شنت قوات الدفاع الإسرائيلية في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 1966 هجوما مدمرا على قرية السموع، جنوب الخليل في الضفة الغربية، على بعد حوالي أربعة أميال من الحدود مع اسرائيل. شنت إسرائيل الهجوم نهارا بقوة هائلة من المشاة ولواء مدرعا ومدفعية ثقيلة وقذائف هاون ووحدات تابعة لسلاح المهندسين بالإضافة إلى سربين من طائرات الميج. نقلت على وجه السرعة وحدة تابعة للجيش الأردني إلى منطقة الهجوم، لكنها وقعت في كمين وتكبدت خسائر كبيرة. فقد قتل 15 جنديا أردنيا و5 مدنيين وجرح 36 جنديا و4 مدنيين، ودمر 93 منزلا ومخفرا للشرطة ومدرسة القرية وعيادة ومسجدا. اسقطت أيضا طائرة أردنية حربية من طراز «هانتر» في معركة جوية وقتل قائدها.
جاء الهجوم الإسرائيلي ردا على انفجار لغم ارضي في اليوم السابق على الجانب الإسرائيلي من الحدود أسفر عن مقتل ثلاثة جنود إسرائيليين. وشنت اسرائيل، كعادتها، هجوما انتقاميا قويا، إلا ان ردها هذه المرة أخطأ الهدف. فالقادة الإسرائيليون كانوا يدركون جيدا ان العاهل الأردني، الملك حسين، كان يفعل ما بوسعه لمنع «فتح» من شن عمليات من داخل حدود الأردن، لأنهم سمعوا ذلك مباشرة منه ومن ممثليه في «لجنة الهدنة المشتركة». وكان الجانب الإسرائيلي يدرك جيدا ان النظام السوري الذي وصل إلى السلطة في فبراير (شباط) من ذلك العام كان يدرب عناصر العمليات في حركة «فتح» ويدعم عملياتها ضد اسرائيل انطلاقا من الأردن. وظل القادة الإسرائيليون لفترة يشيرون بأصابع الاتهام إلى سورية ويهددون بعواقب وخيمة في حال عدم وقف تلك الهجمات. لذا، فقد جاء الهجوم الإسرائيلي على المدنيين الأردنيين مفاجأة تامة داخل اسرائيل وخارجها. السبب الذي ساقه الناطق باسم قوات الدفاع الإسرائيلية تلخص في ان الذين زرعوا الألغام على الجانب الإسرائيلي من الحدود جاءوا من منطقة الخليل، إلا انه لم يكن هناك توضيح مقنع بشأن مستوى أو كثافة الهجوم. لم يكن ذلك الهجوم غارة روتينية للرد وإنما أكبر عملية لقوات الدفاع الإسرائيلية لأول منذ حرب السويس. على الصعيد الداخلي في الأردن، كانت آثار الهجوم الإسرائيلي بمثابة زعزعة بالغة للاستقرار، وفتح جروحا قديمة وكشف بصورة دراماتيكية ضعف الجيش الأردني وهشاشته، فضلا عن إثارته تململا واسع النطاق واحتجاجات عنيفة ضد النظام.
على الجانب الشخصي، شعر العاهل الأردني بالخيانة من الطرف الإسرائيلي، ذلك ان الهجوم الذي حدث كان يناقض الالتزام الذي عبّر عنه الطرفان الإسرائيلي والأردني مسبقا تجاه سلامة واستقرار الأردن. علاوة على ذلك، وقع الهجوم في يوم عيد الميلاد الـ31 للعاهل الأردني، فضلا عن ان الطيار الذي اسقطت طائرته وقتل كان واحدا من أصدقائه. وآثر الملك حسين، بعد مرور 30 عاما على ذلك الهجوم، الحديث حول الطبيعة التي تنم عن افتقار ذلك الهجوم إلى التوازن والمعقولية، إذ قال: «ترك الهجوم أثرا مدمرا داخل الأردن، ذلك ان العملية، إذا انطلقت بالفعل من الأردن، فإن الأردن لم يسمح بها أو يرعاها أو يؤيدها بأي صورة. كما ان ما لم استطع فهمه هو السبب وراء أن يكون رد الفعل بتلك الصورة إذا جرى تفجير بركة أو أنبوب (على افتراض ان ذلك حدث بالفعل، وهو ما لم أعرفه على نحو مؤكد)؟ هل هناك أي توازن بين الهجوم والرد عليه؟ ولماذا شن الجانب الإسرائيلي هجوما بدلا عن محاولة التوصل إلى وسيلة للتعامل مع المهددات بصورة مختلفة وعلى نحو مشترك؟ ما حدث كان صدمة، ولم يكن هدية عيد ميلاد لطيفة»(1).
نظر الملك حسين وقتها إلى الهجوم الإسرائيلي على السموع بصورة أكثر خطورة واعتبره مؤشرا على تغير في الموقف الإسرائيلي تجاه نظامه، بل وكجزء من مخطط أكبر حجما لإثارة حرب تتمكن قوات الدفاع الإسرائيلية من خلالها من الاستيلاء على الضفة الغربية، إلا انه لم يظهر دليل يعزز شكوكه في هذا الشأن، على الأقل من جانب الحكومة الإسرائيلية بقيادة حزب العمل. ومن الجانب الإسرائيلي زعم اسحق رابين، الذي كان في ذلك الوقت رئيسا لأركان قوات الدفاع الإسرائيلية، ان بعضا من العواقب الخطيرة لم يكن متعمدا، وأكد مرارا على ان المشكلة من الجانب السوري تتمثل في النظام، فيما المشكلة من جانب الأردن لم تكن النظام وإنما المدنيين الذين كانوا يدعمون الفلسطينيين. كما ان خطة العمل التي اقترحها على الحكومة الإسرائيلية لم تكن قائمة على أساس إلحاق خسائر في صفوف الجيش الأردني، بل تحذير السكان المدنيين كي لا يتعاونوا مع العناصر الفلسطينية. الأضرار التي تسبب فيها الهجوم الإسرائيلي تجاوزت كثيرا التقديرات التي اقترحها رابين على الحكومة، بل انه أقر في وقت لاحق بأن لدى ليفي اشكول سببا وجيها للشعور بالغضب تجاهه، إذ قال رابين في هذا السياق: «لم تكن لدينا أسباب سياسية أو عسكرية لإثارة مواجهة مع الأردن أو لإذلال الملك حسين»(2).
