.. زائر
| | روايات وقصص للفيلسوف السوري لوقيان | |
قصة حقيقية - الكتاب الأول أول قصة في الخيال العلمي للفيلسوف السوري لوقيان
الرياضيون والذين يدربون أجسامهم لا يهتمون فقط بالحفاظ على قواهم الطبيعية , ولا يحلمون ويفكرون إلا في التدريبات الرياضية , بل لهم ساعات للراحة , وينظرون إلى هذه الإستراحة مثل حصة جيدة جدا لتمارينهم , أؤمن لهذا الحد أن نموذجهم يلائم المثابرين على دراسة الآداب . ليهبوا بعض الراحة لروحهم بعد ساعات طويلة مكرسة لمطالعات جادة , وجعلها بهذه الطريقة أشد حيوية لاستئناف أعمالها . مع ذلك هذه الراحة ستكون نافعة لهم إلا إذا كانت تنطبق على مطالعة نتاج أدبي لا يسحرهم فقط برحلة روحانية وبساطة سارّة لكن أين يجد المرء العلم مضموم بالخيال, مثلما سنتعرف عليه, أتمناه, في هذا الكتاب. حقا , إنه ليس فقط من خلال خصوصية الموضوع ولا بواسطة متعة الفكرة , يجب أن يُعجب به ولا حتى لأننا نشرنا قصة خيالية بموجب مظهر الإحتمال . إلا أن لأن كل عصر له ميزة تشير بطريقة هزلية إلى بعض الشعراء السابقين والمؤرخين أو الفلاسفة, كتبوا قصص رائعة , في إستطاعتي أن أذكر أسمائهم إن لا يمكن لكم التعرف عليهم بسهولة عند القراءة . ستيسيا دي سنيد ابن كتيسيوسوش كتب عن الهند وبلدهم أشياء لم يراها ويسمعها من فم أي شخص كان , جمبول كتب عن وقائع مدهشة نعايشها بالمحيطات , إنه واضح للجميع على الرغم من ذلك أن هذا العمل قصة خيالية فقط , مع هذا نراه عمل له سحره وجماله . كثير من الآخرين وقع اختيارهم على مواضيع مشابهة , تحدثوا عن أحداث شخصية , سواء مغامرات أو رحلات أين ينشؤون وصف حيوانات ضخمة , رجال قلوبهم مليئة بالقسوة أو يعيشون بطريقة غريبة . المؤلف والسيد لكل هذه الوقاحات هو ” أوديس – أوديسس ” لهومير الذي يروي بألسينوس قصة عبيد الرياح , رجال لهم عين واحدة يأكلون اللحم النيء وأساليبهم متوحشة جدا , ثم يأتي دور الوحوش التي لها عدة رؤوس , مسخ المصاحبين لأوديس عن طريق شراب المحبة , وآلاف أخرى من العجائب يضعها مع حساب فياسين من الأغنية العاشرة . ومع ذلك عندما قرأت لهؤلاء المؤلفين لم أتهمهم بجرائم كبرى عن أكاذيبهم ولا سيما عندما نرى انها عادة مألوفة حتى عند الذين يمارسون مهنة الفيلسوف , والذي أدهشني وأزعجني دائما هو ظنهم إن كتبوا حكايات وأساطير لن يكتشف القارئ أكاذيبهم وخدعهم . أنا شخصيا , جررت بواسطة الرغبة ان أترك إسما للأجيال القادمة , ولا أريد أن أكون الوحيد الذي لا يستغل حرية التظاهر , عزمت .. , لا أملك أي شيء حقيقي أحكيه , نظرا لأنه لم تحدث لي أي مغامرة جديرة بالإهتمام , سأنطوي على كذبة معقولة أكثر بكثير مما لدى الآخرين .لأنه لا يوجد في كتابي , أي حقيقة , إلا الإعتراف بكذبي . يبدو إلي أني سأفلت من اللوم الذي وجهته الى الرواة الآخرين وأقرّ بأني لا أكتب كلمة واحدة حقيقية . سأروي عن أحداث لم أراها أبدا, ومغامرات لم أعايشها نهائيا. سأضيف أشياء غير موجودة , ولا يمكن أن تكون , وبالتالي من الضروري أن لا يؤمن القارئ بأي شيء على الإطلاق . أقلعنا ذات يوم من الأعمدة التذكارية لهرقل في إتجاه المحيط الغربي ورمت بنا رياح مؤاتية بعرض البحر .الهدف من رحلتي كان غريب وتافه وهو الرغبة في أن أرى شيئا جديدا: فضلا عن ذلك أردت معرفة حدود المحيط, ومن هم البشر الذين يعيشون في الشاطئ المقابل. بناء على هذه الخطة , شحنت الكثير من ذخيرة الأفواه وكمية ماء كافية , إنضم إلي خمسون إنسانا صغيري السن في عمري , ولنا جميعا نفس القصد : جهزت نفسي بعدد كبير من الأسلحة , مقابل مبلغ مالي كبير تعاقدت مع ربان ليكون مرشدنا , وجهزت سفينتنا التي كانت سفينة تجارية , كي تتمكن من المقاومة في هذه الرحلة الطويلة والعنيفة ….. أقلعنا ذات يوم من الأعمدة التذكارية لهرقل في إتجاه المحيط الغربي ورمت بنا رياح مؤاتية بعرض البحر .الهدف من رحلتي كان غريب وتافه وهو الرغبة في أن أرى شيئا جديدا: فضلا عن ذلك أردت معرفة حدود المحيط, ومن هم البشر الذين يعيشون في الشاطئ المقابل. بناء على هذه الخطة , شحنت الكثير من ذخيرة الأفواه وكمية ماء كافية , إنضم إلي خمسون إنسانا صغيري السن في عمري , ولنا جميعا نفس القصد : جهزت نفسي بعدد كبير من الأسلحة , مقابل مبلغ مالي كبير تعاقدت مع ربان ليكون مرشدنا , وجهزت سفينتنا التي كانت سفينة تجارية , كي تتمكن من المقاومة في هذه الرحلة الطويلة والعنيفة خلال يوم وليلة هبت رياح جميلة دون أن تأخذنا إلى عرض البحر وتركتنا نـُشاهَد من اليابسة, لكن في اليوم التالي عند الشروق صارت النسمة أقوى , الأمواج صارت كبيرة , غلفتنا الظلمة , وليس بالإمكان من إنزال الشراع . أجبرنا على الإستسلام للرياح وجلدتنا العاصفة خلال تسعة وسبعون يوما , لكن في اليوم الثمانين عند شروق الشمس شاهدنا على بعد مسافة قصيرة جزيرة مرتفعة , مغطاة بالأشجار والأمواج تتحرك في اتجاهها بهدوء , قدنا السفينة صوب الشاطئ , نزلنا , ومثلما يحدث لأناس تم اختبارهم بعنف , تمددنا على الأرض مدة طويلة . أخيرا نهضنا , اخترنا من بيننا ثلاثون لحراسة السفينة , وأخذت العشرون الآخرون ليذهبوا معي لنقوم بالإستطلاع وسط الجزيرة .
وصلنا إلى الغابة , على مسافة ثلاثة غلوات من البحر , رأينا عمودا برنزيا منقوش عليه بالأحرف اليونانية القديمة كلمات من الصعب قراءتهم , نصفهم ممحوّ ويقلن : إلى هنا أتى هرقل وباكوس , وبالقرب من هنا على صخرة أثر قدمين , واحدة حجمها فدان والأخرى أصغر : تخيلت أن الصغيرة لرجل باكوس والكبرى لهرقل ( 1 ) عبدنا هذان الإثنان النصف الألهة وواصلنا طريقنا . ما كدنا نمشي بضعة خطوات حتى نرى نهرا يجري به خمر مشابه لخمر جزيرة شيو : السائل عريضا , غارق وصالح للملاحة بعدة أماكن , شعرنا بأننا أكثر رغبة في الإيمان بما هو منقوش فوق العمود البرنزي , عند رؤية هذه الرموز الواضحة عن رحلة باكوس.
أتتني فكرة لمعرفة منبع هذا النهر , صعدت التيار , ولم أعثر على أي منبع , لكن عدد كبير من الداليات مليئة بالعنب . من قدم كل شجرة يسيل قطرة قطرة خمر شفاف ومنهن يتكون منبع النهر . شاهدنا الكثير من السمك ولهم لون وطعم الخمر , إصطدنا بعض الأسماك وأكلناهم وسكرونا , ومع ذلك عندما فتحناهم وجدناهم مليئين بالثفل , ولاحقا أخذنا كل الإحتياطات اللازمة لوقاية أسماك المياه العذبة من إختلاطها بهذا النوع من الطعام , لكي نصحح القوة فيها .
بعد عبورنا للنهر الى مكان ممكن عبوره , وجدنا نوعا من العنب مدهش ورائع : الجذوع قريبة للأرض , سميك ونحيل , من جزئه الأعلى تخرج نساء أجسامهن بدءا من الحزام لهن جمال كامل مثلما قدمنهن لنا دفنة , يتحولن إلى إكليل الغار في الوقت الذي يقترب منهن أبولون , في نهاية أصابعهن تنبت أغصان تحمل عناقيد , رؤوسهن , بدلا من الشعر , لهن غطاء من الحلقات يشكلن الحجنة والعنب . إقتربنا منهن , رحبن بنا , مدت أياديهن , وتكلمن معنا , من بينهن من يتكلم لغة الأنظول الليدية , والبعض اللغة الهندية , تقريبا كلهن باليونانية , وبدأن يقدمن القبل على الشفاه , لكن كل من يتحصل على قبلة يصبح مخمورا وأحمق على الفور , ومع ذلك لم يسمحن لنا بجمع ثمارهن , وان تقطف ثمرة يرمين بصيحات كلها ألم , البعض من بينهن استدعونا الى عناق حب , إلا ان اثنان من رفاقنا إرتميا بين أحضانهن ولم يتمكنا من التخلص منهن , بقيا أسيران الجانب الجنسي مُطعّمان بهذه النساء وأنبتا معهن جذورا , في لحظة واحدة تغيرت أصابعهم إلى أغصان , وكأنهمم سينتجان العنب .
تركناهم وهربنا اتجاه سفينتنا أخبرنا الذين بقوا بالسفينة الإنمساخ الذي تعرض له أصدقاؤنا , من الآن فصاعدا مندمجين في الدالية . مع ذلك , تزودنا ببعض الجرات لتخزين الماء , وغرفنا الخمر من النهر وبقربه قضينا الليلة .
