كان المحاضر العربي والمتجول في جامعات أوروبا والذي نزح عن وطنه منذ سنوات طويلة هرباً من الجوع والارهاب، يتجول ذات مساء في شوارع احدى المدن الاوروبية وكل ما حوله من ديموقراطية وعدالة ونظام متلألئا ومتناسقا مثل شجرة الميلاد.
المظلات فوق الرؤوس، والمارة فوق الأرصفة، والقانون فوق الجميع، يالها من حضارة مهذبة ودود كالقطة المنزلية الأليفة.
ودخل أحد المطاعم الفاخرة ليتناول عشاءه، فاستقبله "الميتر" بابتسامته المعهودة للغرباء، وقدم لائحة الطعام ووقف بانتظار طلباته. فقال له الأستاذ الغريب: انني متعب من القراءة والكتابة فاقرأ لي القائمة اذا أمرت.
قال "الميتر" بحماس: أمرك سيدي. عندنا ويسكي اسكتلندي، وبيرة ألمانية، وخبز كندي، وشوربة سويسرية، وجبنة فرنسية، ولحم أرجنتيني، وكافيار روسي، ومعكرونة ايطالية، وشاي سيلاني، وقهوة برازيلية، أما الاقداح فهي تشيكية والفوط والمناشف أمريكية.
فشعر الأستاذ بغربة عميقة عن كل ما قرىء له. وانتابه حنين جارف إلى أي شيء يذكره بوطنه وبلاده.
فسأله: أليس عندكم أي شيء عربي؟
فقال الميتر: لا. ليس عندنا أي شيء عربي سوى "الخدم".
وعاد إلى وطنه في أول طائرة حاملاً خبرته وشهاداته وأشواقه ليعوض ما فات من عمره كل هذه السنين. وما أن وصل إلى الفندق حتى ترك فيه كل شيء، ووضع يديه في جيوبه وراح يتجول حتى آخر الليل في شوارع المدينة التي أحبها وهجرهها وهو لا يكاد يشبع من هوائها وأرصفتها وسمائها ونجومها وسط النقاش العالي وراء جدرانها. ودخل أحد المطاعم بعد أن أرهقه التجوال الطويل ليتناول عشاءه فهب إليه "الميتر" بابتسامته المعهودة مرحباً به وبطلباته فقال له الاستاذ الغريب: اقرأ لي ما عندك من أطعمة ومشروبات، فأنا كنت غائباً لسنوات وسنوات عن الوطن. وقد لا أعرف ما تعنيه الأسماء في الوقت الحاضر.
فقال الميتر: عندنا عرق لبناني وفول سوداني وكباب حلبي، وملوخية مصرية، وكبسة سعودية وفريكة عراقية وكوسكوس تونسي وكنافة نابلسية وبطيخ أردني وقهوة عدنية. والطبخ بجميع أنواعه عربي وكما ترى المطبخ شرقي والستائر شرقية والراقصة شرقية والأغاني عربية وكذلك الفرش واللباس عربي. وكذلك أنا وموظفو الاستقبال والطهاة والمحاسبون. كلنا عرب بعرب.
فتنفس الأستاذ الصعداء وقال: يعني ليس عندكم أي شيء أجنبي؟
اليتر: أبداً يا سيدي، ليس عندنا أي شيء أجنبي ما عدا صاحب المحل ...
* * *
وشمر عن ساعد الجد والعمل وانخرط في الحياة السياسية حتى شحمة أذنيه. ودخل في حزب وخرج من آخر. وانضم إلى هذه المنظمة، وعارض تلك الكتلة. تغذى مع المعارضة وتعشى مع الموالاة. عجن اليمين وخبز اليسار. احتك بالأطباء والمحامين والتجار والمقاولين. يستوضح ويستكشف ويستوعب. سابراً غور السياسة العربية قبل كامب ديفيد وبعده، مسترشداً بقرارات القمة الموسعة والمغلقة. آخذاً بعين الاعتبار نقط الخلاف ونقط الالتقاء بين الأنظمة المعارضة والأنظمة الموالية لهذا المعسكر أو ذاك. ثم افتتح عدداً من المشاريع في مختلف المجالات. ثم افتتح مطعماً ووقف على بابه. وكلما دخل زبون وسأله: هل اللحم والفراريج عندكم مذبوحة على الطريقة الاسلامية؟
يجيبه وهو يقدم له الشوكة والسكين: ليس عندنا سوى الانسان العربي مذبوح على ألف طريقة وطريقة.
محمد الماغوط