كان ليفي اشكول في واقع الأمر يشعر بغضب بالغ تجاه رابين بسبب نزيف الدم والدمار الذي حدث. وشعر بأن كبار ضباط قوات الدفاع الإسرائيلية قد قدموا للحكومة نصائح سيئة، وأن سورية كان من المفترض أن تكون هي الهدف، وليس الأردن. وكانت النتيجة، على حد تعبير ليفي اشكول هي ان «اسرائيل وجهت ضربة للزوجة بدلا من الحماة الشريرة». كانت هناك مسألة مبدئية أيضا، وهي ان ديفيد بن غوريون عندما كان رئيسا للحكومة نادرا ما دعا إلى مساءلة قوات الدفاع الإسرائيلية عن أفعالها. يضاف إلى ذلك ان اشكول أيضا جمع بين رئاسة الحكومة وحقيبة الدفاع، لكنه كان مصمما على التأكيد على سيطرة المدنيين على الجيش. وقد أشارت مريم اشكول، زوجة رئيس الوزراء، في يومياتها إلى المرارة التي كان يشعر بها زوجها تجاه قادة قوات الدفاع الإسرائيلية في ذلك الوقت. وجاء في يوميات مريم اشكول ان زوجها عقب الهجوم على السموع قال لها: «اكتبي في يومياتك انني، على خلاف سلفي، لست ممثلا للجيش في الحكومة»(3). السبب الرئيسي لغضب اشكول تجاه الهجوم على السموع يكمن في انه جاء معاكسا لسياسته القائمة على أساس دعم الملك حسين ومساعدته في جهوده ضد المنظمات الفلسطينية. نظر الملك حسين إلى الهجوم على قرية السموع كونه عملا حربيا أكثر منه هجوما روتينيا للرد على هجوم سابق. وفسر ما حدث على اعتبار انه مؤشر على ان اسرائيل لم تعد ملتزمة ببقاء واستمرار نظامه وان الإسرائيليين يضعون الضفة الغربية لمملكته نصب أعينهم. بالنسبة للملك حسين، لم يكن الهجوم على السموع حادثة منفصلة، بل جزءا من مخطط إسرائيلي واسع لتصعيد النزاع على الحدود إلى حرب توسعية واسعة النطاق. اما زئيف بار ـ لافي، الذي كان يعمل في القسم الخاص بالأردن في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية والذي كان يحتفل بعيد ميلاد الملك حسين، فقد كتب التقييم التالي للعواقب المترتبة على الهجوم الإسرائيلي على السموع: «مسألة السموع أثارت قلقا بالغا لدى الملك حسين. فقد نظر إلى الهجوم كونه نية من جانب اسرائيل لتمهيد الطريق لغزو الضفة الغربية ومحاولة تهدف لتطويق خط الدفاع الأردني من اتجاه الجنوب. كل المحاولات لتهدئته من جانب القوى الغربية باءت بالفشل. الملك حسين لم يشعر بالارتياح، واستمر خوفه من ان اليهود سينتزعون من الأردن ثمن الهجمات السورية وعمليات المخربين. لماذا يقنع اليهود أنفسهم بتدمير بضعة ألوية سورية غير ذات اهمية؟ لا، اليهود سيتجهون صوب شيء ملموس، مثل غزو الضفة الغربية في أي لحظة يجدون فيها مبررا»(4).
وصفي التل كان من جانبه أيضا على قناعة بأن اسرائيل كانت بصدد جر الأردن إلى رد فعل يدفع اسرائيل إلى خوض حرب. باختصار، كان كل من وصفي التل والملك حسين يشك في ان اسرائيل كانت بصدد نصب فخ للأردن، وكانا حذرين من الوقوع فيه. وبدلا من الرد على الهجوم الإسرائيلي آثرا إحالة المسألة إلى مجلس الأمن. الهجوم على السموع وفشل الملك حسين في الرد عليه بقوة أثارا عداء فلسطينيا كبيرا تجاهه وصب ما حدث في مصلحة أعدائه. وهكذا، فإن الهجوم على السموع وسّع من الشقة الموجودة أصلا بين النظام الأردني والفلسطينيين في الأردن. واتُهم النظام الأردني وقتها داخليا وعربيا بإهمال دفاعات الأردن والفشل في حماية سكان قرية السموع من العدو. منظمة التحرير الفلسطينية وسورية ومصر أججت من جانبها العداء الشعبي تجاه النظام الأردني من خلال شن هجوم دعائي شرس كان معظمه موجها ضد الملك حسين شخصيا، وانفجر الإحباط المكبوت فجأة وأشعل احتجاجات غاضبة وعنيفة، واندلعت مظاهرات في مخيمات اللاجئين في مدن الضفة الغربية. كما اندلعت أعمال شغب خطيرة في كل من الخليل وأريحا والقدس ورام الله ونابلس وجنين وطولكرم وقلقيلية، وسار المتظاهرون في الشوارع يحملون لافتات عليها شعارات قومية ويرددون شعارات مؤيدة لجمال عبد الناصر وبانتهاء الملك حسين إلى مصير نوري السعيد. استهدف المتظاهرون المكاتب الحكومية وسيارات الشرطة، واستدعي الجيش وصدرت له تعليمات باستخدام إجراءات مشددة لإخماد أعمال الشغب فرضت بموجبها حالة حظر التجول، كما جرت حملات اعتقالات جماعية واستخدم الغاز المسيل للدموع وأطلق الرصاص الحي على التجمعات. على الرغم من هذه الإجراءات المشددة لم تستطع قوات الجيش استعادة الأمن والنظام إلا بعد حوالي اسبوعين. ولكن ثمة ملمحا جديدا ظهر في تلك الأزمة، ألا وهو المشاركة النشطة لقادة وعُمد الضفة الغربية في الاحتجاجات المناوئة للنظام الأردني. بعض هؤلاء الأعيان طرحوا أنفسهم كـ«قيادة وطنية» وطالبوا بعقد «اجتماع شعبي لمناقشة القضايا الرئيسية المتعلقة بالوطن»، وصاغوا «مانفستو وطنيا» نادى بوجود للجيوش العربية فوق الأراضي الاردنية وأيد منظمة التحرير الفلسطينية كممثل وحيد لإرادة الشعب الفلسطيني، إلا أن المانفستو لم يتضمن تأكيدا على إعلان فلسطيني من جانب واحد لاستقلال الضفة الغربية، لكنه شكّل تحديا للنظام الهاشمي لم يستطع النظام الأردني التغاضي عنه.