في اليوم التالي عند الفجر وضعنا ثانية الشراع وكان الهواء البحري خفيفا , ولكن مع مرور منتصف النهار , عندما اختفت الجزيرة عن الأنظار , فجأة هاجمتنا بعنف عاصفة من جميع الجهات , بعد أن دومت السفينة قذفتها في الهواء على ارتفاع ثلاثة آلاف غلوة , ولم تتركها تسقط على البحر . قوة الرياح , حركت أشرعتنا , ومسكت بزورقنا وعلقته لتقوده, بحيث أننا أبحرنا في الهواء مدة سبعة أيام وسبع ليال .
في اليوم الثامن شاهدنا في الفضاء أرض كبيرة , نوع من الجزر اللامعة , كروية الشكل , ومستنيرة بضوء حاد , رسينا على الشاطئ , نزلنا من السفينة , وبعد أن تعرفنا على المدينة وجدناها مأهولة ومتحضرة , خلال النهار لم نتمكن من مشاهدة أي شيء آخر , إلا أن حالما بدأ الليل , شاهدنا عدة جزر أخرى مجاورة , البعض أكبر , والآخرون أصغر , لهن كلهن لون النار , وفوقنا رأينا أرضا أخرى , بها مدن , أنهار , بحور , غابات , جبال : وبدا لنا أنها الأرض التي نعيش بها . عندما قررنا الاقتراب من المدينة التقينا بكائنات يلقبن أنفسهن بهيبوجيباسيون , هؤلاء الهيبوجيباسيون بشر تحملهم نسور كبيرة ويستعملوها كخيول , لهذه النسور حجم هائل وكلهم تقريبا لهم ثلاثة رؤوس : لإعطاء فكرة عن حجمهم , أقول , الريشة الواحدة أطول وأضخم من سارية سفينة كبرى للنقل .
للهيبوجيباسيون أوامر بحراسة جزيرتهم وان عثروا على غريب يسلموه للملك , أخذونا وقادونا الى حاكمهم , وهذا اعتبرنا , وحكم علينا حسب ثيابنا : ” وقال لنا : أيها الغرباء هل أنتم يونانيون ؟ ” وكان ردنا بالإيجاب . ” إذا , كيف وصلتم إلى هنا وعبرتم هذه الفجوة الكبيرة من الفضاء الجوي ؟ ” حكينا له عن مغامرتنا , وهو بدوره عن قصته , وكان إنسان ويدعى أنديميون , في يوم من الأيام أثناء النوم اختطفوه من أرضنا , وعند وصلوه وضعوه ملكا على هذه الدولة , إلا أن هذا البلد ليس شيئا آخر سوى ما نسميه بأرضنا بالقمر . طلب منا أن نلتزم بالشجاعة وأن لا نشعر بالخوف , وسيلبوا كل حاجياتنا . وختاما , أضاف , إن سأصل إلى ما هو جيد , الحرب التي أخوضها ضد سكان الشمس , زيارتكم ستجعل حياتي سعيدة جدا – من هم هؤلاء الأعداء , سألناه , وما هي أسباب العداء ؟ فائتون (1 ) , رد علينا , ملك سكان الشمس , لأن الشمس مأهولة مثل القمر , يحاربنا منذ زمن طويل , لأني جمعت كل فقراء إمبراطوريتي ونويت ترحيلهم ليؤسسوا مستوطنة بنجمة الصبح , إنها مهجورة وغير مأهولة . فائتون , حركه الحسد , أراد أن يضع أمامنا عقبات , وفي منتصف الطريق , حشد أمامنا جيشا من الهيبومرماك , خسرنا الحرب , لتفوق عددهم , وأظطررنا على التخلي عن المكان , لكن اليوم أريد أن أستأنف الحرب , وإذا أردتم أن تشاركوني في هذه البعثة , وسأعطي لكل واحد منكم نسرا ملكيا وباقي المعدات . غدا سنبدأ رحلتنا – مثلما تريدون , كان جوابي .
استبقانا على العشاء ومكثنا بقصره . في الصباح , إستيقضنا , وهيأنا أنفسنا للمعركة . أبلغنا الجواسيس إقتراب الأعداء , قواتنا تتألف من مئة ألف جندي , وضف إليهم المساعدين , سائقي الآلات , المشاة والقوات الحليفة : عدد هؤلاء الأخيرين يصل إلى ثمانين ألف من الخيالة , وعشرون ألف محارب من المجنحين , نوع من الطيور الكبيرة مغطاة بالخضروات عوض الريش , وأجنحتهم السريعة تشبه كثيرا أوراق الخسّ , بالقرب منهم تركوا رماة الذرات البيضاء , وثلاثون ألف من رماة سهام البراغيث , وخمسون ألف من العدائين مثل الرياح أتوا كحلفاء من نجمة الدب . رماة السهام امتطوا على البراغيث الكبيرة , من أين لهم اسم ! وهذه البراغيث لهم حجم فيلان , والعدائين مثل الرياح تابعين لجيش المشاة , تحملهم الرياح وليسوا في حاجة لأجنحة : هكذا , لهم رداء ينزل إلى الكعبة , يشمروه وعندما تغوص فيه الرياح تجعلهم يطيرون في الهواء مثل الزورق . أكثرهم يستعمل الدرع في القتال . ويقال أن علاوة على هذا سيصل من أجسام سماوية فوق كابادوس سبعون ألف نعامة وخمسون ألف كركيّ , ولكننا لم نشاهدهم , انتظرناهم لكنهم لم يصلوا بعد , لا أتجرأ أن أصفهم , لأنه ما يقال عنهم يظهر لي وكأنه خرافات لا تصدق . وهكذا تتركب قوات الأنديميون : كلهم لهم نفس الدروع , الخوذات مصنوعة من الفول الذي نجده في هذا البلد كبير وصلب , الدروع مجهزة بقشور , مصنوعة من سنفة الترمس المخيطة , ولا يمكن اختراق الجلد سوى من القرن : الدروع والسيوف شبيهة بتلك التي عند اليونانيين .
في اللحظة الحاسمة , تم ترتيب الجيش كما يلي , الجناح الأيمن سيطر عليه الهيبوجيباسيون والملك , محاطين بخيرة المقاتلين الشجعان وكنا من بينهم , على اليسار وضعوا اللاشانبتوريون وفي الوسط القوات الحليفة , لكل واحد رتبته .جيش المشاة صعد الى ستين مليون , وهكذا رتبناهم للمعركة . في هذا البلد العناكب موجودة بكثرة , وكبيرة جدا , الواحدة أكبر من جزر السيكلاد اليونانية , أنديميون أمرهم أن ينسجوا قماشا يمتد من القمر إلى نجمة الصبح , في رمشة عين نفذوا الأوامر , وصار ذلك ميدان معركة رتب فيه الملك جيشه للمشاة , يرئسه نكتريون ابن الأمير ايديانكس وجنرالان .
الجناح الأيسر للعدو يتكون من هيبومرماك ووسطهم الملك فائتون , الهيبومرماك حيوانات مجنحة مماثلة إلى نملنا , فيما عدا الحجم , لأن أكبرهم حجمه أقل ما يمكن فدانان , ليس فقط الذين يمتطوهم يساهمون في القتال بل حتى هم يقاتلون بقرونهم . وقيل لنا أن عددهم يقارب خمس مئة ألف , بالجناح الأيمن نجد الأيروكنوب, ولهم نفس العدد تقريبا , كلهم رماة سهام ويركبون البراغيش الكبيرة , ورائهم نجد الأيروكوراس , مشاة خفيفة وجنود مولعين بالقتال , يقذفون عن بعد لفت ضخم بالمقلاع , والذي يصاب بضربة لا يستطيع المقاومة طويلا , يموت من جراء رائحة التعفن الذي يفوح في الحال من الجرح , وقيل أنهم يسقون سهامهم بعصير الخُبـّازة , بالقرب منهم إصطـفّ الكولوميسات , مشاة ضخمة تقاتل عن قرب , وعدده عشرة آلاف . ينادوهم بالكولوميسات لأنهم يستعملون الفـُطر للوقاية , وسهامهم ذيول الهليون , بعد ذلك نجد السينوبلان الذين بعث بهم سكان النجمة الزرقاء سيريوس , وعددهم خمسة آلاف , إنهم بشر لهم رؤوس كلاب ويقاتلون من على ظهر السنديان المجنح !! وقيل لنا ان عدة حلفاء تأخروا , المقلاعيون المأمورين من المجرة البعيدة والنفلوسانتور , هؤلاء سيصلوا عندما المعركة لا تكون ثابتة , ونتمنى من الآلهة أن لا يصلوا , المقلاعيون لم يظهروا ويدعون أن نتيجة ذلك غضب الملك فائتون وحرق دولتهم . هكذا كان جيش ملك الشمس . وصلنا إلى القتال : نشرت الرايات , حمير كلا الجيشين بدأت تنهق , وهم في الحقيقة يستخدمون كأبواق , وبدأت الاشتباكات , الجناح الأيسر للهليوت لم يتمكن من الصمود أمام الصدمة التي تلقاها من طرف جنودنا الهيبوجيب , طاردناهم ووقعت مجزرة كبيرة , لكن جناحهم الأيمن هزم يسارنا , والأيروكونوب هجموا فجأة عليهم , لاحقوهم إلى صفوف مشاتنا التي تقدمت لإنقاذهم وأجبرتهم على الانسحاب الفوضوي , خصوصا عندما أدركوا ان جناحهم الأيسر انهزم : الهزيمة صارت عامة , أخذنا الكثير منهم كأسيري حرب , وعدد كبير منهم قتلوا , الدماء تسيل من كل الجهات فوق السحب , التي صارت مصبوغة وأخذت لونا أحمر , الذي نراه عند غروب الشمس , وسالت حتى إلى أرضنا , بلا شك , حسب رأيي , - فرصة تكرار بعض الأحداث المشابهة - , في زمن ما حدث ما يشابه هذا الحدث في السماء : يقول لنا هومير , كوكب الزهرة أمطر دما بمناسبة موت سربيدون (2 )
عند رجوعنا من ملاحقة الأعداء , رفعنا نصبان تذكارين , واحد فوق قماش العنكبوت للاحتفال بنجاح جيش المشاة , والآخر فوق السحب لانتصارنا في الجو . انتهينا , عندما جواسيس أتوا ليعلمونا بقدوم النفلوسنتور , اللذين ينبغي أن يكونوا التحقوا بفائتون قبل القتال , نراهم يصلون , مشهد غريب , كائنات نصفهم بشر ونصفهم خيول مجنحة : حجمهم كبير , حيث أن الجزء البشري الذي بأعلى الجسم يعادل نصف التمثال الضخم بجزيرة رودس , وجزء الحصان سفينة تجارية كبيرة , عددهم كبير جدا حتى أني لم أكتبه , خوفا من أن يرفضوا تصديقي . يحملون فوق رؤوسهم قوس فلك البروج . حالما أدركوا هزيمة حلفائهم , أرسلوا بيانا إلى فائتون ليعود إلى الهجوم , شكلوا نفسهم للمعركة وهجموا على السيلينيت من القمر , شتتوهم , شردوهم , فرقتهم ملاحقة الأعداء وسلخ الأموات . انقضوا عليهم , ولاحقوا الملك الى المدينة , وقتلوا أفضل جزء من نسوره , هدموا النصبان التذكاريان , طافوا كل المنطقة التي نسجتها العنكبوتات , وأسروني مع اثنان من أصدقائي . وصل فائتون في هذه اللحظة , وأعدائنا بعد أن أنشئوا عدة نصب تذكارية جديدة , أخذونا نفس اليوم كأسرى إلى إمبراطورية الشمس أيادينا مربوطة خلف الظهر بخيط من العنكبوت
رأوا أنه ليس من الضروري محاصرة المدينة , لكن عند رجوعهم على خطاهم , بنوا جدارا وسط الهواء يمنع أشعة الشمس من الوصول إلى القمر : هذا الجدار مُضعّـف ومركب من السحب , وهكذا ساد الظلام القمر بكسوف كامل . مغطاة بليل كامل . أندميون , مقهورا من هذه المصيبة , بعث بسفراء يتوسلون إلى فائتون بأن يحطم الجدار وأن لا يتركه يعيش في الظلام : وعده بأن يدفع له الجزية , وأن يصير حليفه , وان لا يشن حربا ضده , وقدم له رهائن كظمان للمعاهدة . إجتمع فائتون مرتان بمستشاريه : بالجلسة الأولى التشاورية , بقي المنتصرون على غضبهم , وبالثانية غيروا رأيهم .
