يطلق النقاد الغربيون على هذا المنهج مصطلحات مختلفة ، وتسميات متباينة ، فمنهم من يطلق عليه اسم التجربة الجمالية (1) ، ومنهم من يطلق اسم المدخل الشكلي أو المنهج الشكلي ويفسره بأنه دراسة الأدب كبنية جمالية (2) ، وغيرهم يطلق عليه اسم الجمالية بصيغة المصدر الصناعي(3) ، وآخرون يختارون اسم المنهج الجمالي(4) .
يقول علي جواد الطاهر بهذا الصدد: "لدينا _إذن_ ثلاث كلمات أو أربع هي: شكلي ، وفني ، وجمالي ، وأسلوبي... صارت مصطلحات للدلالة على إضفاء الأهمية في النص الأدبي على الجانب الشكلي الخارجي، وتهوين أهمية المحتوى" (5).
وقد يكون للترجمة أثر في اتساع هذا الخلاف، فالمنهج أو المدخل هما ترجمة للكلمة الإنجليزية Approach والتجربة ترجمة للكلمة Experience ،والجمالية ترجمة للكلمة Esthetics ، وقد كان باومجارتن صاحب الفضل في ذيوعها ،وأصلها في اليونانية Aisthesis ، وتشير إلى إدراك موضوعات طريفة والتطلع إليها(6) ، والمصطلح الأخير هو أكثرها تداولاً ، ويستخدمه نقادنا معربا فيقولون "استطاطيقي" ، وقد يقولون " استتاتيكي" وهو ترادف الشكلي والفني عند بعضهم (7) ، كما ترادف الفني والجميل عند آخرين(8).
ولم يعرف العرب هذه المصطلحات ، وإن كانوا قد تحدثوا حديثاً عاماً عن التزيين والتحسين والتهذيب ، والذين كتبوا عن الجماليات العربية كانوا يقصدون إما الجمال الذي يشمل الفنون كلها ، على اعتبار أن كل ما هو فني فهو جميل كما فعل المستشرق الروسي أ.ف ساغادييف الذي كتب بحثاً عن الفلسفة الجمالية عند العرب في القرون الوسطى (9) ، وإما الجمال الذي يتعلق بالأدب وحده من بين الفنون كما فعل المستشرق النمساوي غوستاف فون غرنباوم (10) ، وليس في هذين من تحدث عن الجمالية كمذهب فني.
وقد تطرق جون ديوي هذا الموضوع في فصلين عنوان الأول :الدور الإنساني في الخبرة الجمالية(11) ، والثاني :النقد الفني والتقدير الجمالي (12) يحاول فيهما أن يشرح كل المصطلحات التي لها صلة بهذا الموضوع من أبعاد فنية وفكرية ونفسية .
ويرى صاحب " مقدمة في النقد الأدبي بأن" المنهج الجمالي يرتكز في أساسه على نظرية علم الجمال (الاستطيقا ) الذي هو أحد أقسام الفلسفة (13) ، ويضيف : وهو يستمد موضوعه من أن الناس _واقعياً_ يحكمون على الأشياء ، سواء أكانت أشياء طبيعية ، أو من إبداع الفنان ، بأحكام وصفات جمالية، أي أنهم يستعملون عبارات ذات مدلول جمالي(14) ، ومن هنا لا يلتفت النقد الجمالي إلى الفكرة في العمل الفني أو الموضوع أو المضمون ، وإنما يهتم بالشكل ، فالإطار العام والبناء الداخلي والصور وعلاقات الجزئيات تحتل مكان الأهمية عند الناقد الجمالي (15).
ويقول ر.ف.جونسن في تعريف الجمالية : الجماليات دراسة مسائل ، مثل ، ما الجمال ؟ وما علاقة الشكل بالمضمون في الأدب والفن ؟ وما الذي تشترك فيه الفنون المختلفة ؟ (16) ولكن جونسن يحس أنه يتحدث عن قضية عامة لا عن النظرية الجمالية على أساس أنها مصطلح فني فيقول: ولكن الجمالية هنا تعني شيئاً مختلفا تماما عما تعنيه الجمالية عندما تشير إلى موضوع هذه الدراسة (17) ، ثم يعود إلى تعريف الجمالية بمعناها الخاص فيقول : إنها مجموعة معينة من المعتقدات حول الفن والجمال ومكانتهما في الحياة (18).
