلال بلادهم ضمن حدودها الطبيعية في 8 آذار 1920 وتوجوا فيصل بن الحسين ملكاً عليهم.(20)
عندها هاجمت الجيوش الفرنسية قادمة من لبنان ودخل الجنرال الفرنسي غورو دمشق بعد يومين من موقعة ميسلون في 24/7/1920 وكان أول عمل أن قسم سورية إلى أربع دويلات، ثم استعادت البلاد وحدتها الوطنية ، ولكن الضغط الأستعماري الفرنسي كان السبب في قيام ثورة اللاذقية بقيادة صالح العلي، وثورة الشمال بقيادة إبراهيم هنانو، وثورة رمضان شلاش في الفرات، والثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش وثورة غوطة دمشق واشتركت فيها جميع الفعاليات الدمشقية، مما اضطر الفرنسيين لإعلان الاتحاد السوري بين هذه الدويلات عام 1922 وتابعت الثورات السورية نضالها.(21)
وفي عام 1925م قامت الطائرات الفرنسية بقصف دمشق للانتقام من الثوار الذي نادوا بتحرير سورية، فدمرت أحياء كاملة، مما أثار استنكاراً دولياً دفع سلطة الانتداب إلى إعلان الدستور عام 1930م وانتخاب أول رئيس للجمهورية السورية محمد علي العابد عام 1932م، وبعد معاهدة 1936 انتخب هاشم الأتاسي رئيسا للجمهورية وظهر أول مجلس نيابي ، ولكن في 29/5/1945م قام الفرنسيون بقصف دمشق والمدن الأخرى فأصابت المجلس النيابي وقتلت الحامية، وبعد أن التجأت سورية إلى مجلس الأمن، صدر القرار بالجلاء الفوري الذي تم في 17 نيسان 1946 في عهد الرئيس شكري القوتلي وأصبح هذا اليوم عيداً قومياً لسورية.
عهد الاستقلال لم تكد سورية تشعر بنعمة الاستقلال، حتى صدر قرار تقسيم فلسطين 1947 وأنشئت دولة اسرائيل التي كانت تهدد العرب باحتلال الأرض من الفرات إلى النيل وقامت بتشريد الفلسطينيين الذين بدأوا حركة التحرير ضمن صعوبات كثيرة.
وكان على سورية ومصر أن تبادرا إلى توحيد قوة المجابهة اعتماداً على الإيمان بالوحدة العربية، فأعلنت الوحدة بين القطرين في 22/2/ 1958 وأصبح جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية العربية المتحدة وعاصمتها القاهرة.
ولم يطل زمن الوحدة فلقد تم الانفصال في 28/9/1961 فقامت ثورة الثامن من آذار.1963 لتنادي بإعادة الوحدة، ولكن اسرائيل فاجأت بالعدوان على سورية ومصر والأردن في الخامس من حزيران 1967. واحتلت جزءاً من الأرض العربية، وبرغم من صدور قرارات مجلس الأمن بوجوب إعادة الحقوق والأراضي إلى أصحابها، ما زالت اسرائيل تعاند تنفيذ هذه القرارات.
وفي تشرين الثاني عام 1970 انعقد المؤتمر العاشر لحزب البعث العربي الاشتراكي، فانتخبت قيادة جديدة للحزب برئاسة الأمين العام الفريق حافظ الأسد، وتم إعلان الحركة التصحيحة، وتضمن برنامجها الأساسي إنشاء الجبهة الوطنية التقدمية، وإحداث مجلس للشعب وإعداد دستور دائم للبلاد. وفي 21/3/1971 انتخب الفريق حافظ الأسد رئيساً للجمهورية العربية السورية وتجدد انتخابه عام 1978 و1985 و 1992 و 1999.
وفي تشرين الأول من عام 1973 خاضت سورية ومصر حرباً لاسترجاع الأراضي المحتلة من اسرائيل، تبعتها حرب الاستنزاف التي استمرت ثمانين يوماً، فاستعادت سورية جزءاً من الجولان وفي مقدمته القنيطرة.
وفي نيسان 1975 بدأت الحرب الأهلية في لبنان، وكان لسورية الدور الحاسم في إنهاء هذه الحرب وإعادة الوحدة الوطنية والاستقرار في لبنان، وفي تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الاسرائيلي الذي استمر 22 عاماً حتى 10/5/2000.
هكذا ومنذ عام 1970 يبتدأ عصر جديد في سورية، عصر حافل بالإنجاز وبالتقدم، إذ تم بناء سد الفرات الذي وفر تأمين الري لمساحة تزيد عن 640 ألف هكتار، وازدادت العائدات النفطية أضعافاُ، وحققت المشاريع الكبرى زيادة في الانتاج الزراعي والصناعي، و في توسيع شبكات المواصلات وإعمار المدن والقرى. وتأمين الضمان الاجتماعي للشعب والسكن والتعليم المجاني وإيجاد فرص للعمل، وتشجيع الثقافة والبحث العلمي والرياضة وكانت استضافة الدورة العاشرة لألعاب البحر المتوسط في مدينة اللاذقية عام 1978 من أبرز النشاطات الرياضية الدولية.