الهجوم الإسرائيلي على قرية السموع، كما هو واضح من ردود الفعل العنيفة على الصعيد الداخلي، كان بمثابة نقطة تحول في العلاقات بين المملكة الهاشمية وفلسطينيي الضفة الغربية، وشكّل على حد وصف الخبير الإسرائيلي موشي شيميش نقطة تحول في «موقف الأردن تجاه اسرائيل، من حالة تعايش خاضع للحراسة إلى حالة إحباط وتشاؤم». وكتب شيميش ان التفكير الذي كان سائدا ومسيطرا على المستويين العسكري والمدني في الأردن هو أن: «خطة اسرائيل الرئيسية كانت ترمي إلى غزو الضفة الغربية، وان اسرائيل كانت تعمل جاهدة لاستدراج الدول العربية كافة إلى حرب عامة تستطيع اسرائيل من خلالها الاستيلاء على الضفة الغربية. وطبقا لهذا التفكير، وعلى ضوء الضعف العسكري الأردني والتردد العربي، كانت تعتقد اسرائيل انها لن تواجه مشكلة تُذكر في الاستيلاء على الضفة الغربية. أقلقت هذه المخاوف الأردنيين عقب الهجوم الإسرائيلي على قرية السموع إلى حد بالغ على نحو يستدعي اعتبارها عاملا أساسيا في قرار الملك حسين بالمشاركة في حرب الأيام الستة. فقد كان مقتنعا بأن اسرائيل ستحتل الضفة الغربية إذا شارك الأردن في الحرب أو لم يشارك.
القلق الذي شعر به القادة الإسرائيليون عقب الهجوم على قرية السموع تركز في احتمال انهيار نظام الملك حسين ونقل قوات من الدول العربية إلى الأردن. وأرسل د. ياكوف هيرزوغ على وجه السرعة إلى لندن لمعالجة جزء على الأقل من الأضرار التي لحقت بالعلاقات مع الأردن نتيجة هجوم السموع. عقد اجتماع مع الملك حسين كان امرا مستبعدا، لذا فقد صاغ هيرزوغ خطابا الى الدكتور ايمانويل هيربيرت لإرساله بدوره إلى صديقه الملك حسين. وعلى الرغم من ان هيربيرت كان يشعر بغضب بالغ تجاه أصدقائه الإسرائيليين، إلا انه آثر إرسال الخطاب إلى الملك حسين لكي ينقذ ما وصفه هيرزوغ بـ«مشروع أساسي في السياسة الخارجية الإسرائيلية». عبّر الخطاب عن أسف بالغ تجاه الخسائر في الأرواح وأكد للملك حسين استنادا على «معلومات موثوقة للغاية من أعلى سلطة» ان لا تغيير أيا كان في السياسة الأساسية. ووصف الخطاب الهجوم كونه «خطأ بالغ الفداحة»، لكنه أشار أيضا إلى الاستفزاز الذي تعرضت له اسرائيل من «جانب عصابات الإرهابيين»، واختتم الخطاب بمناشدة الطرفين ببذل جهد في سبيل تخفيف التوتر، مثلما فعلا في السابق. ولم يتلق هيربيرت ردا على ذلك الخطاب، وقال ان أصدقاء الملك حسين الذين جاءوا لمقابلته عقب الهجوم تحدثوا حول اسرائيل بأسلوب مختلف وطريقة عدائية للغاية. جرت عدة مناقشات في ديسمبر (كانون الأول) 1966 في القدس حول السياسة تجاه الأردن بمشاركة ممثلين عن وزارة الخارجية والاستخبارات العسكرية والموساد. كان ثمة إجماع عام على ان النظام الأردني قد عبّر عن تصميمه على البقاء والاستمرار خلال السنوات الـ18 السابقة لكنه ظل يفتقر تماما إلى أي فرصة للاستمرار على المدى الطويل، وتركز السؤال حينها على كيف كان استمرار النظام الأردني عاملا حاسما بالنسبة لدولة اسرائيل. برز موقفان تجاه هذه القضية، فقد كان هناك من يرى ان وجود الملك حسين يمثل مشكلة لأن وجود الضفة الغربية بصورتها تلك كان يشكل كارثة على اسرائيل وان الملك حسين يشكل عقبة في طريق التغيير. اما الرأي الآخر، فقد كان مخالفا تماما، ذلك ان أصحاب هذا الرأي كانوا يعتقدون ان الوضع المناسب هو ان يعمل الملك حسين على تعزيز الوضع الراهن حينها، وكانوا يتطلعون إلى تعايش معه، فيما وُصف موقف قوات الدفاع الإسرائيلية بأنه وسط بين الموقفين. لم يكن مستغربا ارتباك الملك حسين تجاه الموقف الإسرائيلي في ظل تلك المواقف المتباينة. ويمكن القول ان عدم الثقة في اسرائيل دفع الملك الحسين باتجاه الولايات المتحدة، علماً بأن إدارة الرئيس جونسون كانت قد وبخت إسرائيل بحدة بسبب هجوم السموع وصوتت في مجلس الأمن لصالح قرار يدين الهجوم. وتلقى الملك حسين مساندة قوية من فيندلي بيرنز، السفير الأميركي في عمان، ومن جاك اوكونيل، مدير مكتب وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) في عمان خلال الفترة 1967ـ1971. وكان بيرنز يشك في ان مصر وسورية وإسرائيل لم تكن تشعر بقلق إزاء اندلاع حرب عربية ـ إسرائيلية