أحمد عوض
ان الدولة الأردنية كغيرها من الدول الحديثة متنوعة المكونات الاجتماعية، ويعود هذا التنوع الى جملة من الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعي التي عاشها سكان المنطقة الجغرافية التي أصبحت دولة في بداية القرن العشرين، والى طبيعة التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمناطق المجاورة في فلسطين وسوريا والعراق والحجاز.
لذلك فإن الأصول التاريخية لجزء كبير من المواطنين الأردنيين يعود الى المناطق الجغرافية المحيطة، والتي كانت متداخلة مع بعضها البعض بسبب غياب الحدود السياسية بين الكيانات السياسية التي نعرفها حاليا، فتجد الشامي والفلسطيني والحجازي والعراقي والشركسي والشيشاني والأرمني وغيرهم من المواطنين الذين تنحدر أصولهم من افريقيا أو جنوب آسيا. وكذلك الحال بالنسبة للدول المحيطة بالأردن، نجد العديد من العائلات والأسر الأردنية منتشرة في العديد من الدول المجاورة بحكم التطور الطبيعي للمجتمعات.
وبسبب القرب الجغرافي بين المدن الأردنية والفلسطينية، فقد حملت العلاقات بين العشائر والعائلات الأردنية والفلسطينية سمات خاصة جسرت العلاقة بشكل أعمق بين الشعبين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، خاصة في المدن المتجاورة مثل نابلس والسلط، والخليل والكرك، وبدرجات أقل بين غزة والعقبة واربد والناصرة وحيفا وصفد، لهذا نجد عشرات العشائر والعائلات مقسمة بين هذين البلدين. وجاء المشروع الصهيوني الاسرائيلي لإقامة دولة على أرض فلسطين والذي رافقة تهجير قسري لمئات الآلاف من الفلسطينيين الى الدول المجاورة جاء غالبيتهم الى المدن الأردنية في عام 1948، ثم الاحتلال الاسرائيلي لما تبقى من أراضي فلسطين عام 1967 وما نتج عنها من تهجير آخر غالبيته تركز في الأردن، وبينهما جاءت وحدة الضفتين في عام 1951 ونتج عن هذه الوحدة أن أصبح جميع الفلسطينيين الذين كانوا مقيمين في الأردن في بداية عقد الخمسينيات من القرن العشرين (وقت اعلان وحدة الضفتين) أردنيين ويتمتعون بكامل حقوق المواطنة.
وتتفاوت تقديرات الأردنيين من أصل فلسطيني في الأردن والفلسطينيين الذين يعيشون في الأردن ولا يتمتعون بالمواطنة الأردنية، ولا يوجد رقم احصائي واحد يمكن الاعتماد عليه بشكل نهائي، الا أن هذا لم يمنع من وجود تقديرات لأعدادهم، وهذه التقديرات تجمع على أن أعدادهم أعلى من أرقام وكالة الغوث الدولية (الأونروا) البالغة (2) مليون. وتؤكد ذلك تقارير الحكومة الأردنية، إذ هناك لاجئين فلسطينيين غير مسجلين في سجلات وكالة الغوث الدولية (الأونروا) لأسباب عدة منها أن أغلبية اللاجئين المسجلين في وكالة الغوث (الأونروا) هم الأشخاص والأسر الذين يحتاجون الخدمات التي تقدمها، وهناك فئات واسعة منهم لا تحتاج هذه الخدمات ولأسباب متعددة. تشير بعض التقديرات إلى أن أعداد اللاجئين الفلسطينيين غير المسجلين في وكالة الغوث الدولية تصل إلى ما يقارب 15% من مجموع اللاجئين. وهناك تقديرات غير رسمية أخرى تشير إلى أن هناك ما يقارب المليون فلسطيني ممن لا تنطبق عليهم معايير وكالة الغوث الدولية (الأونروا)، لأنهم نازحون من الضفة الغربية وقطاع غزة، وبالتالي فإن أعداد الفلسطينيين في الأردن، سواء أكانوا لاجئين أم نازحين ( يتمتعون بالمواطنة الأردنية أم لا)، تقارب (3.3 ) ملايين شخص.
وقد ساهم الفلسطينيون في الأردن وخاصة الذين يتمتعون المواطنة الأردنية في بناء وتطوير الدولة الأردنية في مختلف المجالات، باعتبارهم مواطنين في الدولية الأردنية، لذلك تجد مساهماتهم موزعة على الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية، وشكلوا مع غيرهم من الأردنيين هوية خاصة متنوعة للدولة الأردنية.