ولكن هموم تحقيق السلام العادل المعتمد على القرارات الدولية مازالت هاجس السياسة في النطاق الدولي والعربي.
وفي 10/6/2000 منيت سورية بخسارة فادحة بوفاة الرئيس الراحل حافظ الأسد. وكان الشعب بجميع فئاته مجمعاً على متابعة المسيرة ،فقام بإنتخاب الدكتور بشار الأسد رئيساً للجمهورية العربية السورية في 17/7/2000، وفي مجلس الشعب أعلن الرئيس الجديد عن برنامج وطني مستقبلي طموح وعن سياسة عربية ودولية منفتحة متضامنة، وعن عزم في إحلال السلام العادل في المنطقة كلها.
""عندما نكون في سورية نجدنا نمتزج مع التاريخ ذاته , فكل ذرة من ترابها هي حرف مضيء في سفر الإنسانية الخالد "" جورجيو بوتشيلاتي ( رئيس البعثة الأميركية التي كانت تعمل في الكشف عن مملكة ((خانا )) القديمة التي ازدهرت
في الألف الثانية قبل الميلاد قرب التقاء الفرات و الخابور . )
هذه هي أرض سورية العربية , مخزن التاريخ , التي يعبق من ترابها أريج الحضارات و التي على إثرها ولدت و تفاعلت
أعظم المدنيات و أبدع الإنسان المنجزات التي لا تزال ترفل البشرية في نعمائها حتى اليوم .
قصة الزراعة بدأت هنا منذ أكثر من عشرة آلاف عام .
كان الإنسان قبل ذلك و على مدى ملايين السنين يجمع ما يصادفه حوله من مزروعات برية فيقتات بها,
و لكن ما لبث الإنسان في سورية أن تعلم كيف يزرع بعد أن عرف كيف يزاوج بين القمح و الماء
و كيف يستنبت من السنبلة الواحدة آلاف السنابل .
في لحظة الابداع تلك بدأت المدينة بالاستقرار فقد راح الانسان يبني المساكن ليعيش فيها بدل الكهوف
و بدأ يعي ذاته و يناجي السماء بالترانيم الاسطورية الدينية الاولى كما راح يجرب أصابعه في الرسم و النحت و الزخارف .
هذه الفترة البعيدة من حياة الانسانية لا تزال بقاياها متناثرة في أكثر من مكان في سورية :
في المريبط , جيرود , يبرود , و على ضفاف الانهر .
هنا في سورية أيضا ما لبث الانسان أن أهدى البشرية انجازا حضاريا كبيرا حين اكتشف النحاس و ابتدع خليطة البرونز .
حضارة المعدن هذه نشات في ( تل حلف ) على ضفاف الخابور .
و تتابعت الابداعات و الانجازات منذ الالف الثالثة قبل الميلاد : في مملكة ماري ( تل الحريري ) على الفرات
كانت قصور و رسوم و كان ازدهار ثقافي و تجاري مشهودان . مملكة أوغاريت ( رأس الشمرة )
على الساحل السوري قدمت للانسانية ابتكارها المعجز : الابجدية الاولى في العالم .
أما في مملكة ايبلا ( تل مرديخ ) فقد اكتشف في قصرها الملكي أروع و أضخم مكتبة وثائقية تنظم أمور الادارة و التجارة
و الدبلوماسية و الصناعة و علاقات الحرب و السلم مع الاقطار الاخرى .
هذه الممالك السورية القديمة التي اكتشفت تباعا منذ العشرينات من هذا القرن أضافت الكثير الى المعرفة الانسانية .
كان كل كشف يبهر العالم و يغير من معطيات التاريخ و طريقة قراءته , الا أنه كان في الوقت ذاته يقدم الشواهد تلو الشواهد
بأن مهد الحضارة كان على هذه الارض السورية في حقبة بعيدة كان العالم خلالها يعيش في ظلام ما قبل التاريخ ,
و كأن كل ضربة معول في أماكن التنقيبات كانت تفجر نورا يضيء مرحلة أخرى مجهولة من مراحل قصة الانسان
على هذا الكوكب الارضي
و لعل أهم جانب أضاءته و أكدته تلك التنقيبات هو أن تلك الممالك كانت عربية الروح و الوجه و اللسان : ماري , أوغاريت ,
ايبلا , خانا .... كلها كانت تتكلم لغة ذات أصل عربي واحد و لكن بلهجات مختلفة تشبه اختلاف اللهجات في أيامنا هذه
بين قطر عربي و قطر عربي آخر . فأهل هذه الممالك كانوا من سلالة أولئك العرب الذين جاؤوا منذ القرون الاولى
من الجنوب من شبه الجزيرة العربية و كانوا يعرفون مرة بالعموريين ( الالف الثالثة قبل الميلاد ) و أخرى
بالكنعانيين و الفنيقيين ( سكان الساحل ) و تارة بالآراميين ( سكان المناطق العليا )
و أخرى بالغساسنة و الانباط ( سكان الجنوب ) . فهذه الهجرات المتتالية حفظت الطابع العربي لسكان سورية منذ فجر التاريخ ,
و لذلك استطاع هذا الطابع أن يصمد أمام الغزوات التي اجتاحت سورية طمعا بثرواتها و بمركزها الاستراتيجي الفريد
كغزوات الحثيين و الفرس و اليونان و الرومان .