قصيرة تنتهي بانهيار الأردن. كانت تربط الملك حسين علاقة وثيقة مع جاك اوكونيل أكثر من أي مسؤول أميركي آخر قبله أو بعده، وكانت علاقتهما قائمة على الاحترام المتبادل والثقة المطلقة. حصل اوكونيل على الماجستير في القانون الإسلامي من جامعة البنجاب، وعاد بعد ذلك إلى جامعة جورجتاون ليحصل على درجة الدكتوراه في القانون الدولي. وخلال أزمة عام 1958 اُرسل اوكونيل لتعزيز فريق وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في الأردن، وكانت تلك هي الفترة التي توثقت علاقته خلالها مع الملك حسين. ونتيجة للثقة والاحترام بين الملك حسين وأوكونيل استمرت علاقة العمل بينهما في انسجام وفعالية. اوكونيل من جانبه قدم مساعدات هائلة للملك حسين ومملكته، واستمرت العلاقة بينهما حتى عقب تقاعد اوكونيل من العمل في وكالة الاستخبارات المركزية عام 1971 ليلتحق بعد ذلك بالعمل في شركة للمحاماة في واشنطن، وأصبح فيما بعد محامي الأسرة الهاشمية ومستشارا ومحاميا للحكومة الاردنية. اقتنع الرئيس الأميركي ليندون جونسون من جانب مستشاريه بالحاجة إلى دعم الأردن. ففي 23 نوفمبر (تشرين الثاني) 1966 بعث جونسون خطابا خاصا إلى الملك حسين استهله بـ«كلمات التعاطف لا تساوي كثيرا عندما تزهق أرواح من دون مبرر». تضمن خطاب جونسون إلى الملك حسين نقطتين أولاهما طمأنته للملك حسين بأن الإدارة الأميركية لا تزال لها مصلحة في أمن وسلامة الأردن وصالح شعبه. ثانيا، عقب علمه من بيرنز بمخاوف الملك حسين تجاه اسرائيل، أراد جونسون طمأنة العاهل الأردني بأن سياسات اسرائيل لم تتغير وأن اسرائيل لا تعتزم احتلال الضفة الغربية لنهر الأردن. فمعارضة الولايات المتحدة لاستخدام القوة بغرض تعديل الحدود في الشرق الأدنى كانت واضحة تماما لدى اسرائيل بصورة مباشرة وفي التصريحات الرسمية، وكان الرئيس جونسون على قناعة بأنها مفهومة تماما لدى الجانب الإسرائيلي. كان خطاب جونسون مهما فيما يتعلق بوعده بمعارضة أي محاولة من جانب اسرائيل لتغيير الحدود على حساب الأردن، لكنه لم يبدد مخاوف الملك حسين، الذي وجه الدعوة إلى كل من اوكونيل وبيرنز في 10 ديسمبر من ذلك العام. ويقول بيرنز انه في تلك المناسبة رأى الملك حسين لأول مرة عابسا وتبدو عليه آثار الضغوط واضحة. وقال أيضا انه كان واضحا ان الملك حسين كان يحاول ما بوسعه للسيطرة على مشاعره من الانفجار علنا. قال الملك حسين لضيفيه إنه على الرغم من ان حدة المظاهرات قد تراجعت، فإن ضغوطا كانت تعتمل بصورة متزايدة، على حد قوله. وقال أيضا ان الشقة المتزايدة بين الضفة الغربية والشرقية قد دمرت أحلامه، وقال أيضا لضيفيه أيضا ان الشيء الوحيد الذين كان يربط بينه والجيش هو الولاء التقليدي، إلا ان هذا الولاء، كما قال، بات في حالة تراجع مؤكدا ان «هناك حالة أقرب إلى اليأس في أوساط الجيش». شكا الملك حسين أيضا من انه محاصر بالأعداء من كل الجهات، خارج الأردن وداخلها. فسورية كانت تنادي علنا بإطاحته وتسهّل تسلل الإرهابيين إلى سورية وتزودهم بالسلاح لتحقيق هذا الهدف، واختتم الملك حسين حديثه مؤكدا على ضرورة اتخاذ واشنطن قرارا بشأن طلبه للمساعدة. فقد كانت تربطه وواشنطن على مدى عقد من الزمن علاقة شراكة، وكانت واشنطن في تلك الظروف الحرجة الصديق الوحيد الذي يمكنه اللجوء إليه، وكانت الاستجابة المناسبة، في نظره، ستمكنه، كما قال، من تبرير سياسته السابقة لجيشه ولشعبه ولمنظمة التحرير الفلسطينية وللجميع. وقال في ختام حديثه مع أوكونيل وبيرنز ان التأخير المتكرر من جانب الولايات المتحدة في هذا الشأن لم يترك له خيارا سوى الموافقة على قرار مجلس الدفاع العربي في القاهرة بإرسال قوات سعودية وعراقية إلى الأردن. إذا رفضت الولايات المتحدة طلب الملك حسين المساعدة، فإن هناك ثلاثة خيارات مفتوحة أمامه، حسب قوله. فإما الاستعداد لكارثة وشيكة، أو مواجهة كل أعدائه أو إعلان الضفة الغربية منطقة عسكرية ومناشدة الدول العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية إرسال قوات لحمايتها. وبدا له الخيار الثالث هو الوحيد الذي سيمكّنه من تحصين الضفة الشرقية وتوفير فرصة أخيرة له لخدمة قضيته.