ويحاول جونسن أن يحدد بدايات المنهج الجمالي فيقول: ولكن اصطلاح (الجمال) صار يستعمل بمعناه المناسب منذ بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر (19) ، ويضيف : وفي أواخر الستينيات ينادي سوينبرن بمبدأ الفن من أجل الفن ، كما ينادي والتر بيتر بفكرة معالجة الحياة بروحية الفن ، ويبدو اصطلاح الجمالية مناسباً لهذين الموقفين(20) .
وبناء على ذلك برز فهم جديد للفن هو أن الفن يوجد لمجرد الاستمتاع به لذاته، فقيمته تكمن في ذاته لا لأنه يخدم أهداف الدين أو الأخلاق أو المجتمع بوجه عام (21) ، وأشهر تعبير عن هذه النظرية يتمثل في الحركة المسماة ب" الفن من أجل الفن" التي ازدهرت في منتصف القرن التاسع عشر ،وهي تؤكد أن الطريقة الوحيدة للنظر إلى الفن إنما تكون من خلال الإدراك الاستطيقي (22) .
وقد نجد للمنهج الجمالي نقاط التقاء مع النظرية الشكلية التي يصفها صاحب كتاب النقد الفني بأنها نظرية النقاء الفني الجمالي(23) ، كما يصف النزعة الشكلية بأنها تهدف إلى تربية الذوق (24) ، وكذلك نجد للجمالية مشابها مع المدرسة البرناسية التي تقوم على الانضباط واللاشخصية والدقة والوصفية والكمال في الشكل(25) ، ولا يبعد أن نرى لها مشابهاً في المذهب اللغوي والكلاسيكي.
فهذه المذاهب والمناهج كلها تركز على جانب الشكل وتحتفل بالصياغة ، وتعير قيم الانسجام والتناسب والموسيقى اللفظية اهتماماً كبيراً .
ويبدو لمن يتتبع ما كتبه نقاد الجمالية أن هذه الكلمة تفيد دلالات ثلاث :
1_دلالة عامة واسعة تطلق على كل شيء جميل يوصف بالجمال كالزهرة، وهذا معنى معجمي ليس له أي مدلول مصطلحي خاص يمكن أن يتصل بإحدى قضايا العلم أو الفن .
2_دلالة أضيق ترادف ما تعنيه كلمة الفن ، و يكون الحديث عن الجمال هو استيعاب شامل لتاريخ الفن وضروبه وقضاياه ومفاهيم الناس حوله .
3_دلالة خاصة تطلق على أحد مذاهب الفن أو مناهجه أو نظرياته ، وهو هذا المنهج الذي نتحدث عنه ، وهو يقف في مقابل المنهج الواقعي والنفسي والرمزي والرومانسي إلى غير ذلك ، لأنه يركز على الجانب الجمالي في العمل الفني الذي لا يقصد من ورائه قصد ولا ترجى منه منفعة .
والفرق بين الجمال في الحياة والجمال في الفن ، أن الجمال في الحياة ليس من صنع الإنسان ، أما الجمال في الفن فهو من صنعه ، ومن هنا انطلق أرسطو في نظريته القائلة بالمحاكاة ، فكل شيء في الوجود هو محاكاة لمثال لا تقع عليه العين ، وكل عمل فني هو محاكاة لعمل جميل موجود أو متصور تقع عليه عين الفنان ، أو يصوره له خياله ، وليس الجمال قائماً على جمال الموضوع ، فالجميل والقبيح من مظاهر الطبيعة والحياة ويمكن أن يمدا أهل الفن بموضوعاتهم حتى يكون هناك جمال الجمال ، أو جمال القبح فيغدو الجميل أجمل مما هو ، والقبيح أشد إثارة واشمئزازا (26) ، ومناط القيمة في ذلك هو القدرة الإبداعية التي يتمتع بها الفنان .
ومنذ القدم حاول أهل الفن التفريق بين جمال الفن وجمال الحياة ، ومن ذلك ما قاله صاحب النزعة المثالية في الفن والأدب كانت Kant: الفن ليس تمثيلاً لشيء جميل ، وإنما هو تمثيل جميل لشيء من الأشياء (27)، ويقول المفكر الفرنسي لالوLalo معلقاً على هذا القول : ولو كان هذا الشيء قبيحاً (28) فمناط القيمة في الشيء الجميل هو الجمال نفسه في حين أنه في العمل الفني هو القدرة على خلق الجمال ، والقدرة هذه هي ضرب من الجمال ، ولكنه يختلف عن الجمال المنبثق من مظاهر الطبيعة وظواهرها .
