شجار عائلي
الأول: لماذا تختبىء في هذا البرميل؟ وفي مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل؟ قل الحقيقة وإلا أبلغت عنك الحارس أو منظمة " أوبيك" .
الثاني: وأين أختبىء اذن؟
الأول: ومم أنت هارب؟
الثاني: من الصحفيين والسياح الأجانب.
الأول: لماذا؟
الثاني: في الحقيقة. منذ ان احتلت اسرائيل سيناء والجولان والضفة الغربية، وأعلنت القدس عاصمة أبدية لها، وعزلت مصر، وضربت المفاعل النووي العراقي، ووصلت إلى بيروت، وشردت المقاومة بحراً وبراً وجواً، وألحقت بها الحركة الوطنية، ولم تتحقق أهدافها، كما يؤكد لنا الاعلام العربي بكل اعتزاز وفخر، صار هدفي الوحيد كعربي أن أتوارى عن الأنظار حتى لا يصيبني أحد بالعين، أو يقتطع أحد ثوار أمريكا اللاتينية وايرلندا خصلة من شعري أو مزقة من ثيابي للتبرك بها في معاركهم الدائرة هناك. أو أن يحاصرني الصحافيون والسياح الأجانب بالأسئلة أو ينوموني مغناطيسياً، ليعرفوا السر الذي يجعل العربي يحقق الانتصار تلو الانتصار في جميع الظروف والمناسبات وهو يتثاءب في المقاهي، فالموضوع يحتاج إلى كثير من الحيطة والحذر.
الأول: بل تحتاج إلى لطمة على هذا الوجه، وهل شعوب أوروبا وأمريكا وروسيا عديمة انتصارات أيها المغفل؟
الثاني: طبعاً. لقد حقق المساكين كلهم مجتمعين، انتصاراً يتيماً واحداً على ألمانيا منذ أربعين سنة وانتهى الأمر. بينما نحن العرب، نحقق كل يوم عشرات الانتصارات دون ملاجىء وصفارات إنذار ومشوهي حرب كما كان عندهم. ولذلك فهم يغارون منا، ويحاولون المستحيل لمعرفة السر الكامن وراء هذا الاسهال في الانتصارات المتلاحقة، وهذا يفرض علينا أن نكون كتومين ومقتضبين في أحاديثنا معهم، وأن لا نبوح بأية كلمة عن أسرار هذه الانتصارات لأنها ملك للمستقبل وللأجيال اللاحقة.
الأول: اطمئن، فكل محاولاتهم ستتحطم على صخرة الصمود والمقاومة العربية ..
الثاني: ومع ذلك، حذار من أية كلمة هنا أو هناك.
الأول: لا توصي حريصاً، فعندي مكان لكل أسرار العالم، ولكن ليس عندي مكان أنام فيه.
الثاني: انزل إلى جانبي في هذا البرميل، ماذا تنتظر؟
الأول: وهل يتسع لاثنين؟
الثاني: إنه يتسع لمؤتمر قمة، أفلا يتسع لاثنين من رعاياه؟
الأول: افسح لي مكاناً إذن؟
الثاني: تفضل على الرحب والسعة. وقهوتك المرة جاهزة.
الأول: شكراً. أنا لا أشرب إلا الفودكا.
الثاني: أنت يساري اذن؟
الأول: ومتطرف أيضاً.
الثاني: وماذا تفعل عندي في هذا البرميل اذن؟
الأول: وأين أنام في هذا البرد القارس؟
الثاني: في قلوب الجماهير.
الأول: وإذا تكشفت في الليل؟
الثاني: تغطيك الدولة اعلامياً.
الأول: أنا لست موظفاً ولا علاقة لي بأية جهة رسمية. أنا مناضل قطاع خاص، ومتفائل أيضاً.
الثاني: أما أنا فيائس ومتشائم قطاع عام.
الأول: لولا هذا البرد المريع لما بقيت معك لحظة واحدة.
الثاني: هناك أزمة طاقة.
الأول: اذن نحن نجلس في أزمة الطاقة.
الثاني: وأين أزمة الطاقة؟
الأول: في البرميل.
الثاني: وأين البرميل؟
الأول: في الوطن.
الثاني: وأين الوطن؟
الأول: في قلوبنا، في قلوب الجماهير.
الثاني: وأين الجماهير؟
الأول: في البرميل، اذن دحرجونا إلى فلسطين، إلى حيفا ويافا.
الثاني: اخفض صوتك، جاءت الدورية.
الأول: إلى الناصرة، إلى بيت لحم.
الثاني: إذا لم تسكت، فلن يدحرجوك إلا إلى بيت خالتك.
الأول: أعظم برد في العالم هو برد روسيا، هناك حيث تظل متجمداً باستمرار أمام عظمة الانجازات التي حققتها الشعوب.
الثاني: نحن والحمد لله، دون ثلج أو صقيع أو أوحال، متجمدون منذ الجاهلية حتى الآن.
الأول: أعظم وحل في التاريخ هو وحل روسيا. هناك حيث تنزلق أقدام المجتمع من الاقطاع إلى الاشتراكية إلى الشيوعية دون أن يشعر أحد بذلك. إنه وحل صبور وداهية.
الثاني: أما الوحل العربي، فهو عصبي وانفعالي جعل الأمة العربية بكاملها تتزحلق خلال شهور فقط من تحرير فلسطين وضرب مصالح الشرق والغرب إلى تحرير النبطية وسوق الغرب وتصبح على خير.
الأول: كل هذا الذي حدث ويحدث لأن الشكل النهائي لخريطة النضال العربي لم يكتمل بعد.
الثاني: إذا بقيت مفاهيم النضال العربي كما هي عليه الآن، فإن الشكل النهائي لخريطته، وخريطة الوطن العربي نفسه، لن يكون في المستقبل إلا كشكل الخنفس بعد أن يقول له حلاق السجن " نعيماً " وتصبح على ألف خير.
الأول: هل تنام؟
الثاني: نعم وشراع الحق حطام.
الأول: إلى متى؟
الثاني: حتى تنتهي مفاوضات خلدة.
الأول: ولكنها لن تنتهي كما تريد أمريكا.
الثاني: ولا روسيا.
الأول: لا تقرن اسم صديقة الشعوب بعدوة الشعوب.
الثاني: اهدأ قليلاً ستقلب بنا البرميل.
الأول: لينقلب العالم بأسره، لن تنتهي المفاوضات كما يحلو لأعداء هذه الأمة. فالخلافات قائمة على قدم وساق فيما بينهم. أين الراديو؟ أريد أن أسمع الأخبار.
الثاني: بدون راديو أو صحف أو تلفزيون. أنا أقول لك آخر الأخبار وأول الأخبار منذ النكبة حتى الآن.
كل طبخة سياسية في المنطقة، أمريكا تعدها، وروسيا توقد تحتها، واوروبا تبردها، واسرائيل تأكلها، والعرب يغسلون الصحون.
محمد الماغوط