ظهرت عدة مؤشرات خلال حديث الملك حسين مع جاك أوكونيل مدير مكتب وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية (سي آي إيه) وفيندلي بيرنز السفير الأميركي في عمان على أنه بات متشككا إزاء نوايا الولايات المتحدة فيما يتعلق بالأردن. فواشنطن كانت على علاقة وثيقة مع إسرائيل، وهذا أمر من المحتمل أن يؤثر على قدرتها على الاستجابة لطلبه المساعدة. كان الملك حسين يشعر أيضا بأن أميركا لم تكن تقدّر خطورة الوضع في المملكة الأردنية أو رغبة أعدائه في التخلص منها، وأعرب الملك حسين عن رغبته في إبلاغ وجهة نظره الشخصية هذه لعناية الرئيس الأميركي. انتهى بذلك الحديث الجزء الرسمي من اللقاء وطلب الملك حسين من اوكونيل وبيرنز البقاء لبعض الوقت. وفي حديث خاص في مقر إقامته بعيدا عن القيود الرسمية للبلاط واصل الملك حسين حديثه وكشف لضيفيه، اللذين أصابتهما الدهشة، انه ظل يجري اتصالات سرية مع قادة إسرائيليين على مدى السنوات الثلاث السابقة في إطار لقاءات سرية بين الجانبين. وأوضح الملك حسين ان الغرض من تلك الاتصالات كان التوصل إلى تفاهم يضمن السلام بين الأردن وإسرائيل على أمل التوصل في نهاية الأمر إلى تسوية للقضية الفلسطينية من خلال التفاوض. وقال لهما أيضا انه لا يعرف ما كان يجب عليه فعله كي لا يحدث ما حدث، في إشارة إلى الهجوم الإسرائيلي على قرية السموع. وأضاف قائلا بهدوء إن لا أحد سواه في الأردن يعرف شيئا عن المناقشات التي أجراها مع الإسرائيليين. وأكد الملك حسين لهما أيضا انه لا يؤمن بالحرب كوسيلة لحل المشكلة الفلسطينية. فقد ظل باستمرار يتبع نهجا معتدلا في تعامله مع المسألة الفلسطينية على أمل ان يضطلع أشخاص يتميزون بالمعقولية بالتفاوض يوم ما للتوصل إلى تسوية عادلة من خلال التفاوض. بذل الملك حسين أيضا كل ما يستطيع للقضاء على الإرهاب ضد اسرائيل عبر حدود الأردن، والولايات المتحدة وإسرائيل على حد سواء كانتا تدركان كل هذه الأشياء، وقال ان الإسرائيليين كانوا يدركون هذه الحقيقة لأنه «شخصيا أبلغهم بذلك». نبّه الملك حسين الإسرائيليين إلى ان الأردن لا يمكن ان يتحمل هجوما انتقاميا، وقبل الإسرائيليون بذلك، ووعدوه بأن شيئا من هذا القبيل لن يحدث. إلى جانب اللقاءات السرية كانت هناك اتصالات سرية ايضا على المستوى الشخصي بينه والقادة الإسرائيليين، وكانت تلك الاتصالات بمثابة تأكيد على التفاهم. أما آخر رسالة تلقاها من الجانب الإسرائيلي، فقد تضمنت تأكيدا على ان اسرائيل لا تعتزم شن هجوم على الأردن. تلقى الملك حسين تلك الرسالة في 13 نوفمبر (تشرين الثاني)، وهو نفس اليوم الذي هاجمت فيه القوات الإسرائيلية قرية السموع. وأوضح أيضا انه لم يكن يتوقع تلك الرسالة ولم يطلبها أصلا، كما أوضح أيضا انه ربما تكون قد أرسلت قبل 24 ساعة أو 48 ساعة من موعد تسلمه لها. وفي هذا السياق قال حسين لضيفيه الأميركيين ان ذلك الهجوم كان «خيانة تامة من الجانب الإسرائيلي لكل ما حاول فعله خلال السنوات الثلاث السابقة في سبيل السلام والاستقرار والاعتدال على حساب مخاطر سياسية شخصية». وقال في ذات السياق: «الغريب في الأمر انه على الرغم من المناقشات والاتصالات السرية، وعلى الرغم من الاتفاقيات والتفاهمات والضمانات السرية لم يحدث ان وثقت كل الثقة بنواياهم تجاهي أو تجاه الأردن. فيما يتعلق بتقييم نوايا الإسرائيليين، اطلب منكم ان تضعوا تجاربي معهم في ميزانكم للأمور». أنهى الملك حسين حديثه قائلا: «هذا ما يتلقاه المرء جزاء عندما يحاول ان يكون معتدلا، وربما عندما يكون غبيا». وطلب عقب ذلك ان تظل هذه المعلومات طي الكتمان وفي غاية السرية بين اقل عدد ممكن من الأشخاص. وعندما كتب بيرنز في وقت لاحق حول هذا الحديث سلط الضوء على طلب الملك حسين وأشار إلى ان الملك عبد الله اغتيل بواسطة فلسطيني عندما كُشف النقاب عن اتصاله بالجانب الإسرائيلي. التقارير ذات الصلة بما دار من حديث شبه رسمي وشبه خاص بين الملك حسين وأوكونيل وبيرنز استخدمت في إعادة النظر في السياسة الأميركية تجاه الأردن التي كانت قيد الإجراء في واشنطن. وكانت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية قد شاركت في هذا الأمر بمذكرة من 11 صفحة تحت عنوان «النظام الأردني: آفاق مستقبله وعواقب زواله» أعدها مكتب التقييم الوطني بالتنسيق مع «مكتب الاستخبارات والخدمات السرية». وحُذف من المذكرة اسم الشخص الذي أعدها، بيد ان محتواها عكس معلومات جاك اوكونيل الخاصة وآراءه. بصرف النظر عن هوية الشخص الذي أعدها، فإن المذكرة سلطت الكثير من الضوء على أكثر الأزمات خطورة خلال فترة حكم الملك حسين. وتضمنت المذكرة إشارة إلى أن الملك حسين «بقي في العرش على الرغم من التأييد السياسي الضئيل والضعف العسكري النسبي