وهم كغيرهم من مكونات المجتمع الأردني الأخرى، تجد منهم سياسيين يعملون في وظائف سياسية مرموقة وجزء من بنية الطبقة السياسية الحاكمة، في ذات الوقت تجد منهم السياسيين المعارضين والموزعين على العديد على الأحزاب السياسية المعارضة، وتجد منهم السياسيين الذين يحوزن على احترام غالبية اطياف المجتمع الأردني بسبب نزاهتهم وعدم تورطهم في قضايا فساد مالي أو اداري أو سياسي، في ذات الوقت الذي تجد فيهم سياسيين تدور حولهم قضايا فساد متنوعة، كذلك تجد منهم الاقتصاديين ورجال الأعمال الناجحين الذين يتمتعون بسمعة جيدة وبعيدين عن اية شبهات وممارسات أو صفقات اقتصادية فاسدة، في ذات الوقت تجد فيهم اقتصاديين ورجال أعمال تدور حولهم شبهات وقصص فساد.
الا أن المساهمات الاقتصادية للأردنيين من أصول فلسطينية في الحياة الأردنية وتطور الدولة الأردنية تطغى على غيرها من المساهمات الأخرى. وحيث ان مستوى التطور الاقتصادي في المدن الفلسطينية الرئيسية في بداية تشكيل الدولة الأردنية كان متقدما بشكل ملموس على الوضع الاقتصادي للمدن الأردنية التي كانت تعتمد بشكل اساسي على الزراعة، وكانت بعض المدن تتشارك مع بعضها البعض بعلاقات تجارية، ابرزها كان بين نابلس والسلط، حيث تبيع نابلس الصابون الى السلط، وتشتري منها الفحم. وكذلك كانت هنالك علاقات تجارية بين الكرك والخليل الى جانب العلاقات الاجتماعية الطبيعية التي ترافق بالضرورة نشوء علاقات اقتصادية بين مجتمعات قريبة من بعضها البعض ولا تفصل بينها حدود سياسية.
ومع بداية سخونة الأجواء السياسية في فلسطين خاصة بعد انتهاء الحكم العثماني وبداية الانتداب البريطاني، والهجرات المتتالية لليهود، أخذت العديد من القطاعات الاقتصادية في فلسطين بالبحث بيئات عمل آمنة لها. ومنذ ذلك الوقت بدأ الاقتصاديين الفلسطينيين بنقل بعض انشطتهم الاقتصادية أو جزء منها الى الأردن، تلى ذلك عمليات التهجير القسري لغالبية المجتمع الفلسطيني بمختلف فئاته وطبقاته الاجتماعية بمن فيهم أصحاب الأعمال، فانتقلت معهم أعمالهم وانشطتهم الاقتصادية الى الأردن.
وبدأ دور الأردنيين من أصول فلسطينية الاقتصادي يزداد سنة بعد أخرى، الى جانب دور اقتصادي آخر «للأردنيين من أصول شامية «، (الذين قدموا من سوريا الى الأردن مع بداية تأسيس امارة شرق الأردن في عام 1921 وتأسيس المملكة عام 1946) في النصف الثاني من القرن العشرين الماضي، ولاقت هذه الأدوار والنشاطات الاقتصادية الرعاية من الدولة الأردنية بمختلف مستوياتها. وتوسعت النشاطات الاقتصادية في مختلف القطاعات الاقتصادية بشكل سريع وتركزت بشكل رئيسي في العاصمة عمان، حيث أصبحت هذه المدينة تستقطب عشرات الآلاف من المواطنين والزوار للإقامة فيها باعتباره مركز لمؤسسات الدولة وعاصمتها، وما زال وسط مدينة عمان شاهداً على أسماء المحلات والمؤسسات الاقتصادية التي تعود الى عشرات العائلات الفلسطينية وبعض العائلات الشامية والأرمنية التي بدأت أعمالها هنالك.
وقفز النشاط الاقتصادي للأردنيين من أصل فلسطين في بداية عقد السبعينات من القرن العشرين الماضي قفزه نوعية اخرى، بسبب النتائج التي آلت اليها «حرب أيلول» عام 1970 بين الجيش الأردني والفصائل الفلسطينية، وأصبحت عمليات توظيف الأردنيين من أصل فلسطيني في مؤسسات الدولة الأردنية صعبة للغالية، فاتجه غالبيتهم للعمل في القطاع الخاص وتأسيس أعمال صناعية وتجارية صغيرة العديد منها توسع.