و حين أتى الفتح العربي الاسلامي ( عام 636) أكد هوية سورية العربية و جلا صدأ الغزوات الاجنبية عنها
و أعاد اليها جوهرها و أصالتها .
منذ القدم أخذت سورية شانها الاستراتيجي بحكم موقعها الفريد فهي ملتقى قارات ثلاث , و مصلبة للطرق العالمية ,
و همزة الوصل بين البحر الابيض المتوسط و المحيط الهندي و بين بحر قزوين و البحر الاسود و بين نهر النيل ,
و عبر أراضيها كان يمر طريق الحرير القادم من أقاصي الصين اذ كانت محطته السورية الاولى دورا أوروبوس ( الصالحية )
ثم تدمر و حمص الى أن يصل الى مرافيء البحر الابيض الذي عرف مجد الملاحين السوريين قبل آلاف السنين حين جعل منه
أولئك الرواد بحيرة سورية تجوب فيها مراكبهم ذات الاشرعة الواسعة البيضاء .
ان هذا الموقع الهام جعل سورية مكانا متميزا لا لمجرد مرور القوافل و المبادلات التجارية فحسب بل لانه كان كان ملتقى
للافكار و المبتكرات و المعتقدات و التمازج الثقافي , فما من حضارة عرفتها البشرية على مر العصور الا و في سورية شواهد
منها تراها شامخة باهرة في كل مكان , في السهول و الجبال و البوادي . فهنا القصور و المساجد و الكنائس و هنا القلاع
الحصينة و العمارات الفريدة ذات الاعمدة و الاقواس و الزخارف و النقوش المبتكرة فالرحلة عبر سورية هي رحلة عبر الزمن
لانها قبل كل شيء تكون عبر حضارات توالت على أرضها واحدة بعد أخرى في مسيرة باهرة و في تواصل مدهش .
و حين تتجول في الاسواق القديمة تدرك أن التاريخ في سورية ليس فكرة مجردة أو بطاقة مغبرة في مكتبة ,
بل هو شيء حي تراه و تلمسه و تكاد تسمع ايقاعه و نبضه المتواصلين : امش في السوق القديم ( مدحت باشا ) بدمشق
من باب كيسان الى باب الجابية فلا تلبث أن تحس بخطواتك ترافق خطوات القديس بولس ا
لذي انفتح على عينيه نور الايمان _"نور طريق دمشق .
أما نساج الحرير في دمشق و حماة و حلب الذي تراه يعمل وراء نوله الخشبي فتكاد تحسبه أنه هو نفسه ذلك النساج
الذي كان يعمل في ايبلا قبل أربعة آلاف عام . و نافخ الزجاج الملون في المعامل الشعبية الذي تراه قبالة فرن الطين
و الآجر حيث لهب البلور السائل انما يردك الى أجداده أصحاب الساحل السوري الذين ابتكروا الزجاج و لونوه قبل ثلاثة آلاف عام
و الى أيام الفن العربي الاسلامي و بخاصة فن الزجاجين السوريين في القرن الرابع عشر اللذين رق بلورهم حتى كانهم
صنعوه من شفافية سمائهم الزرقاء . و اللوحة التي يرسمها فنان شعبي معاصر لواحد من أبطال و فرسان السير و الملاحم
العربية ما هي الا توأم لوحة فارس آخر نحتها على الحجر فنان عربي سوري من دورا أوروبوس في القرن الثالث قبل الميلاد
ان خصب الارض السورية بآثار الحضارات الانسانية العظيمة التي تراكمت على ثراها أو ترعرعت و تفاعلت فوق ترابها هو الذي
يجعل الكثيرين يصفون سورية بأنها أكبر بلد صغير في العالم , و لا عجب بعد هذا كله أن يكون كل انسان حديث مدينا بفكره
و فنه و انجازاته الى هذه الارض و أن يشعر بانتمائه اليها كما الى وطنه حتى قيل بحق : ( لكل مثقف وطنان : بلده و سورية )