مقارنة مع أعدائه والعداء الذي ناصبه إياه العرب الراديكاليون الذين كانوا يعتبرونه دمية في يد الغرب». بقاؤه في الحكم كان يعزى من ناحية إلى شجاعته وسعة حيلته، ومن ناحية ثانية إلى تأييد الولايات المتحدة له. ثمة سبب آخر هو ان العرب الراديكاليين احتملوا حكمه كبديل للنزاع مع اسرائيل، وهو نزاع كانوا يدركون انهم ليسوا على استعداد له. ويبقى القول إن الأحداث تركت الأردن في وضع لا يحسد عليه وهددت الوضع الراهن آنذاك. فمنظمة التحرير الفلسطينية أصبحت أكثر عنفا في انتقادها للملك حسين بسبب رفضه قبول قوات عسكرية عربية في الأردن ووضعها على الحدود مع اسرائيل. كما ان منظمة «فتح» كثفت من هجماتها داخل اسرائيل، وكان معظمها انطلاقا من أراضي الأردن، الذي بذل قصارى جهده لمنعها. هجوم اسرائيل على قرية السموع أحدث هزة عنيفة للملك حسين وحكومته وأذلت جيشه. وظهر الملك حسين أمام مواطنيه وجيرانه، وربما أمام نفسه، بمظهر من خذلته الولايات المتحدة. الفلسطينيون سيروا مظاهرات على مدى ثلاثة أسابيع ضده وضد حكومته، وشجعتهم على ذلك الحملات الدعائية للحكومتين السورية والمصرية ومنظمة التحرير الفلسطينية. كما ان السخط في أوساط القوات المسلحة الاردنية كان في تزايد مستمر، وكان الملك حسين مدركا ضعف موقفه على الصعيد الداخلي، كما كان يعتقد فيما يبدو ان الخطر الذي تشكله اسرائيل أكبر مما كان يتصور. يضاف إلى ذلك انه كان يشعر بقلق عميق إزاء احتمال فشل الولايات المتحدة في مساندته بقوة. لذا، فقد كان في صدارة أولوياته ان يبرهن للجيش الأردني ولمواطنيه انه يتلقى باستمرار تأييدا كاملا من الولايات المتحدة، وكان قد طلب بالفعل من الولايات المتحدة إمدادات إضافية من السلاح لمساعدته في تبديد الاستياء في أوساط القوات المسلحة.
استجابة الولايات المتحدة لطلب الملك حسين كان بمثابة عامل حاسم للوضع القائم آنذاك: «فالمساعدات العسكرية الأميركية كانت ستدعم موقفه بصورة كبيرة. اما رفضها زيادة حجم المساعدات، أو تقديم مساعدات بكميات اسمية، فكان من شأنه إضعاف موقفه وتثبيط عزيمته».
كان لدى الملك حسين بعض الشكوك في ان الولايات المتحدة وإسرائيل تتعاونان ضده، وربما تكون تلك الشكوك قد تأكدت له بالفعل. ورد في المذكرة ان أي كمية من المساعدات الأميركية ربما لا تضمن استمرار حكمه، وأشارت أيضا إلى ان تقديم مساعدات كبيرة وفورية من المحتمل ان تساعده على استمرار سيطرته سياسيا. جاء في المذكرة أيضا: «يمكن القول باختصار إن فرص الملك حسين في تجاوز هذه الأزمة تعتمد على عدة احتمالات، جميعها خارج نطاق سيطرته. من الواضح انه في ورطه عميقة، كما ان هناك مخاطر كبيرة تتهدده وتتهدد الاتفاقيات المؤقتة التي ساعدت على وجود سلام صعب في المنطقة». عملية إعادة النظر في السياسة تجاه الأردن أسفرت عن اتخاذ قرار بتزويده بمعدات عسكرية، لكنها لم تكن بالحجم الذي طلبه الملك حسين مسبقا. وبات الاعتقاد السائد ان انهيار نظامه من المحتمل ان يؤدي إلى حرب مفتوحة بين العرب وإسرائيل، وهذا أمر لم يكن في مصلحة الولايات المتحدة. وكدليل ملموس على دعم إدارته المستمر للأردن وافق جونسون على نقل معدات عسكرية بقيمة 4.7 مليون دولار إلى عمان بغرض تحسين فعالية وحركة الجيش الأردني وقوته النارية. وكان المسؤولون الأميركيون يأملون في ان يستخدم الملك حسين هذه الأسلحة «لمنع مجموعات حرب العصابات الفلسطينية من استخدام الأردن كقاعدة لانطلاق العمليات العسكرية ضد إسرائيل» وليس للاستعداد لحرب ضد الدولة اليهودية. وهكذا، فقد كان أمن إسرائيل هو القضية الرئيسية التي شغلت صناع السياسة في واشنطن من بداية هذه الأزمة وحتى انتهائها بتقديم مساعدات عسكرية متواضعة إلى الأردن. الملك حسين أرسل من جانبه خطابا إلى جونسون شكره فيه على تعاطفه واهتمامه وخطواته في مساعدة الأردن على تجاوز تلك الأزمة، لكنه لم يذكر خيبة أمل كبار العسكريين الأردنيين تجاه بعض الجوانب الخاصة بالمساعدات العسكرية التي قدمتها واشنطن. وفي المفاوضات مع المبعوث الشخصي للرئيس جونسون، ويليام ماكومبر، أوضح الملك حسين انه لا يتفق مع اعتقاد واشنطن في ان إسرائيل لم تغير سياستها تجاه الأردن. وكان يدرك في نفس الوقت ان الاستجابة الأميركية فيما يتعلق بالمساعدات العسكرية كانت في الأساس وسيلة لتهدئة الأوضاع أكثر منها وسيلة للتعامل مع خطر طويل المدى. فيما يتعلق بالإبقاء على القوات العربية خارج الأردن، لم يستطع الملك حسين تقديم ضمانة بذلك لكنه وعد بفعل كل ما يستطيع في هذا الأمر، لأنه لم يكن في مصلحة الأردن. وأخيرا ابلغ الملك حسين ماكومبر بأنه يعتزم مواصلة سياساته وإجراءاته المعتدلة بغرض تحسين الاستقرار في المنطقة. على الصعيد الداخلي الأردني كان هناك موقفان في أوساط