وأومىء هنا إلى ملحظ هام وهو أن علماء الجمال المحدثين ، قد أصبحوا يهتمون بالخبرة الجمالية نفسها أكثر مما يهتمون بتحديد مفهوم الجمال ، والمقصود بالخبرة الجمالية هنا تلك التجربة الكشفية التي يقوم بها الفنان حين يحاول أن ينظر إلى الأشياء بطريقة جديدة غير معهودة، وربما كانت السمة الرئيسية التي تميز الخبرة الجمالية هي أنها تدعونا إلى التأمل والمشاهدة ، ولعل هذا هو السبب فيما ذهب إليه بعض علماء الجمال من أن ثمة علاقة وثيقة بين الجمال والغموض (29) .
بعد هذه الجولة في المنهج الجمالي ـ وما يدور حوله من آراء وأفكار وملاحظات ، أرى من المفيد ذكر المرتكزات التي يقوم عليها هذا المنهج وهي :
أولاً : احترام الشكل وما يتطلبه من براعة ودقة وإتقان وسيطرة على أدوات الفن ووسائله ، والشكل مصطلح أساسي في عالم الفن ولتوضيحه أرى أن نتناوله من جوانب مختلفة لها صلة وثيقة به ، وهذه الجوانب هي :
أ_الدقة : وهي وضع الشيء في موضعه الصحيح ، وقد كان أفلاطون يقول : إن الأشياء ليست جميلة جمالاً مطلقاً ، وإنما تكون جميلة عندما تكون_ كما يقول هيبياس_ في موضعها ، وقبيحة عندما تكون في غير موضعها (30) ، فأول مؤهلات الفنان أن يعرف كيف يضع الشيء في مكانه .
ب_ الجودة : وهي في الشعر مثلاً القدرة على استخدام الألفاظ استخدامًا حسنًا ينسجم مع الأصول والقواعد ، ويبين أناقة الذوق ورهافة الإحساس ، وقد عرف كوليردج الشعر بأنه أجود الألفاظ في أجود نسق ( 31) ، ووصفه فروست بأنه أداء لفظي (32) ، ومن ثم لم يجد كروتشه حرجاً في أن يعرف الجمال بأنه التعبير الناجح (33) .
ج_ مراعاة النظام : ويقصد بها وضع الألفاظ والتراكيب وضعاً خاصاً يمتاز بصفات معينة ترضي الذوق وتريح الإحساس ، ومن هذه الصفات الانسجام والتناسب ، يقول أفلاطون : إن الوزن والتناسب هما عنصرا الجمال والكمال ، ويقول أرسطو :إن الجمال يتركب من نظام الأشياء الكثيرة (34) ويول القديس أغسطين : إن هذا يرضي لأنه جميل ، وهو جميل لأن أجزاءه تتشابه وينتظمها انسجام واحد (35) ، ويرى أريك نيوتن أن في أعماق الإنسان توق إلى شيء يسمى اللذة الجمالية ، توق للنظام والانسجام والتوازن والنغمة والنمط (36) ويتفق معه كروتشي الذي يرى أن العمل الفني ككل هو الذي يحدد قيمة الجزء ، وعلى هذا الأساس لا نستطيع القول بأن هناك ما يسمى بالألفاظ الشعرية أوغير الشعرية ونصرف نظرنا عن السياق (37)، وقد تنبه لهذه الفكرة كثيرون مثل إليوت ، وكلينث بروكس ، وإدجار ألن بو (38) .
د_الصورة الفنية : إن الصورة الفنية شيء يجمع بين الخيال والقدرة الفنية ، فالخيال هو الروح والقدرة الفنية هي الجسم ، ولا بد لصانع الصورة الفنية من ذوق يمكنه من تنسيق الظلال والألوان ، والصورة عنصر أساسي وأصيل من عناصر الشعر وهي الحد الفاصل الذي يميز بينه وبين العلم ، وقال رانسوم : العلم يرضي دافعاً عقلياً أو عملياً ، ويبرز أقل ما يمكن من التصور ، والفن يرضي دافعاً تصورياً ويبرز أقل ما يمكن من العقل (39) وتقوم الصورة في الأصل على المجاز والاستعارات وأصناف التشبيه والكنايات ، وللاستعارات قيمة كبيرة في تحديد قيمة الشاعرية ، قال أرسطو : إن أعظم شيء أن تكون سيد الاستعارات فالاستعارة علامة العبقرية ، إنها لا يمكن أن تعلم ، إنها لا تمنح للآخرين (40) ويقول راي Rey :إن الصورة وحدها تكسب العمل جمالاً (41) وثمة من يتجاوز هؤلاء جميعًا في تقدير قيمة الصورة في الشعر ذلك هو روبرت أندروز Robert Anderws الذي يقول : ليس صوابًا أن الصورة إحدى دعائم الشعر ، وإنما الصواب ان الصورة جوهر الشعر وهي روحه وجسده (42) ، وهكذا تبدو الصورة عنصراً جمالياً كبير الأهمية في الشعر.
