الأدب نظام الحياة
مفهوم الأدب هو احترام النفس واحترام الآخرين . ومن لا يحترم نفسه ويعتبر قيمها فكيف يصح له أن يتوجه إلى الآخرين بالاعتبار والاحترام ؟
إننا نكتب هذه الخواطر لأننا نلحظ أكثر فأكثر – ويا للأسف موجة من التحرر المزعوم من قواعد اللياقة والآداب التقليدية ، والأخلاق السليمة السالفة ، تجتاح لبنان وتحاول تهديم أفضل مافينا . ومن لا يستوي له تهذيب خارجه فكيف يستقيم له تهذيب داخله ؟ ومن لا يحترم الآخرين فكيف يتوفر له أن يتوجه إلى ذاته بالثقة والاحترام ، وهي بداية مرقاة التحضر الحقيقي في
الإنسان ؟
ولا معنى للحضارة إلا التهذيب لأفكار النفس وشواعرها ولحركات الجسم واعتمالات الجوارح . فالحضارة ليست في اقتناء السيارة ، ولا في السكنى في بيت رفيه ، ولا في احتساء المآكل الشهية ، ولا في الانتقال بالباخرة أو بالطائرة من مكان إلى مكان ، ولا في اقتناء المفروش الباذخ ، ولا في تزيين الوجه ، وثراء الملبس . والحضارة ليست بشكل خاص باعتماد هذه الحركات العصبية ، وهذا الانفلات في التكلم وفي التطلع وفي الجلوس رجلا فوق رجل ، واعتماد أساليب في مواجهة الناس ، والاستكبار عليهم ، وسواها من هذه الطبائع للمدنية الغربية المادية التي آلت إليها هذه المدنية في الغرب في بعض مسالكها ، والتي يتنكر لها ويتأفف منها رجال الغرب أنفسهم ، والتي ليست هي لا من آداب الغرب ولا من تقاليده ولا من روحه .
فالحرية التي يتبجح بها بعض المقبلين على مدنية الغرب المادية من خلال ما يرونه في السينما والتلفزيون ، ومن خلال المثل العاطل الذي يعطيه – ويا للأسف - ، بعض المثقفين السطحيين ، الذي يبدو أنهم لم يفهموا من العلم والثقافة شيئا ، إن هذه الحرية تقوم في حقيقتها على ضبط النفس ، و على احترام الآخرين ، وعلى الاحتشام لكل ما نقوم به أو نقوله أو نفكر به أو نظنه بالنسبة للآخرين ، فهذا التطور أو التقدم أو التمدن ، كما يفهمه البعض من خلال ما يصدر إلينا من الغرب من وجوه مشوهة للسلوك البشري ، هو أقرب إلى البربرية والهمجية منه إلى التمدن والتحضر الحقيقي ، وهو دليل على أن الإنسان ، إذا كان مثقفا ، لم يحصل بعد الثقافة الإنسانية التي يرتضيها لنفسه ويبتغيها للآخرين . ولا نفطن معظم الأحيان إلى أن هذه الثقافة الإنسانية موجودة في تقاليدنا وحضارتنا الشرقية العربية الأصيلة التي جاءت إلينا من خلال اختبار الأجيال ، وآداب الجدود وتهذيبهم ، واستنارتهم بالخلق السليم والنهج السوي ، وأن علينا أن نحيي وأن نحافظ على هذا التراث الأدبي الخلقي في حياتنا الفردية وفي حياتنا الاجتماعية .
ولا يفيدنا شيء أن نتزيا وأن نتلبس بالانفلات من التقليد السليم والتطبع بالخشونةو الجلافة والقسوة في معاملاتنا مع الآخرين ، أو بأن نتصور أن لنا من ميزة النسب أو الجاه أو المال أو العلم أو المنصب أو المسؤولية ما يجعلنا في حل من أن نكون مع جميع أفراد الشعب محتشمين متأدبين . وعلى الفئات الاجتماعية المتطورة والمثقفة والغنية والمترفة ، أو التي لها مسؤولية اجتماعية أو قيادية في جميع المستويات ، أن تعطي مثل التأدب والمعاملة بالحسنى واللطف وانكسار الجانب , والمحبة المخلصة والنفحة الإنسانية في كل ما تفكر به وما تقوله وما تعامل به الآخرين ، وفق الآية الذهبية التي وردت في جميع الكتب والأديان : كما تريد أن يتصرف الآخرون بالنسبة إليك عليك أن تعاملهم .