مؤسسة الأمن الوطني تجاه الهجوم على السموع. فقد كانت هناك مجموعة ترى ان الأردن في حاجة إلى الدول العربية الأخرى كاحتمال أوحد للدفاع عن أراضي الأردن في مواجهة أي عدوان إسرائيلي مستقبلا، وهذا يعني التقارب مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر. وكانت هناك مجموعة أخرى، بقيادة وصفي التل، ترى ان الهجوم الإسرائيلي على السموع اثبت ان «القيادة العربية المشتركة» لم تكن ذات جدوى، وبالتالي من الأفضل ان يركز الأردن على تطوير دفاعاته بنفسه. وكان وصفي التل ينتهج بصورة عامة سياسة مواجهة مع كل منظمة التحرير الفلسطينية وسورية وعبد الناصر. كان الملك حسين على إدراك بمقدرات ودينامية وإخلاص وصفي التل، لكنه كان يريد رئيس وزراء أقل صرامة بغرض تحسين العلاقات مع العالم العربي. ففي ابريل (نيسان) 1967 أصدر الملك حسين قرارا بتعيين سعد جمعة رئيسا للوزراء، لكنه أبقى على وصفي التل رئيسا للديوان الملكي. وبعد حوالي ستة أسابيع من انتهاج الملك حسين سياسته الجديدة دخل الأردن في حرب واسعة النطاق في مواجهة إسرائيل انتهت بخسارة الأردن للضفة الغربية. المحسوبون على مؤسسة الحكم ودوائر صناعة السياسات في الأردن قالوا إنه لم يكن هناك من خيار سوى القتال إلى جانب الأشقاء العرب، إلا انه لم يكن هناك أي شيء حتمي فيما يتعلق بوتيرة سير الأحداث التي قادت إلى حرب يونيو (حزيران) 1967، وهي حرب لم تكن لها ضرورة أصلا وانتهت بنتائج كارثية لكل الأطراف العربية المشاركة فيها، لا سيما الأردن. ويمكن القول هنا ان مفهوم «عدم وجود خيار آخر» ابتكره من كانوا يعملون في دوائر صنع السياسات في الأردن بغرض التغطية على أخطائهم ومسؤولياتهم الشخصية تجاه الكارثة التي جلبوها على بلدهم. وواجه الملك حسين موقفا صعبا، فقد كانت أمامه مجموعة من الخيارات كان بوسعه الانتقاء منها، لكنه انتهى إلى خيار خاطئ. وكان وصفي التل قد ظل يحذر الملك حسين مرارا من أن السير وراء مصر سيورد إلى الحرب وإلى خسارة الضفة الغربية، وهذا ما حدث بالفعل. وبسبب قراره فقد الملك حسين السيطرة على سير الأحداث وانتهى إلى خسارة نصف مملكته. التنافس العربي الداخلي كان بمثابة العامل الحاسم في إشعال فتيل الأزمة التي قادت إلى حرب يونيو (حزيران) 1967. القول بأن سبب الحرب ناجم عن التنافس والخلاف العربي الداخلي أكثر منه عن النزاع بين الدول العربية وإسرائيل ربما يبدو بعيدا عن الواقع، بيد ان هناك حقائق تدعم هذا القول. فالعالم العربي حينها كان في حالة اضطراب بالغ ناجم عن النزاع والتشكيك فيما بين الأنظمة العربية الراديكالية والمحافظة. استولى النظام البعثي على السلطة في سوريا في فبراير (شباط) عام 1966 ورفع شعار الوحدة العربية وكان يحرض على إشعال حرب شعبية لتحرير فلسطين. فهو لم يكتف فقط بدعم وحدات حركة «فتح» لمهاجمة إسرائيل انطلاقا عبر الحدود الأردنية، بل دخل في مناوشات مع الجيش الإسرائيلي على طول الحدود المشتركة، وبلغ تصعيد العنف ذروته باندلاع معركة جوية في 7 ابريل (نيسان) عام 1967 اسقطت خلالها ست طائرات ميغ سورية سوفييتية الصنع بواسطة سلاح الجو الإسرائيلي، وبتلك الحادثة بدأ العد التنازلي لحرب يونيو (حزيران) 1967. النزاع بين سورية وإسرائيل لم يسفر عن أي تحسن في العلاقات بين دمشق وعمان. ووصلت العلاقات بين البلدين إلى قمة التوتر عندما انفجرت ناقلة سورية محملة بالديناميت في نقطة للجمارك الأردنية في الرمثاء في 21 مايو (أيار). وعند ذلك بات الملك حسين على قناعة بأن العناصر الراديكالية في سورية تنظر إلى الأردن، وليس إلى إسرائيل، بوصفه العدو الحقيقي ووصف الإرهاب وسيلة يهدف من خلالها أعداؤه السوريون إلى دفع إسرائيل لتوجيه ضربة انتقامية لتدمير الأردن. واتخذ الملك حسين حينها قرارا بقطع العلاقات الدبلوماسية مع سورية لدى عودته من مسرح الانفجار في الرمثاء. الرئيس المصري جمال عبد الناصر كان يواجه من جانبه مأزقا يتلخص في كيفية لجم العناصر المتهورة في النظام السوري إلى حين تحقيق هدفين رئيسيين كان ينظر إليهما كشرطين يجب تحقيقهما قبل الدخول في حرب مع إسرائيل وهما تحقيق الوحدة العربية وتحقيق تكافؤ في القوة العسكرية بين العرب وإسرائيل. وكخطوة أولى في هذا الاتجاه وقّع عبد الناصر اتفاقية دفاع مشترك مع سورية في 7 نوفمبر (تشرين الثاني) 1966، إلا أن فشل عبد الناصر في مساعدة سورية في المعركة الجوية بين الطائرات السورية والإسرائيلية في 7 ابريل 1967 كشف خواء تلك الاتفاقية وأضعف مصداقيته كحليف. استغل الملك حسين تلك الفرصة وشن هجوما قاسيا على عبد الناصر انتقد فيه خطابه المناوئ لإسرائيل في ظل عدم اتخاذ أي عمل ملموس. ووجد عبد الناصر نفسه في موقف دفاع، وشرع في اتخاذ سلسلة من الخطوات بهدف تعزيز