الفساد من القضايا التي تنخر في قوام الدول, وتصيب مفاصلها بالشلل, وتحول بين الدول وبين النمو بكل أشكاله, سواء كان اقتصادياً, أو سياسياً, أو إدارياً...الخ؛ فهو يكرس الفشل, ويغذي التخلف, ويضيع مقدرات الأمة, كما يحقق ذلك بامتياز نوعاً من أنواع الفساد, وهو الفساد الإداري, ولهذا وقف الشارع الحكيم موقفاً حازماً من صورة من صوره الشهيرة, وهي الرشوة؛ فعدها من كبائر الذنوب, وحذّر منها أشد التحذير؛ لما تحمله من ابتزاز إداري, وضرر أخلاقي على المدى القريب والبعيد, ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "لعن الله الراشي والمرتشي"،
ولا ريب أن الرشوة تشكل أعظم صورة من صور الفساد الإداري, ويعرَّف الفساد الإداري بأنه: "استعمال الوظيفة لتحقيق مصالح شخصية", ولهذا فهو أوسع دائرة من دائرة الرشوة, ولخطر الفساد الإداري, فقد اعتنى الشارع بما يقتلعه من جذوره, وذلك بإشادته باختيار القيادات الأكفاء التي تملك مقومات النجاح, وأبرزهما: القوة, والأمانة, واللتان هما قوام القدرة على القيام بالعمل, والإخلاص فيه, وذلك لما يملكه القوي الأمين, من قوة ذهنية, وقدرة إدارية, وشجاعة في اتخاذ القرار, وإخلاص في العمل, وصدق في الأمانة, واستعداد لتحمل للمسؤولية, وصفة القوة والأمانة مذكورة في قوله تعالى: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) وهاتان الصفتان- كما ترى أخي القارئ- تمثلان أسلوب وقاية من التورط في أُجَراء وموظفين لا يملكون الحد الأدنى من صفات النجاح...
وإذا كان هذا في الأجير أو الموظف العادي, فما الظن إذن بمن يتربع على كرسي المسؤولية, ويملك صنع القرار؟
نسمع ونقرأ كثيراً من يطالب بحلول لمشكلة الفساد الإداري, ولكن كثيراً من هذه الحلول, إما أنها حلول لا تعالج المشكلة من أساسها, وإما أنها حلول تحقق غايات معينة باسم علاج مشكلة الفساد الإداري..!
نعم هناك العديد من الحلول الهامة, والتي لا ينبغي تجاهلها, ومنها:
1- تأسيس هيئات أو لجان لمكافحة الفساد, وقد ألمح إلى ذلك ربنا عز وجل حين قال: (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ) ومن الفساد في الأرض: الفساد الإداري الذي يحول بين الأمة المسلمة وبين تقدمها وازدهارها, وأخذها بمكامن القوة...
2- حمل الناس على احترام النظام, وتثقيفهم بالأثر الإيجابي المترتب على ذلك, مع محاسبة من يخالف النظام بما يردع أمثاله "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".
3- مكافأة من يسهم في تعزيز روح الإصلاح الإداري, ويدرأ الفساد, ومعاقبة من تثبت إدانته بالفساد دون مواربة...
4- تسليط الضوء إعلامياً على جوانب الفساد الإداري الموجودة في الدوائر الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص, ولاسيما شركات المساهمة العامة, ونحوها مما يمس شريحة كبيرة من المجتمع, وللأسف فإن بعض الإعلاميين والصحفيين يسهم في تلميع جهات حكومية أو مؤسسات وشركات خاصة لتحقيق مطامع شخصية, عبر تغطية خاصة لهذه الجهة أو تلك...! وهنا يتورط الإعلام في تكريس الفساد بإجراء عملية صقل وتلميع لرموز إدارية فاشلة.
5- تفعيل دور جهات الرقابة والتحقيق, وإعطائها صلاحيات واسعة للمراقبة والتحقيق, بشرط أن يكون موظفوها على درجة كبيرة من الشجاعة, والأمانة, والمسؤولية.
6- زيادة دخل الموظف الذي يتعرض لمغريات مستمرة بحكم طبيعة عمله, كمدراء المبيعات والمشتريات, ومراقبي البلديات...الخ.
7- تثقيف المجتمع بخطر الفساد الإداري, وأثره السلبي في الدنيا والآخرة, على المدى القريب والبعيد, ورفع مستوى الوازع الديني عبر مواعظ النصوص الشرعية, وأدبيات المسلم, وأخلاقياته.
ومع هذه الحلول, وغيرها, إلاّ أنها لن تجدي نفعاً إذا كان الفساد ينخر على مستوى صنّاع القرار, وبالتالي فإن تقنين نظم الإصلاح, واستصدار القرارات المناهضة للفساد, وتشكيل لجان للمكافحة, ووضع الخطط الإستراتيجية للتنمية والنمو الاقتصادي وغيره, كل هذه غير كافية في الحد من الفساد إذا كان المسؤول في الدائرة الحكومية ومن تحته في مراكز القرار غير أكفاء, ولن يصلح العطار ما يفسده صناع القرار...!
ولا أتفق مع من يقول إن المخرج من ذلك هو النظام الديموقراطي, كلا..؛ وذلك لسبب بسيط جداً, وهو أن أكثر المجتمعات ديموقراطية لم تسلم من الفساد, وذلك بخلق ذرائع للفساد باسم الشعب, وربما كان أكبر دليل على ذلك ما تنوء به ميزانية الولايات المتحدة الأمريكية من عجز وديون بأرقام فلكية؛ لأسباب عدة من أهمها: أكذوبة الحرب ضد الإرهاب, والتي صدقها الشعب الأمريكي, فأرهقت ميزانية الدولة بديون خيالية, يتحمل دافع الضرائب الأمريكي جزءاً كبيراً منها, أليست هذه صورة حقيقية للفساد الإداري..؟ وذلك حين تجيّر القرارات الإدارية السياسية باسم الحرب على الإرهاب, والواقع أنها قرارات تتحرك ضمن فكر المحافظين الجدد, وما جرته تلك الحروب من مكاسب شخصية لشركات نفطية "وغيرها" مملوكة لمسؤولين كبار في الإدارة السابقة...!!
وهكذا الفساد المالي الذي تورّط فيه مديرون تنفيذيون لشركات كبرى, كما طالعتنا بذلك الأخبار العالمية, وصرح بذلك الرئيس الأمريكي الجديد, وكان ذلك كله على حساب المساهم البسيط, ودافع الضرائب الأمريكي..!
ولا ريب أن درجة الفساد الإداري في الدول الديمقراطية أقل بكثير من الدول العربية, وأعتقد أن هذا لأسباب عدة, من أهمها: احترام الجميع للنظام, والرهبة من المساس بالمال العام, واختيار الرجال الأكفاء في مراكز القرار, وغير ذلك من المقومات التي اعتنى بها الإسلام, وحض عليها في نصوص كثيرة, وذلك قبل أن تولد الدول الديموقراطية المعاصرة بمئات السنين..!
هذا, وإن الفساد الإداري كغيره من أدوات الفساد, لو ترك أصحابها يعبثون بمقدرات الأمة, وفق أهوائهم ورغباتهم ومصالحهم الخاصة لحل الفساد وطم, وصدق الله تعالى إذ يقول: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ...!).
د. يوسف بن أحمد القاسم
المصدر الإسلام اليوم