أبرموا إتفاقية السلام حسب الشروط التالية : تحالف بين الهليوت وحلفائهم , السيلينيت وحلفائهم , شريطة أن يهدم الهليوت الجدار الحاجب للضوء وأن لا يغزو القمر . إطلاق سراح الأسرى بعد التعديل في قيمة الفدية المحددة لكل منهم . من جانبهم , السيلينيت يتركون النجوم الأخرى يحكمون وفقا لقوانينهم , وان لا يشنون حربا ضد الهليوت . لكن كلا الشعبان يكونان جبهة دفاعية وأخرى هجومية . ملك السيلينيت يدفع جزية سنوية لملك الهيلوت قيمتها عشرة آلاف جرة من الندى , وأن يعطيه مقابل الرهائن نفس الشيء . مستعمرة نجمة الصبح ستكون تحت قيادة مشتركة , وكل شعب يرسل من يريده . هذه المعاهدة ستنقش فوق عمود من العنبر وتعلق في الأجواء بين حدود الإمبراطوريتين . أقسم من الهليوت : بيرونيد ( النار ) , ثيريت ( الصيف ) و فلوغيوس ( اللهيب ) , ومن السيلينيت : نيكتور ( الليل ) , منيوس ( الشهر ) والبوليلمب ( الفوانيس ) .
وهكذا انتهت عملية السلام : هدموا الجدار , ونحن الآخرون أعادوا إلينا حريتنا . عند رجوعنا للقمر , ركض زملاؤنا عندما رأونا , وقبلونا ودموعهم تنهمر : أندميون تأثر كثيرا , وعلاوة على ذلك , طلب منا أن نسكن على مقربة منه , ونستقر بالمستوطنة , وعدني بأن يقدم لي ابنه للزواج , لأنه لا يوجد نساء بهذا البلد . لكن لم أقبل نهائيا عرضه , وطلبت منه أن يرجعنا للبحر , عندما رأى أنه من المستحيل إقناعي سمح لنا بالإنصراف , بعدما أقام لنا وليمة دامت سبعة أيام .
يجب أن أحكي لكم عن أشياء جديدة وغريبة لاحظتها خلال إقامتي بالقمر . قبل كل شيء ليسوا بنساء قط , بل ذكور اللذين يخلدن البشر : الزيجات تتم بين الذكور فقط , واسم إمرأة مجهول نهائيا عندهم . يكون الفرد زوجة إلى غاية خمسة وعشرون سنة وعند إنتهاء الفترة يتزوج بدوره . لا يحملون أطفالهم نهائيا ببطونهم , لكن بعضلة الساق . عندما يكبر الجنين , تنمو الساق . ثم , لاحقا , في الزمن المرغوب , يقومون بشق الساق ويسحبون طفلا ميتا , يرجعون له الحياة عن طريق عرضه في الهواء الطلق , مفتوح الفم . وبدون شك من هذا إشتق الإغريق كلمة ” غاستروكنيمي (1) ” , لأنه بدلا من البطن , تصير الرجل كبيرة .
لكن لكم شيء آخر أكثر غرابة . يوجد بهذا البلد نوع من البشر يسمونهم أشجار , يلدون بالطريقة التالية : يقطعون الخصية اليمنى للرجل ويزرعونها بالأرض , تلد شجرة كبرى , كثيرة اللحم , مثل القضيب , لها أغصان وأوراق . ثمارها مثل الحشفة طولها ذراع . عندما تنضج , يجمعون هذه الثمار . ويقشرون منها بشر . أجزاؤهم اصطناعية : البعض منهم من العاج , الفقراء من الخشب , ويقومون بذلك بكل وظائف الزواج .
عندما يصل رجلا إلى درجة عليا من الشيخوخة , لا يموت , لكن يتبخر إلى دخان ويذوب في الأجواء . يتغذون كلهم بنفس الطريقة . يوقدون النار ويشوون فوق الفحم ضفادع مجنحة , ونجدهم بكثرة عندهم . ثم يجلسون حول النار وكأنها طاولة , ويتلذذون بابتلاع الدخان الذي يتبخر من الشواء . هذا هو غذائهم الأساسي . شرابهم يتكون من الهواء المضغوط وسط وعاء , حيث يتحول إلى سائل يشبه الندى . لا يخرجون البول ولا الغائط , ليس لهم , مثلنا , القنوات اللازمة . لا يمكن لهم كذلك بهذا الطريق أن يتاجروا مع المحببين , لكن عن طريق المأبـِض حيث تفتح غاستروكنيمياتهم . وعندهم الجميل هو الشخص الأصلع الذي سقط كل شعره , عندهم الأشعر قبيح المنظر . عند المُذنـّبين , عكس ذلك , يعتبرون الشعر من صفات الجمال , وفقا لما قاله لنا بعض المسافرين . تنمو لحيهم الطويلة إلى الركبة تقريبا . أقدامهم خالية من الأظافر , وكلهم لهم إصبع واحد . تنبت لهم فوق الردفين نوعا من الكرنب الكبير في شكل ذيل , دائما وأبدا أخضر , ولا يتكسر نهائيا , حتى وان سقط الفرد على ظهره .
يسيل من أنوفهم عسل قوي حامز , وعندما يشتغلون أو يتمرنون تسيل أجسامهم بعرق من الحليب , الذي يصنعون منه الأجبان , عندما يتركون هذا العسل يتدفق . يستخرجون من البصل زيتا به الكثير من الدهون , ومُعطـّر مثل فاغية الجنان . لهم كثير من العنب ينتج الماء : حبة العنب تشبه حبة البرد , كما أعتقد , عندما عاصفة قوية تخبط هذه الأعناب , ينزل عندنا , االبرد بغزارة , وليست شيئا آخر سوى هذه الأعناب تفتت حبّة حبّة . بطونهم يستعملونها كجيوب : يضعون بها كل ما يحتاجونه , لأنها تفتح وتغلق حسب الإرادة . لا نرى الأمعاء والكبد : لكنها كثيفة الشعر بالداخل , بحيث الأطفال يتجمعون عندما يشعرون بالبرد .
ملابس الأثرياء من الزجاج , قماشة رقيقة , والفقراء قماش من النحاس , تنتج البلد كميات ضخمة من هذا المعدن , يعالجونه مثل الصوف , عندما يكون مبللا . أما أعينهم , في الحقيقة لا أجرؤ ان أقول كيف صنعوا , خوفا من أن يأخذونني ككذاب , عدة أشياء لا تصدق . مع ذلك سأجازف وأقول بأن عيونهم قابلة للنقل : يخلعونهم متى أرادوا ويضعونهم جانبا , إلى أن يرغبون في الرؤية . يضعونهم بمكانهم لاستعمالهم , و إذا البعض منهم فقدوا فجأة أعينهم , يقترضون أعين الآخرون ويستعملونهم . هناك حتى البعض من الأغنياء يحتفظون بأعين احتياطية . أذنيهم أوراق صبار , باستثناء الرجال المولودين من شجرة نجدهم من الخشب .
رأيت كذلك أعجوبة أخرى بقصر الملك . مرآة كبرى وضعوها فوق بئر غير عميق , عندما ينزل المرء يسمع كل كلمة تقال بالأرض , وعندما يرفع العين اتجاه المرآة , يشاهد كل المدن والبشر , وكأنك بينهم . شاهدت والديّ ووطني , لا أعرف هل يمكن لهم كذلك رؤيتي , لا أجرؤ على تأكيدها , لكن , إن يرفضوا تصديقي , سيروا ذلك , حين يذهبوا إلى هناك بأني لست بكذاب ودجال . بعدما ودعنا الملك وأصدقائه , رفعنا الشراع أندميون صنع لي هدية , سترتان من الزجاج , وخمسة جلبابات من النحاس , ودروع كاملة من قرن الترمس , لكن تركتهم كلهم وسط الحوتة , وضع على ذمتنا ألف من الهيبوجيباسيين لحمايتنا وصاحبونا مسافة خمس مئة غلوة .
حاذينا العديد من البلدان المختلفة , ثم اقتربنا من نجمة الصبح , حيث تأسست المستعمرة الجديدة , لنرسو ونتزود بالماء المصنوع . من هناك , إتجهنا إلى الفلك وتركنا الشمس على يسارنا . ” أبحرنا ” على وجه الأرض تقريبا , دون أن نتمكن من النزول , على الرغم من رغبة أصدقائي , لكن الرياح كانت ضدنا .