أدب الدخول
من العادات المألوفة والتقاليد المتبعة أن لا يدخل أحد إلى بيت دون أن يستأذن قبل ذلك بالدخول من صاحب الدار . وقد يكون رب البيت منهمكا في عمل له ، أو منصرفا إلى تدبير شؤون منزله ، أو جالسا مع عائلته وأصدقائه ، مطمئنا إلى حال لا يريد أن يزعجه فيها غريب أو جار ، وأن يقطع عليه لذة راحته وانصراف فكره وبحبوحة هنائه بوحدته مع أهله وأصدقائه ، واسترساله في انعدام الكلفة ، والتهيؤ لاستقبال ضيف جديد . وهذه هي الأصول هي من التقاليد اللبنانية العربية الشرقية الأصيلة . ويتخذ أدب الدخول شروطا خاصة ومحاذير معينة عندما يقدم واحدهم على الدخول إلى غرفة نوم رب البيت ، أو الإقبال على مطبخه ، أو موضع استقراره في حرمته ، وما كانوا يسمونه في السابق بقسم الحريم ، وكذلك في موضع صلاته . فهذه الأماكن لها قدسية خاصة يجب أن لا يتجاوزها الداخل إلى البيت ، لأن في البيت أقساما مخصصة لاستقبال الضيوف ، وأقساما أخرى يجب أن تبقى مصونة في وضعها المادي والنفسي والروحي الذي يجعل منها موضع الحرمة في البيت ، ومركز استقرار آله وهنائهم .
وعندما يكون صاحب العمل ذا مسؤولية اجتماعية أو سياسية أو علمية ، أو مضطلعا ببعض وظائف هذه الدنيا ، لا يأذن له وقته في كل حين أن يفتح بابه للداخل والخارج على هوى قدومهم ورغبة استئناسهم به وبحديثه ، أو قصدهم في طلب بعض المصالح . فعلى الداخل أن يستأذن مسبقا ، وبرسول أو بهاتف ، عن إمكانية صاحب المسؤولية أن يتفرغ إلى محادثته وتلبية مشاغله والسماع إلى طلبة مصالحه ، لأن من أصعب الأمور على العاملين في حقل الفكر أو العلم أو القيادة الاجتماعية والإدارية والسياسية والاقتصادية على السواء أن يقطع تيار فكره وسعيه وجهده ، المتحول بكامله إلى معالجة بعض الشؤون العادية أو الطارئة عليه من ضمن عمله ، لكي ينتقل إلى معالجة شيء آخر لا علاقة له البتة بالمشاغل التي هو منصرف إليها بحكم مهنته وواجبه ، ثم يعود إلى هذه المشاغل ، فتكون كمن أجبر على وقف آلة النسج التي يعمل عليها ، أو توقيف دولاب الفاخوري لكي ينصرف إلى الرجل الداخل عليه ليقول له : ماذا تريد يا صديقي ؟
ويدرك أقل الناس إدراكا أن مثل هذا الأسلوب في مقاطعة الناس في فكرهم وفي أعمالهم وفي أشغالهم وفي مهنهم يلحق الضرر الكبير بهم ، ويعطل أعمالهم ومشاغلهم ، بحيث ينعدم الانتظام من العمل البشري وتبطل الجدوى وتضعف الفائدة .
وعلى طالب الحديث أو المواجهة ، في مثل هذه الحالات ، أن يرقب الأوقات التي يخصصها صاحب العمل لفراغه ولمقابلاته ، ومواجهته خارج أوقات راحته ، والراحة حق مقدس للجسم وللعقل علينا ، يتوجب أن ننصرف إليه كما نقبل تماما على واجبنا في العمل في هذه الحياة .
فمن يعمل يتوجب عليه ويحق له أن يرتاح وأن ينام هنيئا ، وأن يأكل هنيئا ، وأن ينصرف إلى عائلته هنيئا ، وأن يخرج في نزهته هنيئا ، وأن يتوجه إلى تعليم وتربية أولاده هنيئا ، أي دون أن يزعجه أحد ، أو يقطع عليه هناء فكره وديمومة راحته وطمأنينته وجدواه في تلك الأوقات . وإنما يستمد الإنسان من هذه الوحدة وهذا الصمت وهذا الهناء وهذه الطمأنينة قوة وطاقة جديدة لمواجهة عمله وشتى واجباته في هذه الحياة .
فعندما نفكر بالآخرين وبمقابلتهم أو الإقبال على بيوتهم يجب أن نفكر قبل كل شيء بهم وبراحتهم ، بما يتلائم مع نظام حياتهم ، لا أن نفكر بنا وبمصالحنا فقط وبأنانيتنا ، وبما يجول فينا من رغبة لأجل التسلية والتلهي ، والتحدث على غير فائدة مع الآخرين .
ومن أدب الدخول أن ننظر إلى نظافة حذائنا من الغبار أو الأوحال أو سواها من الأرجاس قبل أن ندخل إلى مجالس الضيف ، فلا نجبر المسكين صاحب الدار إلى الالتجاء إلى الكنس أو التنظيف بعد أن نكون فارقنا مجلس الدار ، فنترك في ذهنية أصحابه أثرا سيئا . وفي القديم ، ومن العادات العربية واللبنانية المأثورة التي كانت لا تزال قائمة في عهد الناصري والرسول محمد على السواء ، أن ما من أحد كان يدخل الدار إلا ويخلع حذاءه خارجا أو في مكان معين بالقرب من الباب ، أو يؤتى له بلكن من الماء إن كان صافيا فيغسل فيه قدميه .