هـ_ الموسيقى : وتشمل ضروب الوزن والإيقاع ، وهي عنصر أساسي في الشعر بمقياس الجماليين والكلاسيكيين على الأقل ، يقول ديويت بوركر Dewitt Porker بهذا الصدد :ومن دون هذه الموسيقى في الأداء لا يكون هناك فن جميل مهما كانت أهمية المعاني المتصلة به (43) ، وقد أكدت إليزابيث دور Elizabeth Drew هذه الحقيقة حين قالت : وسيبقى الشعر ما دام له جرس موسيقي وإيقاع راقص (44) ؛ ولهذا السبب رفض إليوت Eliot الشعر الحر أو الشعر المنثور محتجاً بأن الحرية لن تكون أبداً هروباً من الوزن في الشعر، وإنما هي السيطرة عليه وإتقانه (45) ويقف روبرت فروست Robert Frost الموقف نفسه حين يقول :سأرضى أن أكتب الشعر الحر حين يخطر لي أنني أستطيع ممارسة التنس بلا شبكة ( 46) وهو يعني بذلك أن الوزن أساسي في الشعر مثلما هي الشبكة أساسية في لعبة التنس.
ثانيًا : التزام الموضوعية : ويقصد بها استبعاد العواطف الشخصية وحساب النفع والضرر والجمال والقبح من عملية الحكم النقدي في التجربة الجمالية ، وعلى هذا الأساس يفرق بعضهم بين نوعين من الذوق هما : الذوق بمعناه العام وهو الذي يختلف بين الناس ، وتتعدد الأسباب لذلك الاختلاف ، والذوق بمعناه الخاص وهو الذوق الجمالي الذي يحكم على الجمال البحت في العمل الفني ويكاد يظفر باتفاق الجميع كما تظفر قواعد النحو في العبارة اللغوية بالاتفاق العام (47) .
وهذا يعني أن النظرية الجمالية تعتمد الذوق في تلمس اللذة الفنية ، ولكنه الذوق المعلل المبني على الأسس والمعايير لا الذوق الشخصي الذي يتقبل مايشاء ويرفض ما يشاء بالاعتماد على المزاج والهوى اللذين يختلفان من إنسان إلى آخر ، ويؤكد هذا الموقف الناقد الفرنسي تينTain حين يقول : ليس له (أي الذوق الشخصي) أي قيمة (48).
والمنهج الجمالي قد اتخذ في كثير من آرائه اتجاه النقد الموضوعي ، الذي يعد ت.س إليوت صاحبه في العصر الحديث (49).
ثالثًا : إنكار قيمة المحتوى : ويترتب هذا المبدأ على المبدا السابق ألا وهو احترام الشكل ، وقد كانت المدرسة الكلاسكية تحترم الشكل ، ولكنها لم تكن تهمل المضمون أو المحتوى ، أما المدرسة الجمالية فهي تتعصب للشكل وتنكر المضمون ، ولا تنحصر قيمة الشعر عندها في مضمونه بحد ذاته سواء كان واقعيًا أو مثاليًا أو رجعيًا ، وإنما هي في كيفية التعبير عن المضمون (50) فهي ترى أن المهم هو الشاعر وكيفية تعبيره ، وليس الموضوع في حد ذاته (51) .
يقول كروتشه في هذا الصدد : قد يبدو غريبًا أو مثيرًا للضحك أن نبحث الغاية في الفن (52) ، ، وأعلن أن العمل الأدبي خلق حر ، والفن حدس محض أو تعبير محض مجرد إطلاقاً من المفهوم (53) وأن الفن حدس فالحقيقة الجمالية شكل ، ولا شيء غير الشكل (54) والمضمون في ذاته ليس مضموناً إلا في شكل فني (55) ، وقد نفى كروتشي ما يسمى بالمواضيع الشعرية(56) ورفض تقسيم الأعمال الأدبية إلى ضروب وأنواع (57).
