تعريف
وهو المعروف باسم "الإبستومولوجيا"، وتعني هذه الكلمة "علم المعرفة" أو "نظرية المعرفة".
ولا بد لنا في البداية من أن نميز بين تاريخ العلوم من جهة، والإبستومولوجيا من جهة أخرى. إذ يرتبط تاريخ العلوم بالفلسفة من خلال أحد فروعها، ونقصد بذلك الإبستومولوجيا، فتاريخ العلوم والإبستومولوجيا مبحثان متداخلان.
وننطلق هنا من التعريف الذي يعطيه لالاند (Lalande) في معجمه الفلسفي، لمفهوم الإبستومولوجيا، والذي جاء كما يلي : "تعني هذه الكلمة (الإبستومولوجيا) فلسفة العلوم، لكن في معناها الدقيق جدا. وهي لا تعني دراسة مناهج العلوم بشكل خاص، لأن هذه الدراسة هي موضوع الميتودولوجيا، التي هي جزء من المنطق. كما أنها ليست تركيبا أو توقعا افتراضيا للقوانين العلمية (على الطريقة الوضعية أو التطورية).
إنها بصفة جوهرية الدراسة النقدية لمبادئ، وفرضيات، ونتائج مختلف العلوم لغرض تحديد أصلها (المنطقي لا السيكولوجي)، وقيمتها، وبعدها الموضوعي.
ينبغي، إذن، تمييز الإبستومولوجيا عن نظرية المعرفة –بالرغم من أنها المدخل إليها والمساعد الضروري لها- التي تدرس المعرفة بتفصيل وبكيفية بعدية في تنوع العلوم والموضوعات، لا في وحدة الفكر".
أما روبير بلانشي (Robert Blanché 1898-1975 ) فيعتبر مصطلح "إبستومولوجيا" مصطلحا جديدا نسبيا في الثقافة الفرنسية، حيث لا يوجد في معجم ليتري Littré (الصادر بين 1863 و 1873 )، ولا في معجم لاروس (الصادر بين 1866 و 1873)، ولم يظهر إلا في ملحق معجم لاروس سنة 1906..
ويوحي هذا بأن ما يخبر عنه هذا المصطلح هو أمر حديث، لكن هناك بعض الباحثين ومؤرخي الفكر الذين ينظرون إلى مبحث الإبستومولوجيا بشكل مختلف، ويرون أنه لا يعبر عن منحى حديث، بل ترجع بوادره الأولى إلى فلسفات اليونان القديمة. إلا أننا لا نذهب مع أصحاب هذا الرأي، ونفترض أن الإبستومولوجيا لم تكن ممكنة إلا عندما توفرت شروطها النظرية، والتي تتجلى أساسا في ظهور العلم الحديث ابتداء من القرن السابع عشر..
الإبستومولوجيا
قد تكون الطريقة الأفضل لتعريف الإبستومولوجيا هي عرض الأسئلة التي يحاول هذا الفرع من الفلسفة الإجابة عليها. فالسؤال الأساسي الذي يتناوله هذا العلم هو مسألة ماهية الحقيقة، ما هي الحقيقة؟ وكيف نميز بين الرأي والمعرفة؟ وكيف يمكننا أن نحصل على المعرفة؟
هل يكفي ما تنقله إلينا حواسنا عن العالم المحيط لنعرف حقيقته؟ أم أن للعقل دور في هذه المعرفة؟ وفي كلتا الحالتين أيهما أهم، أو بصيغة أخرى أيهما أسبق؟
والسؤال الآخر الهام الذي يطرحه هذا العلم يخص مسألة قدرة العقل البشري على اكتساب المعرفة، فمن الواضح أن معارفنا قد ازدادت بشكل مطرد خلال تاريخ البشرية، ومن الواضح أيضاً أنه بالرغم مما نعرفه كل يوم تبقى هناك كثير من الألغاز الغامضة، وبعض ما كان غامضاً فيما مضى أصبح واضحاً اليوم. إلى متى سيستمر العقل البشري في اكتشاف المزيد؟ وهل سيصل إلى حد لا يمكنه تجاوزه؟ وإذا بلغنا هذا الحد فكيف يمكننا أن نعرف أننا بلغناه فعلاً؟
التجريبية والعقلانية: مذهبان رئيسان
انقسم المهتمون بفلسفة العلوم ما بين المذهب التجريبي والمذهب العقلاني،
ويعتقد أنصار المذهب التجريبي أن كل المعارف البشرية لايمكن أن نأخذها إلا عن طريق التجربة، ويقولون: نحن ليس عندنا قوانين كليه مسبقة ، كل حقيقة قبل التجربة خاضعة للتجربة ، حتى نصل إلى الحقيقة ، لابد أن نرى الموضوع المبحوث ونجرب عليه حتى نستكشفه. فالمذهب التجريبي يرفض أي حقائق مسبقة ، أي ضرورية، كما أنه يسير من الخاص إلى العام ، يعني من الجزء إلى الكل ، أي أنه يبحث في الجزئيات حتى يستنتج قانوناً ، وليس العكس، وهو يرفض المذهب العقلي جملة وتفصيلاً .
بالمقابل يعتقد أنصار المذهب العقلاني أن كل حقيقة تصل إلى الإنسان لابد أن تكون عن طريق العقل .و أن هناك معلومات بديهية ومعلومات نظرية تعتمد على البديهة ، مثل النار حارة ، و 1+1=2.
يسير المذهب العقلاني من العام إلى الخاص، أي من القانون الكلي إلى الجزئي، وهو لا ينكر التجربة، لكنه يعتقد أنها ليست المصدر الوحيد للمعلومات، وأن العقل وحده ليس كافياً لاستكشاف الحقيقة.
أ التجريبية
يكون عقل الإنسان لدى ولادته، وقبل بدء عمل حواسه، كصحيفة بيضاء، أي أنه مجرد سجل فارغ. ومع تقدم الزمن، تبدأ أحاسيسنا بتسجيل انطباعات محددة في هذا السجل، وشيئاً فشيئاً يبني الإنسان قاعدة معرفية، هي في نهاية المطاف محصلة الخبرات التي اكتسبها من حواسه.
وفق هذا المنظور تكون المعرفة لاحقة للتجربة وتليها، وهي بهذا المعنى نتاج عمليات استقرائية، وتمكننا هذه المعرفة من توقع بعض الأحداث المستقبلية بالاعتماد على خبراتنا السابقة والحالية.
ب العقلانية
ينطوي العقل البشري على أفكار فطرية مخزنة بطريقة ما وبصيغة ما، بدليل أنه يمكننا إثبات صحة بعض القضايا دون العودة إلى الأحاسيس.
تصبح المعرفة وفق هذا المنظور أسبق من التجربة، بل يقول البعض إنها مستقلة عن التجربة.
والمعرفة بهذا المعنى استدلالية وليست استقرائية. (كل إنسان فان، سقراط إنسان، سقراط فان).