رأينا , رغم ذلك , أرض زكية , مغطاة بطلاء معدني زجاجي , غنية بكل الخيرات . النيفيلوسنتوريون , مرتزقة فائتون , إكتشفونا , حلقوا فوق سفينتنا , لكن علموا بالمعاهدة فانسحبوا , ولحسن الحظ , لأن الهيبوجيباسيون الذين كانوا في صحبتنا لحمايتنا قد رجعوا إلى قواعدهم .
حلقنا بعدها ليلة ويوم , وحوالي المساء وصلنا إلى مدينة الفوانيس نشلوبوليس , بعد أن وجهنا مجال الهبوط نحو المناطق المنخفضة . هذه المدينة , الواقعة في المجال الجوي الذي يمتد من بين هيوادس والبلياديون إلى تحت الفلك بقليل .
أرسينا , ولم نعثر على بشر , لكن فوانيس , تتجول بالميناء والأماكن العامة . هناك الصغار , على ما يبدو الرعاع , والبعض منهم , الأكابر والأثرياء , لماعة ومضيئة . لكل فانوس منزله , أعني مُنوّر بيت , ولكل واحد إسم , مثل البشر , وسمعناهم أيضا يتكلمون . بعيدين كل البعد عن القيام بأي شـرّ ضدنا , استضافونا وأكرمونا , ولكننا لم نجرؤ على قبول الدعوة , ولا أحد من بيننا له الشجاعة ليتنوال العشاء معهم ويقضي الليلة بينهم .
قصر الملك مكانه وسط المدينة , الأمير جالس طول الليل , وينادي كل واحد من بينهم باسمه . وكل من لا يرد على النداء يُحكم عليه بالاعدام لأنه أهمل وظيفته . الموت , يعني يُطفأ . قمنا بزيارة القصر لنشاهد ما يحدث هناك , ونسمع عدة فوانيس يتبرؤون ويعرضون أسباب تأخرهم . تعرفت وسطهم على فانوس بيتنا : سألته عن أخبار أهلي , وسُررت برده . قضينا بقية الليل هناك .
في اليوم التالي , انطلقنا , وعندما اقتربنا من السحب اكتشفنا مدينة العصافير نفيلوكوكسيجي : منظرها الرائع أذهلنا , لكن لم نتمكن من الرسوء , الرياح تعكسنا . كورونوس الزاغ هو الملك الحاكم , ابن كوتيفيون الشحرور . تذكرت في هذه اللحظة ما قاله أريستوفان عن هذه المدينة , شاعر وقور وصادق , وتبين لي خطؤنا عندما لم نصدق تأكيداته . بعد ثلاثة أيام شاهدنا بصورة واضحة المحيط , لكن لم نرى الأرض الا اللواتي في المناطق السماوية , واتخذن فعلا في عيوننا لونا ألمع من النار . عندما , في النوم العميق الرابع , حوالي منتصف النهار , هدأت الرياح , سقطنا , ونزلنا على سطح البحر .
عندما لمسنا المياه المالحة , ينبغي مشاهدة فرحتنا , تنقلنا إلى السرور . استسلمنا لبهجة لحظة مماثلة , ارتمينا في الماء وبدأنا نسبح . الزمان ساكن , والبحر رهو . لكن غالبا الرجوع إلى السعادة لا ينبئ بشيء طيب ! منذ يومان نزلت سفينتنا بسلام بالمحيط , عندما , في الرابع , عند شروق الشمس , رأينا فجأة مجموعة كبرى من الوحوش البحرية والحوت . أعظم واحد من بينهم طوله ألف وخمس مئة غلوة , هذا الوحش يسبح حيالنا فاغر الفم , مهيجا عن بعد البحر , مما يجعله سارقا لرغوة كل الجهات , وأظهر أسنانه التي أكبر بكثير من قضباننا , حادة مثل الوتد , بيضاء مثل العاج . ودعنا بعضنا آخر وداع بالقبل , وبقينا نترقب . وصل الوحش البحري , بلعنا وازدردنا مع سفينتنا . من حسن حظنا لم يكـزّ على أسنانه وإلا يهرسنا جميعا , لكن السفينة تمكنت من ان تبحر من خلال الفجوات . بالداخل , من البداية ليس هناك إلا الظلام , ولا نميز أي شيء . لكن عندما الوحش فتح فاه , شاهدنا حفرة كبيرة جدا , واسعة وعميقة حيث يمكن أن تكون مكان لمدينة يسكنها عشرة آلاف إنسان . في الوسط رأينا مجموعة من الأسماك الصغيرة , بقايا حيوانات , أشرعة سفن ومرساتهم , عظام بشر , حزم بضائع , وبالجهة الأخرى أراضي وجبال , مكونة , دون شك , من الطين الذي بلعه هذا الوحش البحري . ونتج عن ذلك غابات بها كل أنواع الأشجار , وتنبت الخضراوات , ويمكن القول , مناطق ريفية في حالة جيدة . دائرة هذه الأرض مائتين وأربعين غلوة . رأينا طيور البحر , نورس البحر , الألسيون , ويبنوا عششهم فوق الأشجار . في هذه اللحظة بدأت دموعنا تذرف بغزارة , لكن أخيرا قمت بتشجيع أصدقائي . نظفنا السفينة , قدحنا حجر الصوان , أشعلنا النار , جهازنا طعاما من كل ما وقع تحت أيادينا : لقد كان هناك كمية كبرى من الأسماك ومن كل الأنواع , وبقي لنا كمية من الماء من نجمة الصباح . في اليوم التالي , عندما استيقضنا , كل مرة يفتح الوحش البحري فمه , نرى هنا الجبال , وهناك السماء وحدها , بعض الأحيان حتى الجزر , وشعرنا بأن الحيوان يجري بسرعة طول مدى البحر . انتهينا بالتعود على نمط إقامتنا, و آخذا معي سبعة من أصدقائي , تغلغلت في الغابة , مقررا استكشاف كل ما بها . لم أمشي حتى خمسة غلوات وإذا بي أجد معبد آلهة الماء بوسيدون , حسب بيان الإعلان , وبعد مسافة قصيرة , أكتشف الكثير من القبور بأعمدتها , وقريب جدا من هناك منبع ماء شفاف . وفي الوقت ذاته سمعنا كلبا ينبح ورأينا عن بعد الدخان يرتفع . ولم نشك بأن لا يكون هناك بعض السكان . تقدمنا بسرعة , التقينا عجوزا وشابا يعملان بنشاط لزراعة حديقة وتوجيه الماء من المنبع . تعجبنا وفزعنا كلنا , توقفنا : من الواضح أن نفس المشاعر اجتاحتهم , لم يجرؤان البوح بكلمة واحدة , أخيرا العجوز : ” من أنتم أيها الغرباء ؟ آلهة بحر , أو أموات مساكين مثلنا ؟ نحن بشر , من سكان الأرض سابقا , الآن نعيش وسط البحر , أرغمنا على السباحة مع هذا الوحش البحري الذي يحبسنا , مرتابين من المصير الذي يترقبنا : يبدو لنا , فعلا , قد متنا , ومع ذلك لا نزال نعتقد بأننا أحياء – ونحن أيضا , قلت له , آه يا أبي , نحن بشر وصلنا إلى هذه المنطقة منذ فترة وجيزة . أول أمس تم بلعنا مع سفينتنا . في هذه اللحظة , ذاهبون لنكتشف الغابة , التي بدت لنا كبيرة وشاسعة . آلهة على الأرجح قادتنا , لنلتقي بكم ونعرف أننا لسنا الوحيدين محبوسين في بطن الوحش . لكن أخبرنا عن مغامرتكم , من أنتم , وكيف نزلتم هنا – ستطلعون عليها , رد علينا العجوز , لكن لن يكون ذلك قبل أن أستضيفكم حسب ما في استطاعتي ” . مع هذه الكلمات مد يده ليصافحنا وقادنا إلى منزله , الذي عرف كيف يرجعه مريحا , وبه أسرة وعدة أشياء أخرى ضرورية . هناك قدم لنا الخضروات , الفواكه , السمك والخمر .عندما رأى أننا شبعنا , طلب منا أن نقص له مغامرتنا . حكيت له , دون حذف أي شيء , العاصفة , وصولنا إلى جزيرة الخمر , رحلتنا في الجو , الحرب التي خضناها , والبقية حتى وصولنا إلى هذه الحوتة . أصيب بالدهشة وبدأ بدوره يحكي لنا عن تاريخه ” أيها الغرباء , قال لنا , إني من مواليد قبرص , انطلقت من بلدي , مع ابني , الذي ترونه , وعدة خدم , وأبحرنا في اتجاه إيطاليا , آخذا معي على متن سفينة كبيرة الحمولة , حيث بلا شك شاهدتم الحطام بحنجرته . عبورنا كان سعيدا حتى وصولنا إلى القرب من صقلية . لكن هاجمتنا رياح غاضبة جدا , جُرفنا لمدة ثلاثة أيام بالمحيط , حيث هذا الوحش البحري عثر علينا , بلعنا , بشر وسفينة . كل أصدقائنا انقرضوا عن آخرهم , فقط , نجونا كلانا من الموت . بعد أن نظرنا للّحد بخطوات ميتة , شيدنا معبدا لبوسيدون , وبدأنا نعيش مثلما نفعل , نزرع الخضراوات بهذه الحديقة , نأكل السمك والفواكه . هذه الغابة الشاسعة التي تشاهدونها , بها عنب , ينتج خمرا قويا رائعا , وشاهدتم , دون شك , المنبع حيث الماء نقي وبارد . صنعنا سريرا من أوراق الشجر , أشعلنا نارا كبيرة , وذهبنا لصيد العصافير التي تحلق حولنا , واصطدنا سمكا حيا , عند دخولنا إلى غلصم الحوتة , تمكنا حتى من السباحة , متى أردنا . وخلف ذلك , فعلا , توجد بركة ماء مالحة كبيرة , طول دائرتها عشرون غلوة تقريبا , وبها نجد كل أنواع السمك : تسلينا بالسباحة وأبحرنا في سفينة صغيرة صنعتها بنفسي . سبعة وعشرون سنة مرت منذ ابتلاعنا .