ورافق هذا التنامي الملموس في مساهمة هذا المكون الأساسي من مكونات المجتمع الأردني في الحياة الاقتصادية، مساهمات في مسارات أخرى، لا تقل أهمية عنه، فالتحسن في الأوضاع الاقتصادية لنخبة من هذا المكون الأساسي للمجتمع الأردني، بسبب نشاطاتهم الاقتصادية والتي رافقها زيادات ملموسة في التحويلات المالية التي يرسلها جزء آخر منهم يعملون في دول الخليج العربي النفطية، أدى الى توفير فرص تعليم جيدة لأبنائهم، وكذلك أدى الى حدوث توسع عمراني كبير في المدن الأردنية الرئيسية وعلى وجه الخصوص في عمان والزرقاء واربد، واصبحت العمارة الأردنية ذات طابع خاص مختلط، فتجد ملامح الفنون المعمارية والهندسية الشرقية والغربية المتسمة باستخدام مادة « الحجر» منتشرة على نطاق واسع في العديد من أحياء عمان وشكل أقل في اربد والزرقاء.
وكذلك الحال فيما يتعلق بالمساهمات الثقافية للأردنيين من أصول فلسطينية في الحياة الثقافية والفكرية الأردنية، إذ شكلت عمان مركزا للعديد من الفنانين والشعراء وكتاب الرواية والقصة والموسيقيين وغيرهم من المبدعين الذين ينشطون في مجالات ابداعية وفكرية أخرى، وهم يشكلون بنشاطاتهم وابداعاتهم مساهمات ملموسة في تحديد الملامح الثقافية للمجتمع الأردني الى جانب غيرهم من المبدعين، واصبحنا نجد بسهولة الحضور الواضح للهم الأردني والفلسطيني في مختلف جوانب الابداع الذي يقدمه مختلف المبدعين بغض النظر عن أصولهم.
وفي الختام يمكن القول أن المجتمع الأردني كغيره من المجتمعات الحديثة سواء كانت عربية أو أجنبية يتشكل من مكونات اجتماعية متنوعة، ساهم كل منها بتطوير جانب من ملامحه وهويته. والمجتمعات المتنوعة عادة ما تكتسب ميزات تنافسية تميزها عن غيرها إذا ما أحسن استغلالها لتقوية المجتمع والدولة وفق آليات عمل وادارة ديمقراطية لهذا التنوع لتحقيق وحدة المجتمعات وتطورها ولتنعكس ايجابا على مختلف مكونات وفئات المجتمع الأردني. ويمكن أن تكون عوامل انقسام وتفرقة إذا ما اسيئت ادارتها واستغلالها من قبل فئات اجتماعية لا تتحقق مصالحها الاقتصادية والسياسية الا بتكريس الانقسامات بين أبناء المجتمع الواحد، ويمكن الاشارة في هذا المجال أن تكريس الانقسامات بين مكونات المجتمع الأردني من شأنه وضع عراقيل الى جانب العراقيل الأخرى التي تقف أمام الاسراع في تحقيق الاصلاحات الديموقراطية في الأردن.الفلسطينيون والعمران في الأردنمن المفارقات اللافتة أن ثلاث دول عربية مدينة للفلسطينيين بقدر كبير من ازدهارها العمراني والثقافي، وكان للفلسطينيين فيها شأن مهم ولا سيما في حقول التعليم والادارة والانشاءات والثقافة. وهذه الدول هي الأردن والكويت ولبنان. أما المفارقة فهي ان هذه الدول، من بين بقية دول الشتات، تصادمت مع الفلسطينيين بالسلاح أو بالسياسة أو بكليهما معاً، وأدى ذلك إلى كوارث جدية في مسيرة التحرر الوطني الفلسطيني. ومن المعروف أن الأردن استفاد كثيراً من ضم الضفة الغربية إليه في سنة 1950، الأمر الذي أحدث تغييراً شاملاً في الاقتصاد والمجتمع، فتضاعف عدد السكان ووصل إلى نحو 1,5 مليون نسمة في سنة 1955 بينهم نحو 600 ألف لاجئ. وازدادت مساحة الأراضي الزراعية في الدولة الأردنية الجديدة التي صار اسمها «المملكة الأردنية الهاشمية». وعلى سبيل كانت عمان، في أوائل الأربعينيات من القرن العشرين، مجرد بلدة لا يتجاوز عدد سكانها 40 ألف نسمة، فصار عدد سكانها في سنة 1950 نحو 120 ألفاً، ثم ارتفع في سنة 1960 إلى 220 ألفاً. وهذا ما حصل في البلدات الأخرى كالسلط والزرقاء وإربد وعجلون التي تحولت إلى مدن.
أحمد عوض مدير مركز الفينيق للدراسات الاقتصادية والمعلوماتية ـ الأردن
المصدر: ملحق فلسطين ــ جريدة السفير اللبنانية 25/8/2011