والنظرية الجمالية تنكر القيمة التاريخية والاجتماعية (58) والنفسية(59) والخلقية والدينية والفلسفية (60) للعمل الأدبي لأنها لا تؤمن بأي جدوى من ورائه ، فليس للشعر غاية أخلاقية أو تعليمية ، إنما هو ينظر فقط إلى جانب الجمال (61) وقد سوغ أحد الفلاسفة هذه الدعوة بقوله: يراد من الشاعر حسن الكلام ، والصدق يراد من الأنبياء (62) ، وقال برادلي Bradly في المعنى نفسه : كيف يمكن أن يحدد الموضوع قيمة الشعر في حين يمكن أن تكتب في الموضوع الواحد أشعار تتفاوت قيمتها (63) .
ملامح المنهج الجمالي عند العرب:
لقد تلمس النقاد والبلاغيون العرب السمات الجمالية في الأدب دون أن يذكروا مصطلح الجمال ، فقد تحدثوا عن التزيين (64) والتحسين(65) والتهذيب (66) والتنقيح والانتقاء(67) والانتخاب(68) وعذوبة اللفظ ورشاقة المعنى (69) وماهذه المصطلحات إلا الجمال الذي تحدث عنه نقاد الغرب .
ومن أبرز ملامح هذا المنهج ومظاهره عند العرب:
أولاً :الأخذ بمبدأ اللذة الفنية : فقد جعل البلاغيون ونقاد الشعر اللذة الفنية غاية من غايات الصناعة البيانية ، وشاهداً على تحقق عنصري الإتقان والجودة في النص .
قال ابن الأثير : لقد تصفحت الأشعار قديمها وحديثها وحفظت ما حفظت منها ، وكنت إذا مررت بنظري في ديوان من الدواوين ، ويلوح لي فيه مثل هذه الألفاظ فأجد لها نشوة كنشوة الخمر ، وطربًا كطرب الألحان (70).
وفي النقد الحديث يمر الإنتاج الجمالي بأربعة مراحل حسبما يرى كروتشي :
أ_الانطباعات. ب_ التعبير أو التركيب الجمالي النفسي. ج_ المصاحبات الهيدونية أو السرور الجمالي.
د_ترجمة الحقيقة الجمالية إلى ظاهرة طبيعية (71) .
ثانيًا :التنويه بمبدأ الذوق الفني: أولى النقاد العرب الذوق الفني عناية كبيرة ، وهم يعرفونه بأنه ملكة تتحصل في النفس من كثرة المدارسة والممارسة ، يقول ابن خلدون في هذا الشأن : اعلم أن لفظة الذوق يتداولها المعتنون بفنون البيان ، ومعناه حصول ملكة البلاغة للسان (72) .
ويشبه أن يكون معيار الذوق ما أسماه النقاد والبلاغيون معيار الفصاحة إذ لا تعدو الفصاحة أن تكون وجهًا آخر لقانون الصفاء والتنقية في الكلام مفرداً ومركبًا من خلال تهذيبه وتحسينه وتزيينه .
ثالثًا: البيان: والمهم هنا التوقف عند وصف البيان بالسحر ، فوجه الشبه في ذلك القدرة على التأثير ، ومن هنا جاء الحديث النبوي القائل : إن من البيان لسحرا ، فالكلام الذي يستوفي شروط البيان يؤثر في النفس كالسحر ، وهو لم يملك هذه القدرة لولا أنه جميل ؛ لأن السحر يقرن بالجمال عادة .
وقد لاحظ ابن الأثيرهذه العلاقة بين البيان والجمال في قوله : "شيئان لا نهاية لهما البيان والجمال " (73) .
رابعاً :التناسب : وقد يطلق عليه اسم المشاكلة أو المؤاخاة أو التوازن (74) ، وتبدو أهمية هذا النمط البلاغي من قول بعض الحكماء في التعريف بالبلاغة : البلاغة هي تصحيح الأقسام واختيار الكلام (75) وتصحيح الأقسام هو التناسب بعينه .
ويبدو من مجمل ما سلف أن العرب قد تلمست الجمال في الشعر ، وقد ذكر عز الدين إسماعيل أن النقد العربي كان يمثل مبادىء المدرسة الجمالية بصفة عامة _قبل أن توجد هذه المدرسة _ أصدق تمثيل (76) .
ومن المفيد التنويه ببضعة مواقف في النقد الجمالي ما زالت تحتفظ بوجاهتها واعتبارها، وهي:
_الشعر لايقبل الترجمة وأنه إذا ترجم فقد موضع العجب والدهشة فيه ، قال هذا الجاحظ في القديم (77) وكروتشي في النقد الحديث(78) و مثله بول فاليري (79) ، وكذلك دونالد استوفر (80) وهذا يؤكد أن الأصل في الشعر هو الجانب الجمالي الذي يقوم على الشكل الفني ، وأن الموضوع ليس له قيمة .
