الابتلاء في سيرة سيد الأنبياء
عبد القادر أحمد عبد القادر
"عن مصعب بن سعد، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً، اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد، حتى يتركه يمشي على الأرض، ما عليه خطيئة"(1).
شدتني أخبار ابتلائه - صلى الله عليه وسلم -، وكان لشدة الابتلاءات التي نزلت به دفع شديد لأتعرف على كل بلاء قرأت عنه في القرآن الكريم أو في سيرته، فوجدته القدوة، مثلما هو في جميع أعماله ومكوناته! وأحسبني بهذا البحث، قد وقعت على كنز من أثمن كنوز سنته وسيرته! ولقد طالعت نيفاً وعشرين ابتلاء، حدث له، وعاناه، فاستحسنت أن أخصها بمتابعة، عسى الله أن ينفع بها الأحبة السائرين في طريق دعوته، وعلى دربه، راجياً أن يكون ذلك عوناً للدعاة والمجاهدين، بل للمبتلين.
ولنبلونكم:
بالتأمل في كلمة "ولنبلونكم"، التي وردت في سورة البقرة، الآية 155، وفي سورة محمد، الآية 31، وفي كلمة "لتبلون"، التي وردت في سورة آل عمران، الآية 186، نجد الفعل المضارع، الذي يفيد الاستمرار والاستقبال، ونجد تعدد المؤكدات مع كل فعل - اللام والنون الثقيلة في الأفعال - هذا التوكيد المتكرر، لا يتركنا حيارى أمام هذا الواقع، الذي يعيشه المؤمن المبتلى أو الجماعة المبتلاة، ولا نبقى حيارى أمام كثرة الابتلاءات النازلة بعباد الله الصالحين، (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون)(2)، (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم)(3)، (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور).
فإذا استحضرنا حديث مصعب بن سعد مع هاتين الآيتين، برقت الأبصار، وسطعت البصائر أمام وضوح الحديث القرآني والنبوي في تبيان السنة الإلهية الماضية بحق العبد الصالح، "فإن كان دينه صلباً، اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد، حتى يتركه يمشي على الأرض، ما عليه خطيئة".
تحدثت عن ابتلاء العباد الصالحين هاهنا، والموضوع في ابتلاءات سيد المرسلين كحديث الفرع بعد الأصل.
الابتلاء الأول: محمد اليتيم:
إن حاجة المولود إلى أبيه لا تخفى على أحد، لاسيما في البيئة العربية ونظام المراضع، اللواتي يحظين بالعطاء الجزيل، في مقابل إرضاع المولود شكل من أشكال العز، الذي يحيط بالمولود، ثم يبقى مع سيرة الولد، فيقال: المسترضع في بني فلان أو بني فلان، يبقى حديث الرضاعة جزء من سيرة الرجل، فإذا ما صار للرجل شأن، كان ذلك من مفاخر المرضع وقبيلتها!
لم يشعر المولود بهذا الحرمان، ولكن مثله حينما يتذكر أيامه في المهد على هذه الحال، غالباً ما يتأثر، خاصة إذا توالت عليه النوائب.. كموت الأم، ثم موت الجد، ثم التواجد التكافلي في بيت العم، رغم حنو هذا العم، ورغم تتابع السنين في بيت عطوف، إلا أننا لا ندري ماذا عانى محمد مما يعانيه الأطفال في مثل سنه، وفي غير بيته؟!
إن الضعف النفسي والانكسار الوجداني لليتيم، ثم اللطيم(4)، كان من إرادة الله بهذا الطفل، الذي يعده الله لأمر عظيم، على خلاف أحوال الأطفال، الذين قد يعدون في نعمة الآباء، ونعيم الأمهات لشؤون دنيوية، بل على خلاف أحوال أنبياء سابقين، أُعدوا بين آبائهم وأمهاتهم.
روى عدد من كتاب السيرة والمحدثين الثقات أن عبد المطلب أرسل محمداً ذات مرة في طلب إبل له، ضلت، فغاب وقتاً، فحزن عليه جده حزناً شديداً، وعندما عاد محمد بالإبل، أقسم عبد المطلب ألا يبعثه في حاجة له أبداً، ولا يفارقه بعد هذا أبداً!
ولما مات جده، اعتنى به عمه أبو طالب، فكان لا ينام إلا ومحمد إلى جنبه، ولا يخرج إلا معه، ويخصه بالطعام، ولا يأكل إلا عندما يحضر محمد، وظل يحوطه بعنايته إلى ما بعد البعثة، حين حاربه جميع قومه...
أسأل القارئ: هل يعوض ذلك كله عن عطف الأب وحنان الأم؟
لقد صنع الله للطفل محمد اليتيم شيئاً من عطاء الأبوة والأمومة في قلوب الجد والعم وتوابعهما (ألم يجدك يتيماً فآوى)، ولكن من أعطف من الأب؟ ومن أحن من الأم؟؟ اللهم إلا أنت، يا خالق العطف، والرب العطوف، ويا خالق الحنان، وأنت الذي أسميت نفسك الحنّان.
لقد طلب - صلى الله عليه وسلم - من ربه أن يزور قبر أمه، فأذن له.. فعلام يدل طلب هذه الزيارة؟
روى مسلم في صحيحه: "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي، فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها، فأذن لي". وعند النسائي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: زار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه، فبكى، وأبكى من حوله، وقال: "استأذنت..." الحديث. إنه حتى بعد أن غمرته - صلى الله عليه وسلم - أنوار النبوة، هاهو ذا يعيش لوعة الشوق إلى الأم والتعلق بها، إنها الفطرة السوية وما يتعلق بها من حنين، وما أصابه وبقي في نفسه بسبب فقد حنان الأم حيناً من الدهر في طفولته.
--------------------------------------------------
(1) حسن صحيح: الترمذي وابن ماجة وأحمد والدارمي.
(2) البقرة: 155.
(3) محمد: 31.
(4) الذي فقد أبويه.
المصدر http://www.islamtoday.net