وعلى الداخل إلى البيت أن لا يتطلع يمينا وشمالا ليلحظ ما لا يجب عليه أن يلحظه داخل الأبواب ، أو لكي يسرق بعض المشاهد من حرمة وحشمة الدار ، ولا يهتم بنظره إلى ما تتضمنه وتحويه من فرش وأناقة وأوضاع للحيطان وللسقف قد تكون على ثراء أو فقر أو تواضع أو غنى ، أو انعدام في الترتيب أو انتظام على السواء . فالعيون الملقة والتي تشع بالحشرية تؤذي . وما أثقل أرباب الحشرية والوقاحة ! فأدب النفس يبدأ عندما نتخلى عن هذه الحشرية وعن هذا الملق وعن هذه الوقاحة في التطلع والتسرق ، وإنما يحترم الإنسان نفسه على قدر ما يحترم الآخرين .
فلنترك جميع هذه الأساليب المستهجنة لبعض المنفلتين ، المقبلين على حضارة الغرب من ذيلها ومن فوضاها ، لا من وجهة انتظامها الصحيح وأدبها الرفيع . فلا نأخذ أحط الأشياء وأبشعها في ما نعمله أو نقدم عليه من تصرف ، بل علينا بالأفضل والأرفع والأليق دائما وأبدا ، كما تحتم علينا بذلك تقاليدنا وعاداتنا اللبنانية العربية الشرقية .
أدب الجلوس
عندما تدخل الدار فمن المألوف أن تنتظر قليلا لتدعى للجلوس ، إذا كان رب البيت موجودا ، وعندما تجلس فليكن الأدب متجليا في جلستك ، ولتكن الحكمة ظاهرة في نظراتك وفي حركاتك ، ولا تتدل على الكرسي فتحني إلى الأمام كمن هو في اضطرار لأن يغادر البيت في أسرع وقت ممكن . ولا تفعل ذلك حتى ولو كان عندك موعد .
فمن دلائل اللياقة وأدب النفس أن يشعر المضيف بأنك غير مستعجل ، وأن فكرك غير منشغل بشيء أو بأمر خارج عن واجب الزيارة ، وكذلك لا تستلقي على الكرسي بعنف ، كأنك تريد أن تمتحن قدرة الكرسي على تحمل عبئك ، ولا ترم بجسمك إلى الأمام كأنك نصف نائم على الكرسي ، بل اجلس في وضع تستقيم به السلسلة الفقرية تماما في خط عامودي ويكون بينها وبين سائر جسمك زاوية ، ففي ذلك راحة لك وأنس للضيف ، إذ يرى فيك الأدب واللطف ، ويستأنس بجلوسك . ثم عليك أن لا تمد أقدامك إلى الأمام كمن يريد عرقلة المسير أمامه ، أو لا يهتم بأن يواجه بقفا حذائه وجوه الآخرين . ومن أبشع العادات أن يضع أحدهم رجلا فوق رجل ، ثم يأخذ بهزها في حركة من التغطرس وأبهة الذات لا تتفق مع أدب الجلوس .
وإذا جلست في موضع فكن مطمئنا منذ البداية إلى حسن جلوسك ، بحيث تكون السلسة الفقرية في شكل عامودي ، فلا يحصل لك من انحنائها إلى الأمام أي تعب أو إرهاق ، واعلم أن الأعصاب تنطلق جميعها من السلسلة الفقرية ، فكل ضغط على العامود الفقري العصبي ، ينجم عن الانحناء إلى الشمال أو اليمين ، أو الاعوجاج إلى الأمام أو إلى الوراء ، يبعث شعورا من التعب في أعصابك جميعا ، سرعان ما ينتقل إلى دماغك ، فترى أفكارك تتراقص أمامك ، ويساورك شيء من التشاؤم والقلق والاضطراب .
وليكن في جلوسك شيء كثير من التواضع ، ولتكن يداك أمامك فلا تلف بهما عنق هذا أو كتفيه أو مخدة الكرسي ، لعلمك بأنك لست حرا في حركاتك وأنت أمام الناس . وإذا كنت متعلما مثقفا ، فحري بك أن تتبع هذه الأصول في الجلوس فلا تزعج الآخرين
وحذار من هذه العادات المتأمركة التي يتبناها بعض المثقفين ، وقد استهوتهم قشور المدنية ، فيظهرون بمظاهر للقعود وللجلوس لا تليق . والأميركيون أنفسهم من الفئات المهذبة لا تتمرس بمثل هذه العادات الخارجة عن نطاق الأدب والحشمة .
كمال جنبلاط