_استبعاد الدين وعدم إدخاله في عملية النقد ، فقد قال علي الجرجاني في ذلك قولته:"الدين بمعزل عن الشعر (81) وقال الصولي : وما ظننت أن كفرًا ينقص من شعر ولا أن إيمانًا يزيد فيه (82) وهذا ما يقول به نقاد المنهج الجمالي في عصرنا الحاضر ،فقد نادوا بفصل الدين عن الشعر (83) .
يقول إليوت : حينما نقرأ العمل الفني يجب أن نرجىء العقيدة والشك (84).
_قدم بعض النقاد العرب الشكل على المعنى ، فقد قال الجاحظ : المعاني مطروحة في الطريق (85) ، ومثله العسكري (86) ، وفي النقد الحديث قال ريتشارد ما يشبه ذلك حين قرر أن إساءة فهم الشعر والتقليل من أهميته مردهما قبل كل شيء إلى المبالغة في أهمية العنصر الفكري فيه ( 87) .
أبرز المأخذ على هذا المنهج :
_ليس من الضرورة أن تقف المكونات الشكلية على الأسلوب والصورة وموسيقا الشعر ، فهناك عناصر شكلية غير لغوية في النثر من مثل الشخصية والحدث ...(88)
_ الجمالية في بعض جوانبها تميل إلى الفهم التجريدي للأدب والبحث عن الرموز الغامضة والخوض في متاهات ميتافيزيقية (89).
الهوامش:
(1) جيروم ستولنتز ، النقد الفني دراسة جمالية وفلسفية ، ترجمة فؤاد زكريا ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت، 1981، ص3 .
(2) ويلبر.إس سكوت ، خمسة مداخل إلى النقد الأدبي ، ترجمة عناد غزوان إسماعيل ، دار الرشيد، بغداد، 1981، ص3.
انظر: إنريك أندرسون إمبرت، مناهج النقد الأدبي، ترجمة الطاهر أحمد مكي، مكتبة الآداب ، القاهرة، (المنهج الشكلي ، ص166 وما بعدها ) .
رينيه ويليك ، مفاهيم نقدية ، ترجمة محمد عصفور، عالم المعرفة ، الكويت، ع210، 1987، فبراير ، (الفصل الثالث: مفهوم الشكل ص45).
ستانلي هايمن، النقد الأدبي ومدارسه الحديثة ، ترجمة إحسان عباس ، ومحمد يوسف نجم ، دار الثقافة ، بيروت، 1955، (كارولاين سبرجن والدراسة المتخصصة في النقد ،ج1، ص286 وما بعدها).
(3) ر.ف جونسن ، الجمالية ضمن موسوعة المصطلح النقدي ، ترجمة عبد الرحمن لؤلؤة ، دار الرشيد ، بغداد، 1982، ص267.
(4) محمد حسن عبد الله، مقدمة في النقد الأدبي ، دار البحوث العلمية ، الكويت ،1975، ص48 .
(5)علي جواد الطاهر ، مقدمة في النقد الأدبي ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1979، ص434.
(6)النقد الفني ، مرجع سابق، ص434.
(7) علي جواد الطاهر ، مرجع سابق، ص434.
(8) النقد الفني ، مرجع سابق، ص29.
(9) أوفسيانيكوف ، موجز تاريخ النظريات الجمالية ، ترجمة باسم سقا، دار الفارابي ، بيروت، 1979،ص46.
(10) غوستاف فون ، دراسات في الأدب العربي ، ترجمة إحسان عباس، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1959، ص9.
(11) جون ديوي، الفن خبرة ، ترجمة زكريا إبراهيم ، دار النهضة العربية ، القاهرة، 1963، ص415 .
(12) جون ديوي ، المرجع السابق، ص501.
(13) محمد حسن عبد الله ، مرجع سابق، ص48.
(14) المرجع نفسه ، ص48.
(15) نفسه، ص49.
(16) موسوعة المصطلح النقدي، مرجع سابق، ص273.
(17) المرجع نفسه، ص273.
(18) نفسه ، ص273 .
(19) نفسه، ص284.
(20) نفسه، ص284.
(21) النقد الفني، مرجع سابق، ص41.
(22) المرجع نفسه، ص41.
(23) نفسه ، ص202، وانظر : رامان سلدن ، النظرية الأدبية المعاصرة ، ترجمة جابر عصفور ، دار قباء ، القاهرة، 1998(النزعة الشكلية الروسية ، ص25_44 ، والوظيفة الجمالية ص42).