أوضاعنا, من جهة أخرى , ستكون مقبولة , إذا لم يكن لدينا جيران , كائنات يسكنون قريبا منا , لهم عادات صعبة , مزعجينا جدا لا يطاقون , همج , متوحشين . ما هذا ! قلت له , هناك بشر آخرون يالوحش البحري غيرنا ؟ - نعم , وعددهم كبير , أجابني , كلهم عدوانيين , ومظهرهم مرعب . في نهاية الغابة من الجهة الغربية , في ذيلها , نجد المقدّدين التاريشان : لهم عيون الملـّور ووجه جراد البحر : شعب شجاع , مولع بالقتال , ولا يأكلون إلا اللحم النيء . بالجانب الآخر , باتجاه الجهة اليمنى , ألهة الماء التريتونمندتيون ( التيس عند الفراعنة ) : يشبهون البشر من الرأس إلى الحزام , البقية تيس , وأقل وحشية من الآخيرن . على اليسار سرطان البحر الكرسينوشير وسمك التون التونيسيفال , وبينهما معاهدة حلف وصداقة . في الوسط يقيم ذيل الرحالة الباغوراد والهوشع البستبود , جنس مقاتل وسريعين في سباق العدو . وبالجهة الشرقية , قرب الرأس , تقريبا كلها صحراوية , بسبب فياضانات البحر . أما الجزء الذي وضعت يدي عليه , أنتفع به , بشرط أن أدفع جزية سنوية مقدارها خمس مئة محار إلى الهوشع البستبود .
" هذا هو حال البلاد . غير أنه من الضروري أن نتزود بالغذاء وبوسائل الدفاع ضد كل هؤلاء السكان – كم عددهم ؟ سألته - أكثر من ألف - وما هي أسلحتهم ؟ - عظام السمك فقط ذلك يكون , قلت له , لا نعرض أنفسنا للخطر ان هجمنا عليهم , ماداموا لا يملكون أسلحة ونحن لنا ذلك . إذا انتصرنا , سنعيش من الآن فصعدا دون قلق . " قبلوا هذا الرأي لإيجابياته , وعدنا إلى سفينتنا لنهيأ أنفسنا .
رفض دفع الجزية سيكون ذريعة للحرب . وهذا اليوم هو بالظبط أجل الإستحقاق , وقدم السفراء ليتسلموها . واثقا من نفسه رد العجوز عليهم بصوت مرتفع وطاردهم . مباشرة الباغورد والبستبود ساخطين من إهانة الغواص سنتروس لهم , إنه اسم مضيفنا , تقدموا في اتجاهه في بلبلة كبرى .
توقعنا هجومهم : ترقبناهم ثابتي الأقدام , كلنا مسلحين , بعد أن أرسلنا قارب به خمسة وعشرون رجلا . بأمر أن لا يغادروا الكمين إلا إذا شاهدوا أن الأعداء قد مروا . نفذوا هذه الحيلة , وهجموا على المعتدين من الخلف , وقطعوهم إربا . بالنسبة لنا , كان كذلك عددنا خمسة وعشرين , بما فيهم سنتروس وابنه , ورفعا السلاح مثلنا , هجمنا عليهم من الأمام , و , والتلاحم بيننا خضناه بكل شجاعة وقوة , شننا حربا مريبة . أخيرا , أرغمناهم على الفرار , وتتبعنا خطاهم إلى كهوفهم . تركوا مئة وسبعون بالمكان , ولم نخسر إلا قتيلا واحدا : الربان ثقب ظهره بعظم طرستوج .
قضينا اليوم والليلة التالية في ميدان المعركة , ونصبنا تمثالا من شوكة ظهر التخس . في اليوم التالي , الشعوب الأخرى , علموا بهزيمة حلفائهم , فواجهونا : التاريشيون تحت قيادة التن بيلاموس , بالجناح الأيمن , باليسار التونيسيفال , وبالوسط الكرسينوشير . التريتونمندتيون حافظوا عن حيادهم ولم يقفوا مع أي طرف . اللقاء كان قرب معبد بوسيدون . إندفعنا بطلق صرخات قوية ترددت صداها وسط بطن الوحش مثل الكهف العميق . أرغمنا على الفرار أعدائنا غير المسلحين , طاردناهم في كل أرجاء الغابة , وصرنا أسياد بقية المنطقة .
بعد فترة , بعثوا لنا برسل ليأخذوا أمواتهم ويعرضوا علينا الصداقة . رفضنا أي نوع كان من الهدنة , و , في اليوم التالي تغلغلنا في أراضيهم , قطعناهم كلهم إربا , فيما عدا التريتونمندتيون . لكن هؤلاء رأوا كيف عاملنا الآخرون , فروا , ركضا , من خياشيم الوحش , وارتموا في البحر .
أسياد منذ طهرنا البلاد من الأعداء , عشنا في هدوء , وبدأنا نقوم بأعمال مختلفة , الصيد , ثقافة العنب , جني ثمار الأشجار , مماثل , في كلمة واحدة , لبشر يعيشون في متعة , بحرية وسط سجن كبير , حيث أنه يستحيل عليهم الخروج , وبقينا هكذا سنة وثمتنية أشهر . اليوم الخامس من الشهر التاسع , عندما تثاوب الوحش للمرة الثانية , لأنه من الحكمة أن نعرف ان هذا الحيوان يتثاوب مرة في الساعة , وهذا استخدمناه لنحسب الأيام , في المرة الثانية عندما تثاوب , أقول , أصوات كثيرة وضجيج سُمعوا , مثل أغنية وصوت جدافين . إرتبكنا , مثلما يمكن أن نعتقد , تزحلقنا في اتجاه فم الوحش , و , تمسكنا بالفرجة بين أسنانه , ورأينا أغرب مشهد عُرض على عيناي , عمالقة طولهم نصف غلوة , يسبحون فوق جزر كبيرة , مثل السفن الشراعية . أعرف جيدا ان ما أحكيه سيراه قرائي من المستحيل , لكن لن أقول غير ذلك . هذه الجزر أطول من علوها , وكل جزيرة , التي طول دائرتها حوالي مئة غلوة , مرفوعة من طرف مئة وعشرون من هؤلاء العمالقة . البعض , جالسين , على طول أطراف الجزيرة مستعملين , كنوع من المجاديف , شجر سرو مزينة بكل أغصانهم وأوراقهم . في الخلف , مثل مؤخرة السفينة , ربان واقف , صاعد على هضبة , وبيده دفة برنزية طولها غلوة . في المقدمة , أربعون محارب كلهم مسلحين ويبدو أنهم مستعدين للقتال : يشبهون البشر تماما , إلا شعرهم , من نار , حتى أنهم لا يحتاجون إلى خوذات . بدلا من الشراع , كل جزيرة في وسطها غابة شاسعة تنتفخ بالرياح وتحرك الجزيرة على هوى الربان . لهم رئيس الجدافين , وهؤلاء يعملون بكل قوة وجهد , مثلما هو معتاد عليه , لتحريك السفن الكبرى . في البداية , رأينا سوى اثنين أو ثلاثة , ثم , سرعان , ظهر لنا حوالي ستة مئة , منقسمين إلى أسطولين , واندلعت المعركة البحرية بينهما , مقدمة السفن تتصادم . عدة سفن تحطمت , وبعضها الآخر تفرقعت وغرقت , الكثير , في الاشتباكات , قاتلوا بكل شجاعة ولا يفرون قط من الصدام . الذين أماكنهم في مقدمة السفينة لهم قيمة كبرى , يقفزون بسفينة الأعداء ويجزرون الجميع وبدون شفقة . لا يأخذون الأسرى . بدلا من الكماشة الحديدية يقذفون المديخ المربوط الواحد مع الآخر , الذي يربك وسط الغابة , ويوقف السفينة عن السير . يتقاتلون , ويصابون بجراح نتيجة ضربات المحار الذين يملؤون خزانا وبالإسفنج في حجم فدان .
واحد من الأسطولين قائده الرّيحي إيولوسنتور والآخر شارب البحر ثلاسوبوت . نزاعهم كان مفاجئ , حسب ما يقولون , حول الغنائم . يبدو أن الثلاسوبوت اختطفوا عدة قطعان من التخس من إيلوسنتور : هذا ما يمكن تخمينه وفقا لصياحهم , الذي عرفنا بإسم الملكين . أخيرا , النصر كان لجيش الإيلوسنتور , أغرقوا أكثر من مئة وخمسين جزيرة للعدو , وصار رئيس ثلاثة بكل طاقمهم . البقية هربوا ومؤخرة السفينة متحطمة . المنتصرين طاردوهم بعض الوقت , ورجعوا في المساء لجمع ما بقي من الأسطولين . إستولوا على ما تبقى من سفن العدو , وما بهم من سلع , لأنهم بدورهم فقدوا أكثر من ثمانين جزيرة . ثم بنوا نصبا تذكاريا لهذه الحرب نيسوماشي . وعلقوا سفينة من سفن الأعداء على رأس الوحش . قضوا ليلتهم بالقرب من الوحش , الذي علقوا به حبالهم ومرساتهم , المصنوعة من البلور وكبيرة جدا . ثم في اليوم التالي , بعد أن قدموا القرابين على ظهر الوحش ودفنوا أمواتهم , ركبوا البحر ثانية فرحين , ينشدون أغنية النصر . وهكذا كانت حرب الجزر .
............................
قصة حقيقية الكتاب الثاني
النقاط الهامة في هذا الكتاب : أهم نقطة في هذا الكتاب هي أن المعروف عالميا باسم هومير – Homeros - اسمه الحقيقي هو تجران وخليجي الأصل
- ملحمة فرجيليوس حول “ ديدو “ قرطاج و Aeneas اقتسبها من ملحمة أخرى من المغرب وهي أسطورة كلبسو وأوليس .
حنبعل قرطاج تعلم اليونانية عندما لجأ هناك ( أنظر ” قصة حقيقية “ الكتاب الأول كذلك ) ، وما يدعيه البعض حول انتشار ما تسمى ” بالثقافة اليونانية ” بقرطاج أراه مجرد هراء من الجماعة التي تريد نشر لغة المستعمر الفرنسي بشمال افريقيا وتدعي أن ثقافتهم ” فــــغــــنسية ” ، اللغة الفينيقية كانت لغة علم وفلسفة وأدب وشعر ( الشاعر علدمق الذي كان معروفا جدا ) ولنا الفيلسوف عزربعل الذي لم يكتب حرفا واحدا باليونانية …..