هيبته على الصعيد الداخلي في مصر وعلى مستوى العالم العربي، وأبدى أيضا لهجة تحد لمواجهة إسرائيل. يضاف إلى ذلك انه تلقى تقريرا من الاستخبارات السوفياتية زعم ان إسرائيل تعمل على حشد قواتها على الحدود السورية، واتخذ اثر ذلك ثلاث خطوات متتالية جعلت من الحرب أمرا حتميا، أولاها نشر قوات مصرية في سيناء بالقرب من الحدود مع إسرائيل في 16 مايو (أيار) وطرد قوة الأمم المتحدة من قطاع غزة في 19 مايو وفي 22 مايو وإغلاق مضيق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية. الملك حسين من جانبه شعر بقلق بالغ إزاء هذه الخطوات. فمن ناحية كان يدرك ان الخطوات التي اتخذها عبد الناصر قد زادت من خطر وقوع الحرب في وقت لم يكن العرب على استعداد لخوضها ولم يكن فيه تعاون عربي أو تنسيق أو خطة مشتركة. ومن الناحية الأخرى، أسفر التحدي الذي أبداه عبد الناصر في مواجهة إسرائيل عن ازدياد شعبيته بصورة دراماتيكية داخل الأردن وجعل الشارع العربي يتطلع إلى معركة المصير وتحرير فلسطين الوشيك. المد المتزايد لمشاعر القومية العربية ترك أثرا عميقا لدى غالبية الأردنيين، الأمر الذي شكل خطرا على النظام الأردني، الذي جاء رد فعله في صورة تأكيد على توجهه القومي من خلال محاولات التقارب مع الدول العربية الراديكالية وتحريك وحدات مدرعة من الضفة الشرقية باتجاه وادي الأردن، إلا ان مصر وسورية والعراق لم تبادل الأردن إيماءات التوفيق والمصالحة وتركته معزولا. وسعيا لكسر طوق تلك العزلة اتخذ الملك حسين قرارا بالتوجه إلى القاهرة بغرض التصالح مع عبد الناصر، ووصل بالفعل إلى قاعدة الماظة العسكرية بالقرب من القاهرة صبيحة يوم 30 مايو 1967 على متن طائرة كارافيل قادها بنفسه وهو يرتدي بزة عسكرية كاكية عليها شارة فيلد مارشال وكان بصحبته عدد محدود من مستشاريه. وصل عبد الناصر إلى قاعدة الماظة الجوية لاستقبال ضيفه وتفاجأ عندما وجد الملك حسين مرتديا الزي العسكري. قال عبد الناصر مخاطبا الملك حسين: «بما ان زيارتك هذه سرية، ترى ما الذي يمكن ان يحدث إذا اعتقلناك؟»، رد الملك حسين مبتسما: «لم يخطر ذلك على بالي مطلقا».
كانت تلك بداية غير سارة للمحادثات التي جرت في قصر القبة، حيث قدّم الملك حسين التنازل تلو الآخر. قبل ذلك بدأ حديثه بالتأكيد على ضرورة ان تنهض «القيادة العربية المشتركة» لمواجهة التحديات، إلا ان عبد الناصر اقترح عليه صياغة اتفاقية بين البلدين. وبناء على طلب الملك حسين أرسل عبد الناصر شخصا لإحضار نص معاهدة الدفاع المشترك المبرمة بين مصر وسورية. الملك حسين نفسه قال في حديث له حول تلك اللحظات إنه كان متعجلا للتوصل إلى نوع من الاتفاق إلى درجة أنه قرأ نص الاتفاقية المصرية ـ السورية بسرعة وقال مخاطبا عبد الناصر: «أعطني نسخة أخرى. ضع الأردن بدلا عن سورية وتكون المسألة بذلك قد حُلت». الطريقة التي تفاوض بها الملك حسين بشأن تلك الاتفاقية الدولية المهمة كانت غريبة، لكنها عكست الجانب المتعجل والمتهور وغير المسؤول فيه، فضلا عن نزوعه إلى المغامرة. فالاتفاقية المذكورة كانت للدفاع المشترك، أي ان يتعهد كل من البلدين بالدفاع عن الآخر في حال تعرضه لهجوم مسلح. الأحكام المفصلة للاتفاقية منحت عبد الناصر كل مطالبه. أولا، وضعت القوات المسلحة الأردنية تحت قيادة مصرية ـ الجنرال عبد المنعم رياض. ثانيا، وافق الملك حسين على دخول قوات من مصر وسورية والعراق والسعودية الأراضي الأردنية. ثالثا، كان على الملك حسين الموافقة على إعادة فتح مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية في عمان والمصالحة مع أحمد الشقيري، الذي استدعي إلى القاهرة من مدينة غزة في ذلك اليوم. كما وافق الملك حسين على مضض على اصطحاب الشقيري معه عائدا إلى عمان على متن طائرته. وكان دور الأردن في حال اندلاع الحرب اعتراض قسم كبير من الجيش الإسرائيلي ومنعه من مهاجمة دول المواجهة الأخرى واحدة تلو الأخرى، وفي المقابل وافق عبد الناصر على تعزيز القوة الجوية الأردنية المحدودة بدعم من مصر والعراق. حذر الملك حسين الجانب المصري من خطر هجوم جوي إسرائيلي مفاجئ، وأشار إلى ان أول هدف لإسرائيل سيكون القوات الجوية العربية، إلا ان عبد الناصر رد بصورة واثقة مطمئنا الملك حسين بأن جيشه وقواته الجوية على استعداد لمواجهة إسرائيل. وجرى بث الاحتفال بتوقيع المعاهدة حيا عبر راديو القاهرة تبعه مؤتمر صحافي شارك فيه كل من الرئيس جمال عبد الناصر والملك حسين وأحمد الشقيري. ولدى عودته إلى الأردن في نفس اليوم غاصت الشوارع بمستقبلي الموكب الملكي في طريقه إلى القصر. تأكد الملك الحسين ان شعبه رحب بهذه الخطوة، وفي اليوم التالي صوّت مجلس النواب لصالح الاتفاق وبعث ببرقيات تهنئة إلى الملك والرئيس جمال عبد الناصر.