(24) نفسه، 210.
(25) موسوعة المصطلح النقدي، مرجع سابق، ص355.
(26) جوزيف الهاشم، المفيد في الأدب العربي ، المكتب التجاري للطباعة ، بيروت، 1966، ج1، ص11.
(27) المرجع نفسه، ج1، ص11، وانظر: محمد شفيق شيّا ، نظرية كنط الجمالية ، الفكر العربي ، 1987 ، ع48، (ص144_158).
(28) ويرى هيغل أن مضمون الفن ، فكرة الجمال المستقلة مهما يكن مظهره الاجتماعي أو العملي ، ويقرر تيوفيل جوتيه بأن لا وجود لشيء جميل إلا إذا كان لا فائدة له ، وكل ما هو نافع قبيح ، وقد وضع بودلير لديوانه عنوانًا ذا دلالة وهو زهور الشر.
انظر: هيغل ، المدخل إلى علم الجمال ،فكرة الجمال ، ترجمة جورج طرابيشي ، دار الطليعة ، بيروت ، ط3 ، 1988، (جمال الشكل المجرد ، ص221).
محمد غنيمي هلال ، النقد الأدبي الحديث ، دار نهضة مصر ، القاهرة ، 1973 ، ص306_307.
أندريه ريشار ، النقد الجمالي ، ترجمة هنري زغيب ، منشورات عويدات، بيروت ، لبنان ، 1974 ،(هيغل وعلم الجمال ص88_94).
رمضان محمد ، الفن والحضارة في فلسفة هيغل الجمالية ، مجلة فصول ، مصر ، 1987، مج7، ع3_4، ص168_ص170.
عبد الكريم اليافي، دراسات فنية في الأدب العربي، مطبعة دار الحياة، بيروت، 1972، ص40.
(29 ) زكريا إبراهيم،الفنان والإنسان ، دراسات في علم الجمال وفلسفة الفن ، مكتبة غريب ، الفجالة ، ص141 ،وانظر: أميرة حلمي مطر ، مقدمة في علم الجمال وفلسفة الفن ، دار المعارف ، القاهرة، 1989، ( الخبرة الجمالية ص51_86).
(30) عز الدين إسماعيل، الأسس الجمالية في النقد العربي ، دار الفكر العربي، بيروت، 1968، ص35.
(31) إليزابيث دور ، الشعر كيف نفهمه ونتذوقه ، ترجمة إبراهيم الشوش،، مكتبة منيمة، بيروت، 1968، ص35.
(32) المرجع نفسه، ص35.
(33) عز الدين إسماعيل ، مرجع سابق، ص59.
(34) المرجع نفسه،ص43.
(35) المرجع نفسه،ص45.
(36) جميل علوش، النظرية الجمالية في الشعر ، عالم الفكر ، الكويت ، مج 29، ع1، 2000، ص249 .
(37) عبد العزيز حموده ،علم الجمال والنقد الحديث، مكتبة الأنجلو المصرية ،ص5 .
(38) المرجع نفسه ، ص15.
(39) ديفيد ديتشس، مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق ، ترجمة محمد يوسف نجم ، دار صادر ، بيروت، 1967 ، ص231.
(40) كمال مصلح ، الكامل في النقد الأدبي ، المكتبة الحديثة ، بيروت، 1967، ص118.
(41) عز الدين إسماعيل ، مرجع سابق، ص388 ، وانظر : غيورغي غاتشف ، الوعي والفن ، ترجمة نوفل نيوف ، عالم المعرفة ، الكويت ، ع146، 1990، فبراير ، (الفصل التاسع عشر : الصورة في علم الجمال والأدب ، ص183).
(42) نصرت عبد الرحمن ، في النقد الحديث ، مكتبة الأقصى، عمان ، 1979، ص26.
(43) عز الدين إسماعيل ، مرجع سابق،ص115.
(44) إليزابيث دور، مرجع سابق، ص 31.
(45)المرجع نفسه، ص44.
(46)المرجع نفسه، ص44.
(47) عز الدين إسماعيل ، مرجع سابق،ص82.
(48) المرجع نفسه، ص90.
(49) عصام محمد الشنطي ، الجمالية والواقعية في نقدنا الأدبي الحديث ،المؤسسة العربية للدراسات ، بيروت ، 1979،ص17.
(50)أدونيس ، علي أحمد سعيد ، زمن الشعر ، دار العودة ، بيروت ، 1978، ص71.