ان لكم تصفية حسابات مع المتطرفين فلا تكونوا أكثر تطرفا وتزيفوا التاريخ ، وصفوا حساباتكم بميدان آخر واتركوا قرطاج ….
لا تدنسوا تاريخ قرطاج ،
المشرق في حاجة لتجربة قرطاج !!!
أطلنتيس حسب ديودور الصقلي أكتشفها أهل قرطاج وما يقوله أفلاطون اليوناني مجرد أسطورة صنعها ليجعل من اليونانيين أسياد العالم ( شكرا للأستاذ الهادي ثابت على تدخله )
- لوقيان غسل يداه من ناحية روما ، لأني أرى بكتابه حوار الأموات وضع حنبعل بالمرتية الثالثة عالميا بعد سيبيون والاسكندر وهنا يضع حنبعل بالمرتبة الثانية .
أظن أنه كتب هذا الكتاب بعد رحلته الطويلة إلى كل أرجاء الإمبراطورية ، والتي دامت سنوات طويلة ورجوعه إلى مسقط رأسه وحضوره المجازر التي ارتكبها الجيش الروماني ببلاد الشام ( سأترجم كتابه كيف يكتب التاريخ )
- في آخر القصة يتكلم لوقيان عن النساء اللواتي لهن أرجل حمير ، هذه القصص سمعتها عندما كنت صغيرا بقريتنا ، وهناك عدة أشخاص ادعوا بأن نساء لهن أرجل حمير غازلوهم ليرموا بهم في البئر …. !!!!!
…………………………………..
الكتاب الثاني
منذ هذه اللحظة , الحياة التي نعيشها وسط الوحش صرت لا أطيقها , هذه الإقامة كانت بالنسبة لي بغيضة وكريهة , وأفتش عن وسيلة ما للخروج منها .
في البداية , فكرنا أنه كاف , لكي نتخلص , أن نحدث ثقبا بالجهة اليمنى , وبدأنا الحفر , لكن , بعد أن دفعنا بدون فائدة الحفر إلى عمق خمسة غلوات , تخلينا عن ذلك ,وقررنا أن نحرق الغابة : إنها وسيلة أكيدة لقتل الوحش , وفي هذه الحالة , من السهل علينا الهروب .
لذا بدأنا نشعل النار بالأجزاء القريبة من الذيل . خلال سبعة أيام وليال . يبدو أن الوحش لا يشعر بهذه الحرارة , لكن في الثامن والتاسع , لاحظنا أنه مريض : يفتح فمه بصعوبة , و , عندما يفتحه يغلقه مباشرة . في اليوم العاشر والحادي عشر , مات , قد بدأت فعلا رائحة تعفنه تنتشر . في اليوم الثاني عشر شاهدنا , ولو أنه كان متأخرا , انه , إذا لا نضع له فورا كمامة لنمنعه من إغلاق فمه تماما , سنتعرض لخطر الفناء مسجونين بالجيفة . وهكذا فإننا دعمنا الفكان بلوحة خشبية , ثم هيأنا سفينتنا , وشحنا مخزونا كبيرا من المياه وكل الأشياء الضرورية : سينتروس يجب أن يكون الربان . في اليوم التالي مات الوحش .
سحبنا عندئذ سفينتنا , ومررنا بها بين أسنان الوحش , وبعد أن علقناها تركناها تتزحلق ببطء إلى مياه البحر . أما بالنسبة إلينا , صعدنا على ظهر الوحش , وقدمنا قربانا لبوسيدون , بالقرب من النصب التذكاري , وقضينا ثلاثة أيام هناك , بسبب الهدوء السائد : في اليوم الرابع أقلعنا .
نلتقي ونصطدم , الطريق فـُتح , الجثث الكثيرة التي هلكت في الحرب البحرية , وقسنا بدهشة ضخامة حجمهم . بعد ملاحتنا ببضعة أيام , ساعدنا فيها طقس رائع , رياح بوري الشمالية ( ابن أيوس ) بدأت , تعصف بقوة , ونزل برد شديد وتجمد كل البحر إلى عمق ثمانية مئة متر ( 1 ) , بحيث أنه يمكن لنا النزول والركض فوق الجليد . لكن نظرا لكون الرياح تـُدعم دائما بشكل متزايد وصارت لا تطاق , قبلنا إقتراح سينتروس , لحفر وسط الجليد كهفا كبيرا , حيث أمضينا ثلاثين يوما , نشعل النار ونتغذى بالسمك . للحصول عليهم يكفي أن تحفر حفرة . ولكن , بدأت المؤونة تنفذ , رجعنا إلى سفينتنا . أزلنا الثلوج , رفعنا القلاع وبدأنا الإبحار بتمهل , نتزحلق على الثلوج . في اليوم الخامس , رجعت الحرارة , بدأ الثلج يذوب , وأصبح البحر مرة أخرى كتلة من الماء .
قد أبحرنا حوالي ثلاثة مئة غلوة , عندما رمت بنا الأمواج في جزيرة صغيرة مهجورة : جددنا مخزوننا من المياه , الذي بدأ ينفذ , وقتلنا ثوران وحشيان بالسهام وواصلنا عبورنا . هؤلاء الثوران قرونهم غير مزروعة فوق الرأس لكن تحت الأعين , كما أراد لها ألهة التهكم والسخرية موموس . على بعد مسافة زمنية قصيرة من هنا , دخلنا بحرا , لم يكن من ماء , ولكن من حليب . في الوسط صعدت جزيرة بيضاء , مليئة بالعنب . هذه الجزيرة كانت جبنة هائلة , مضغوطة بإتقان , مثلما تمكنا من الإقتناع فيما بعد عندما أكلنا , ومحيطها خمسة وعشرون غلوة . الداليات كانت مليئة , بالعنب , ولكن بدلا من النبيذ ” يُعبـّرن ” عن الحليب .
وسط هذه الجزيرة بنوا معبدا , مكرسا لدودة البحر غالاتي كما هو منقوش . خلال طول المدة التي قضيناها بهذا المكان , حتى الأرض نفسها قدمت لنا الغذاء , وحليب العناقيد , والشراب . قيل لنا أن تيرو ابنة ملك سالموني , كانت ملكة هذه الجزيرة , كافأها بها بوسيدون عندما تركها . بعد أن مكثنا خمسة أيام في هذه الجزيرة أبحرنا في اليوم السادس , مع نسيم منعش وبحر هادئ . في اليوم الثامن عندما لم نكن فعلا بين أمواج الحليب , ولكن وسط ماء أُجاج ولازوردي , شاهدنا عدد غقير من البشر يجرون فوق الأمواج : شبيهين بنا في كل شيء , وفي الجسد والحجم , لا يوجد اختلاف إلا في أقدامهم التي هي من الفلين , حيث من المحتمل ان اسمهم من الفلوبود ( قدم فلين ) . إستغربنا جدا عندما رأيناهم بدلا من الغروق , واقفين على أقدامهم ويتنقلون دون خوف . البعض منهم اقترب منا , وقدموا لنا التحية باليونانية , وقالوا لنا أنهم متجهين إلى جزيرة فلّو , وطنهم . رافقونا حتى بعض الوقت , يتزحلقون بجانب السفينة . لكن بعد ذلك غيروا اتجاههم وتركونا , متمنيين لنا رحلة سعيدة . سرعان ما اكتشفنا عدة جزر , وعلى مقربة منا , على اليسار , هذه الجزيرة فلّو , التي هي هدف مسافرينا المسرعين لوصولها . إنها مدينة مبنية على قطعة كبيرة مستديرة من الفلين. عن بعد وأكثر بقليل على اليمين , شاهدنا خمسة مدن أخرى , كبيرة جدا وعمارات شاهقة , والدخان يصعد منهم باستمرار.
نحو مقدمة السفينة , هناك بعُرض البحر , زهور مائية , على مسافة تقل عن خمسة مئة غلوة . إقتربنا منهم , مباشرة رائحة خارقة للعادة , عذبة , معطرة , وصلت إلينا .
قال أحدهم , العطر الذي المؤرخ هيرودوت يدعي أنه يفوح بالسعيدة العربية : هو خليط من الورود , النرجس , الياقوتية , الزنبق , البنفسج , المرّ , الرند , زهرة الدالية , لقد أتوا ليداعبوا حاسة شمنا . في حالة إعجاب وانبهار , مسحورين بهذه العطور الطيبة , تمنينا أخيرا السعادة بعد العناء الكبير , وتقدمنا في اتجاه الجزيرة . بينما نقترب , رأينا في كل الجهات العديد من المواني , شاسعة وآمنة , وأنهار صافية تصب مياهها الهادئة في البحر , ثم , عن قرب , غابات , عصافير مطربة , يغني البعض منهم بالقرب من الشاطئ , ومجموعة أخرى فوق الأغصان : هواء نقي وخفيف يطوق كل المنطقة . الهبوب المبهج للنسيم العليل يحرك برفق أوراق الشجر , ويسحب أصواتا عذبة وطويلة , شبيهة لأصوات الناي المائل وسط العزلة . مع هذه الموسيقى تمتزج أصوات عدة , لكن دون تشويش , مثل التي نسمعها بالحفلات , عندما تساوقات الآلة الوترية الإغريقية والناي يمتزجون بشكر وتصفيق الضيوف .
مسحور من كل هذه الأشياء , إتجهنا صوب الأرض : دخلنا الميناء ونزلنا من السفينة , تاركين بها سينتروس وإثنان من أصدقائنا . مشينا عبر مرج مزخرف بالزهور , عندما إعترضنا مراقبين وحراس السواحل . ربطونا بإكليل الزهر ( ليس لهم حبال أقوى من ذلك ) وقادونا إلى رئيس بلدهم . في الطريق أعلمونا أننا بجزيرة السعداء يحكمها الكريتي ابن زيوس وأوروبا ردمنث . أخذونا إلى محكمته , قضيتنا قرروا أن يكون دورها الرابع .
الجلسة الأولى قبلنا , كانت حول أجاكس الأكبر , ابن تيلامون . وتتعلق بمعرفة إن سيسمح له ليكون بين الأبطال أم لا . وأتهموه بأنه عرض نفسه للموت لأنه كان في حالة غضب . وبعد مرافعة طويلة , قرر ردمنث أن يجرعونه الخربق , ويضعوه بين أيادي الطبيب هيبوكرات من كوس . وعندما , يسترجع مداركه العقلية , يقبلونه بالوليمة .
الجلسة الثانية كانت حول الحب : تيسي ملك أثينا الذي عاش قبل حرب طراودة ومينيلاس الذي إختطف باريس إبنته , يتنازعان حول هيلينا , يريد كل واحد منهما الحصول عليها . ردمنث حكم لصالح مينيلاس , بسبب كل الأعمال وكل المخاطر التي تعرض لها عند زواجه : زد على ذلك , تيسي لم تنقصه النساء , الأمازون وبنات مينوس . الجلسة الثالثة : قضية حق التصدر بين الاسكندر , ابن فيليب , والقرطاجني حنبعل , الأسبقية منحت للملك المقدوني , وبنوا له عرشا بجانب الملك الفارسي سيروس القديم ثم أتى دورنا , طلب منا القاضي لماذا , أحياء , دخلنا هذه المنطقة المقدسة . حكينا له مغامرتنا دون حذف أي شيء : تركنا منعزلين , وتشاور مدة طويلة , وأخذ أراء القضاة الآخرين . له , في الواقع , عدة قضاة مساعدين , من بينهم عريستيد العادل بأثينا .
وأخيرا , أعلن عن الحكم الذي يقول بعد موتنا , سنتحمل عقوبة فضولنا ورحلتنا , ولكن , الآن , لنا حق الإقامة في الجزيرة , والحضور في ولائم الأبطال , ثم نغادر . وقرر في نفس الوقت مدة اقامتنا لسبعة أشهر بالظبط .
مباشرة , اكاليل الزهر التي كبلونا بها سقطت لوحدها : أحرار , اقتادونا إلى وسط المدينة , إلى وليمة السعداء .
هذه المدينة كلها من ذهب , محاطة بجدار من الزمرد , لها سبعة أبواب , مصنوع كل واحد منهم بقطعة واحدة فقط من الكافور : البلاط من العاج بالجزء المغلق بالسور , جميع معابد الآلهات مبنية بالزمرد المصري , وفوق مذابحهم لتقديم القرابين للآلهة , المصنوع من جمشت واحد , يضحون بمجازر كاملة . حول المدينة , تجري مياه مرة بنهر خلاب , عرضه مئة ذراع ملكي , وعمقه يسمح بالسباحة بكل سهولة . حمامات هذا البلد بنايات ضخمة من البلور . كل شيء معطر بالكافور , بدلا من الماء , الأحواض مليئة بندى ساخن .
ثياب السعداء ( الطوباويين ) مصنوعة من خيوط العنكبوت , بدلة متينة , لونها أرجواني , ومع ذلك , ليس لهم أجسام , لا يدركون باللمس , ليس لهم لحم , وما يقدمون للعيون يقتصر على شكل وظل : ومع ذلك , على الرغم من هذا الغياب للجسد , لا يتركون أنفسهم واقفين , يتحركون , يفكرون , يتكلمون . باختصار , يشابهون روحا تحررت من المادة ولبست صورة جسدية . يجب إذا لمسهم , لكي يكون المرء واثق إنه ليس جسما نهائيا ما نراه , إنهم فعلا , ظلال الذين يمشون , وليسوا بظلال سوداء . لا أحد , عندهم , يصير مسنا , كل واحد يحتفظ بالسن الذي كان حين وصوله .
أبدا , ليس هناك ليل , مع أن النهار ليس بمشرق , لكن ظلال مماثلة لتلك التي في الصباح تسبق شروق الشمس , تغطي كل المنطقة . يعرفون إلا فصلا واحدا لكل السنة : إنه ربيع أبدي , برياح واحدة فقط تعصف , نسيم عليل .
المنطقة مزخرفة بكل أنواع الزهور , مظللة بخشب كثيف ولذيذ . العنب خصبة إثنا عشر مرة في السنة , ويشحنون كل شهر من ثماره . شجر الخوخ , التفاح , وأشجار الخريف الأخرى , ينتجون ثلاثة عشر مرة بالسنة , يقدمون ضعف الإنتاج في الشهر المكرس لمينارف .
بدلا من القمح , تحمل السنابل خبزا جاهزا يمكن أكله مباشرة , مثل الفطر . حول المدينة , يجد المرء ثلاثة مئة وخمسة وستون منبعا للمياه , كذلك للعسل , خمسة مئة للمياة المرة , ولكن هؤلاء أصغر , سبعة أنهار من الحليب وثمانية من النبيذ .
الوليمة تقام خارج المدينة , بمكان أطلقوا علية إسم جنة الصالحين . مرج نزه , محاط بالعديد من الأشجار , سميكة , أوراقها مظللة , الضيوف , متكئين فوق سجادة من الزهور . الرياح هي التي تنظم الحفلة ووزيرة الوليمة , دون أن تكون النادلة : هذه الرعاية زائدة : أشجار كبيرة من البلور وأكثر شفافية , رزدق بعد رزدق حول مكان الوليمة , تثمر ثمارا , يستعملوها كأقداح , لهم كل الأشكال والأحجام .
كل ضيف , عند وصوله للمأدبة , يقطف قدحا أو قدحان من هذه الثمار , يضعهما أمامه , والإناء يمتلأ مباشرة بالنبيذ : تلك هي عاداتهم في الشرب . عوضا عن التيجان , العنادل والطيور الأخرى المغردة يثلجون من مناقيرهم فوق رؤوس الضيوف أزهارا مقطوفة من المروج يذرونها مزقزقين ومرفرفين . أما بالنسبة للعطور , سحابة جشاء , حيث تتجمع المياه المرة من الينابيع والنهر تظل معلقة فوق مكان المأدبة , و , بهدوء تضغط عليها الرياح , تذوب إلى مطر ناعم مثل الندى .
أثناء وجبة الطعام , بستمتعون بأوقات فراغهم بالموسيقى والأغاني , إقترضوها لا سيما من أشعار هومير . هذا الشاعر نفسه جالس بالطاولة ويشاركهم الحفلة , مقعده أعلى من أوديسس . الجوقات متكونة من فتيان وفتيات : يقودهم ويوجههم الموسيقار إينوموس من لوكر , أريون من لسبوس الذي أنقذه من الموت تخس , وشاعر الحب أنكريون , والشاعر ستيسيشور اليوناني. لقد رأيته هنا , فعلا , تصالح مع هيلينا . عندما ~إنتهت الأغاني الأولى , أتت جوقة ثانية من الإوز العراقي , الخطاف , البلابل , و , بينما يغنون , كل الغابة , تثيرها الرياح ترافقهم في العزف بالناي . لكن ما يجعل خصوصا ساحرية هذه الوليمة , هو ان هناك مصدران , أحدهما للضحك والآخر للمتعة . كل ضيف , في بداية الحفلة , يشرب وينهي ما تبقى من وجبة الطعام في المتعة والضحك .
أن أروي لكم الآن عن كل الرجال العظماء الذين شاهدتهم , أولا , كل نصف الآلهات والأبطال الذين رفعوا السلاح في حرب طراودة , باستثناء أجاكس دي لوكر : يدعون أنه الوحيد الذي عوقب بالإقامة مع الملحدين لأنه إغتصب كسـّندرا إبنة ملك طراودة رغم لجوئها إلى معبد أثينا . ثم , من الهمج , الإثنان قوروش , السكتي أنرشسيس , تراس زملكسيس , الإيطالي نوما , اللاسيدوموني ليكورغ , الأثينيون فوسيون , تلوس , الحكماء السبعة , ما عدا بيريندر . رأيت سقراط , ابن سفرونيسك , يثرثر مع نستور وبالاماد : كان حوله هياسينت دي لاسيديمون , نرسيس دي ثسبيس , هيلاس والكثير من الصبيان الجميلين . يبدو لي أنه يعشق هياسينت , على الأقل هناك الكثير من الدلائل ضده . كما يقال أن ردمنث غير راض عن ذلك , وهدده عدة مرات بطرده من الجزيرة ان لا ينهي ثرثرته وتهكمه خلال الحفلة . أفلاطون فقط غير حاضر نهائيا . يقولون , يسكن بمدينته الخيالية , يستخدم جمهوريته والقوانين التي حررها .
بالنسبة إلى عريستيب وإيبيكور منحوهم درجة الشرف الأولى , لما لهم من ليونة , رشاقة , ومرحهم كضيوف جيدين . هنا كذلك يتواجد إيسوب الفرغي : إنه مستخدم كمهرج للآخرين . ديوجين دي سينوب , تغير مزاجه كثير جدا , وتزوج بالعاهرة لاييس , وغالبا , هائجا من إسرافه في الشراب , يقف ليرقص ويقوم بكل الأعمال الجنونية التي يوحي بها الخمر .
لا نرى أي واحد من الرواقيين . يقولون أنهم يقومون بالتسلق إلى القمة الوعرة للفضيلة . سمعنا أن شريسيب لا يحصل على رخصة لدخول الجزيرة إلا عندما يشرب حصته الرابعة من ماء الخربق. ويقولون أن الأكاديميين لهم نية القدوم , لكنهم مازالوا يتجنبون ذلك ويعتبرون : لا يمتلكون إدراكا بأن هذه الجزيرة حقيقة قائمة , وعلاوة على ذلك , يخشى هؤلاء , أعتقد , القاضي كذب عن ردمنث , هم الذين يرفضون أي نوع كان من المحاكم . يؤكدون بأن العديد منهم استعدوا للقفز لمتابعة القادمين إلى هنا , لكن بطؤهم يمنعهم من الوصول , أو , عدم الإدراك , بقوا في منتصف الطريق ورجعوا على خطاهم .
هكذا كانوا المشهورين جدا من الحاضرين . أعظم التشريفات مُنحت إلى أشلّي بطل حرب طراودة ثم إلى ملك أثيانا تهيسي . والآن سنرى طريقة تفكيرهم بخصوص التجارة وملذات الحب . يتحببان أمام الناظرين , أعين الجميع , رجالا أو نساء , ولا يران في ذلك أي شر . سقراط الوحيد حلف باليمين بأنه ليس له دافع خفي نجس عندما يفتش عن الصبيان , غالبا الصبي المعروف بجماله هوياسينت والذي بعد موته تحول إلى زهرة ونرسيس الجميل الذي عندما رأى صورته في الماء عشقها يعترفان بالحدث , لكن سقراط ينكر ذلك دائما . كل النساء للجميع , ولا أحد يغار من جاره : وهم في ذلك أفلاطونيون كاملون , الأولاد الصغار يلبون كل الطلبات ولا يرفضون أبدا .