(51) المرجع نفسه، ص71.
(52) عز الدين إسماعيل ، مرجع سابق، ص86.
(53) انظر: ولتر.ت.ستيس، معنى الجمال ، نظرية في الاستطيقا ، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام ، المشروع القومي للترجمة 173 ، المجلس الأعلى للثقافة ، مصر ، 2000( كروتشه والأفكار الشائعة عن الحدس ، ص241_244).
وانظر: علي أبو ملحم ، في الجماليات نحو رؤية جديدة إلى فلسفة الفن ، المؤسسة الجامعية للدراسات ، بيروت ، 1991 ، ( كروتشه والحدس الفني ، ص96) .
بندتو كروتشيه ، المجمل في فلسفة الفن ، ترجمة سامي الدروبي ، دار الفكر العربي ، القاهرة، ص162_163.
(54) بندتو كروتشيه ، مرجع سابق ، ص23، وانظر: تحسين الناشيء ، تقويم المنهج الجمالي ، أفكار ، ع156، 2001، ص115 . وانظر: عبد المنعم تليمة ، مداخل إلى علم الجمال الأدبي ، دارالثقافة ، القاهرة، 1978، ص113_114، وانظر: سامي سليمان ، التنظير السوسيمعرفي والجمالي للأدب عند عبد المنعم تليمة ، فصول ، ع66، 2005، ص384_404)
(55) المرجع نفسه ، ص25.
(56) المرجع نفسه ص26.
(57) المرجع نفسه،ص50.
(58) النقد الفني ،مرجع سابق ، ص31.
(59) موسوعة المصطلح النقدي ، مرجع سابق ، ص307.
(60) المرجع نفسه، ص314، ص 362.
(61) عز الدين إسماعيل ، مرجع سابق، ص371.
(62) المرجع السابق ، ص378.
(63) المرجع نفسه، ص392.
(64)شيخو اليسوعي ، علم الأدب ، مطبعة الآباء اليسوعيين ، بيروت ، 1987، ص74، ص255، ص247.
(65)المرجع السابق ، ص53، ص54، ص61، ص187، ص190، ص195، ص287، ص288،ص290.
(66) المرجع نفسه، ص214، ص215،ص216، ص218.
(67) نفسه ، ص215_216.
(68) نفسه ، ص44، ص46، ص210، ص219، ص279.
(69) نفسه، ص214.
(70) نفسه، ص100.
(71) عبد العزيز حموده، مرجع سابق، ص74.
(72) ابن خلدون ، المقدمة، دار القلم ، بيروت ، 1978، ص562 .
(73) شيخو اليسوعي ، مرجع سابق، ص30.
(74) المرجع نفسه، ص131، ص260، ص261، ص315، ص316.
(75) المرجع نفسه، ص61.
(76) عز الدين إسماعيل ، مرجع سابق، ص371.
(77) الجاحظ ، الحيوان ، تحقيق عبد السلام هارون ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي ، القاهرة، 1945، ج1، ص75.
(78) عبد العزيز حموده، مرجع سابق ص37.
(79) عز الدين إسماعيل ، مرجع سابق، ص349.
(80) المرجع نفسه، ص349.
(81) علي بن عبد العزيز الجرجاني، الوساطة بين المتنبي وخصومه ، دار إحياء الكتب العربية، مصر ، 1951، ص64.
(82)الصولي ، أخبار أبي تمام ، لجنة التأليف والترجمة ، القاهرة، 1937، ص172.
(83)موسوعة المصطلح النقدي ، مرجع سابق، ص362.
(84)عبد العزيز حمودة، مرجع سابق، ص94 ،وانظر : إبراهيم حمادة ، مقالات في النقد الأدبي ، دار المعارف ، القاهرة، 1982، (الحكم الجمالي والحكم الأخلاقي في النقد :فورستر ، ص141).
(85) مناهج النقد الأدبي ، مرجع سابق ، ص555.
(86) عز الدين إسماعيل ، مرجع سابق ، ص278.
(87) الجاحظ ، مرجع سابق، ج3 ، ص131.
(88) إبراهيم السعافين وخليل الشيخ ، مناهج النقد الأدبي الحديث ، منشورات جامعة القدس المفتوحة ، ط1 1997، ص209.
(89) شوقي ضيف ، البحث الأدبي ،طبيعته، مناهجه ، أصوله ، مصادره، دار المعارف ، القاهرة، 1992، ط7، ص 130.
____________________
البريد الإلكتروني للمرسل: h@yahoo.com