يومان أو ثلاثة ماكادوا يمرون , و , ألتقي بالشاعر هومير , وكلانا كان له وقت فراغ , سألته , في عدة أمور , وبأنه مازال عندنا محل نقاش . أجابني , يعرف جيدا ان البعض يعتقد أنه من شيوس باليونان ( قريبا من تركيا ) , والآخرون من سميرني ( إزمير بتركيا ) , وعدد كبير من كولوفون ( آسيا الصغرى تركيا ) , غير أنه كان بابلي , وعند أبناء وطنه , لم يكن إسمه هومير بل تجرانTigrane , أرسلوه رهينة عند اليونانيين , غيـّر نتيجة لذلك إسمه .
رتبت له بعض الأسئلة حول الأبيات المحذوفة من أشعاره, إذا كان حقا قد كتبهم . أجابني أن الجميع له . لم أتمكن عنئذ من منع نفسي من إلقاء اللوم على النحويين زينودوت وأريستارك على ألاعيبهم العفنة . بعد أن أقنع فضولي حول هذه النقطة , سألته لماذا بدأ قصيدته ب : م نين , غضب , كان رده : هذا ما أتاه إلى ذهنه , دون أن يتأمل في ذلك . كما أردت كذلك بشدة معرفة إذا كان قد ألف أوديسس قبل الألياذة , مثلما يدعيه الكثيرون . فقال لا . أما لمعرفة لو كان أعمى , كما يؤكدونه , لست في حاجة أن أتحرى , كانت عيناه مفتوحتان بكمال . وأنا يمكن لي أن أقتنع عن طريق نفسي . في الكثير من الأحيان, فعلا , أمشي لأتحدث معه , عندما أراه غير مشغول . أقترب منه لمخاطبته , وجهت له سؤالا , إهتم بالرد , بالخصوص منذ الدعوى التي ربحها ضد ثرسيت . هذا الأخير إتهمه بإهانته , لأنه سخر منه بأشعاره , لكن هومير تمت تبرئته , ودافع عنه أوليس . تقريبا في نفس الوقت , وصل بيتاغور الصاموصي , بعد أن خضع لسبعة تحويلات , وعاش نفس المرات بأجسام مختلفة , وأنهى عدد الفترات المقررة للروح .
جنبه الأيمن كله من ذهب . رأوا أنه جدير بالقبول في هذه المقر المحظوظ , لكن كانت هناك بعض الحيرة حول الإسم الذي يجب أن يعطونه إياه , بيتاغور أو فربيون ( جنس نبات ) . كما جاء الفيلسوف والمهندس أمبيدوكل , كل جسمه مجمر ومحترق ( حاول أن يخفي موته فرمى بنفسه وسط البركان ليظنوه ألهة ) , رفضوا قبوله , رغم توسله .
عما قريب يبدأ زمن ألعاب حفلة الأموات , أشلي يترأسها للمرة الخامسة وثيسي للمرة السابعة . كما سيستغرق وقتا طويلا لأحكي تفاصيلهم , سأقول الخلاصة وهي أن كاروس , من سلالة هرقل , فاز بجائزة المصارعة ضد أوليس , الذي نازعه من أجل التاج . جائزة المصارعة قـُسمت بين أريوس المصري الذي قبره بكورينت , وإيبيوس , وتصارعا بنفس القدر من النجاح . لم تكن هناك جائزة للمصارعة اليونانية : أما بالنسبة إلى السباق , لا أتذكر إسم المنتصر . من بين الشعراء , هومير نالها بجد وصدق أمام كل الآخرين . توّجوا كذلك الشاعر هيسيود : جوائز كل المبارزات كانت تيجان من ريش الطاووس .
تكاد الألعاب تنتهي , عندما أعلنوا أن الفجار النذلاء , المعاقبين بالبقاء في مكان الزنادقة , قطعوا سلاسلهم , إنقضوا على حراسهم , وهددوا بغزو جزيرة السعداء . على رأسهم , يقولون , الطاغية فالاريس من أغريغنت . والمصري بوسيريس ( أمه ليبيا ) , وديوميد الذي كان يقدم الغرباء طعاما لخيوله , وقاطعا الطرق سيرون وبيتيوكمبت . مع هذا النبأ , جمع ردمنث الأبطال على الشاطئ : يقودهم أشلـّيس , ثيسي ابن تيلامون , أجاكس , الذي تعافى من جنونه . إشتبكوا بالأيدي , بدأ القتال , وانتصر الأبطال , ولا سيما بفضل القيادة الممتازة لأشلـّيس . سقراط تصرف بذكاء بالجناح الأيسر وقام بأعمال أبهر من الذي عاش في عهده أمام دليوم . بدلا من الفرار , عندما اقترب العدو , لم يغير حتى ملامح وجهه . أيضا أهدوه بعد ذلك , جائزة خاصة ثمينة , حديقة كبيرة ورائعة , في إحدى ضواحي المدينة . يجمع أصدقائه هناك ليتحاور معهم , وأعطى لهذا المكان إسم أكاديمية الأموات .
أما المهزومين أسروهم وأعادوهم مقيدين بالحديد , لكي يخضعوا للمزيد من العذاب الشديد . هومير إحتفل بهذه المصارعة في قصيدة , أعطاني إياها عند مغادرتي لنقلها لأبناء وطني , لكن فقدتها فيما بعد مع عدة أشياء أخرى مهمة . بدأ بهذا البيت : ( ربة الفن ) ميسُ , قالت صراع الأبطال عند الأموات
ثم طبخنا الفول , وفقا لعادات البلاد عندما ينتصرون , واحتفلوا بإقامة عشاء إنتصاري ومهرجان كبير . بيتاغور فقط لم يأخذ أي حصة , وبقي بعيدا دون أكل , لما له من كراهية تجاه الفول .
لقد مرت ستة أشهر , وها نحن في منتصف السابع عندما طرأ حدث غير ماوقع , البكاي سينور ابن سينثاروس , فتى وسيم وجميل الوجه , صار منذ فترة طويلة عاشقا هيلينا , التي , من جهتها تلمح غراما شديدا لهذا الشاب . بعض الأحيان يتبادلان الإشارات عند وجبة الطعام , ويشرب كل منهما على صحة الآخر , وتركا الطاولة معا للتيه وسط الغابة . منهزما أمام حبه العنيف وصعوبة إرضائه , صنع سينور خطة لاختطاف هيلينا والهروب بها . قبلت ذلك , واتفقا على اللجوء إلى جزيرة من الجزر المجاورة إما فلّو , أو توروسّا . نظم سريا منذ فترة طويلية مع ثلاثة من رفاقي الأكثر حزما . لكن سينور لم يعلم والده بأي شيء : يشك في أنه سيعرقل كل مخططاته . كما تصوراه , قاما بتنفيذ المخطط – أتى الليل , حين كنت غائبا ونائما في قاعة الوليمة , وصلوا دون علم أحد , أخذوا هيلينا معهم وأسرعوا هاربين .
حوالي منتصف الليل , إستيقظ فجأة مينيلاس واكتشف أن زوجته لم تكن بسريره , أطلق صرخات قوية , قصد أخاه وذهبا معا إلى قصر ردمنث . عند بزوغ النهار , وصل الجواسيس لرد الخبر بأنهم شاهدوا السفينة وهي بعيدة جدا الآن . مباشرة ردمنث جمع خمسون بطلا وصعدوا سفينة مقطعة من قطعة واحدة من البروق وأمرهم بملاحقة الهاربين . غادروا وقاموا بعمل جيد حيث وصلوهم حوالي منتصف النهار , حين كانوا داخلين محيط الحليب قريبا من تيروسا : بعدما كادوا يفلتون ! ربط الأبطال سفينتهم بسلاسل من الورود واقتادوهم إلى الميناء . هيلينا بكيت , احمرت من الخجل , وغطت وجهها . ردمنث استجوب سينور وشركائه في الجريمة , لمعرفة ما إذا كان بعض الآخرين مشاركين في المؤامرة : ردوا عليه بأنهم الوحيدين مذنبين . ثم جعلوهم يرتبطن بكلامهم المخجل , وأجلدوهم بالخـُبازة . ثم أنزلوهم إلى مقر الزنادقة . في الوقت نفسه , أصدروا مرسوما يقضي بأنه يتعين علينا مغادرة الجزيرة في أقرب وقت ممكن , وسمحوا لنا بالبقاء فقط حتى لليوم التالي . تأسفت كثيرا , وانهمرت دموعي , عندما رأيت رغدة العيش التي سأتركها لأبدأ من جديد حياة متشردة . السعداء واسوني بقولهم بأني سأعود للقائهم بعد بضعة سنوات فقط , وأشاروا إلى عرشي في المستقبل وسريري , بالقرب من البارزين جدا .
بالنسبة لي , ذهبت لأفتش عن ردمنث , وتوسلت له بإلحاح أن يكشف لي مستقبلي وأن يدلني على الطريق الذي يجب إتباعه . قال لي بأني سأعود إلى وطني , لكن بعد فترة طويلة من الضلال والأخطار الكبيرة .
لا يريد أبدا تحديد زمن عودتي . و , أشار لعدة جزر ( شاهدنا خمسة والسادسة أبعد منهم ) : هذه الجزر التي تراها قريبة من هنا , وأضاف , ومن الأماكن التي تتصاعد منها لهيب أبدي , هي جزر الزنادقة : السادسة هي جزيرة الأحلام . ثم نجد جزيرة كلبسو ( سبتة أو صبتة ) , لكن لا يمكنك إكتشافها بعد . عندما تمر عليهم , ستجد قارة شاسعة , مقابلة لقارتنا . هناك ستحدث لك مجموعة من المغامرات , ستعبر بلدانا مختلفة , ستقوم بزيارة شعوب متوحشة , وسترسو في آخر المطاف بالقارة الأخرى ” هكذا تكلم ردمنث .
عندما أنهى كلامه , قلع من الأرض جذور خـُبازة , أهداني إياها وأمرني أن أتضرع لهذه النبتة عند تعرضي للمخاطر الكبيرة جدا . أوصاني بالخصوص , إذا وصلت إلى هذا البلد , أن لا أحرك أبدا النار بالسيف , وأمتنع عن الترمس , وأن لا أربط علاقة بصبي عمره أكثر من ثمانية عشر عاما . ان تذكرت وصيته وعملت بها , أستطيع الحفاظ على الأمل بالعودة إلى جزيرة السعداء .
منذ تلك اللحظة قمت بكل الإستعدادات للرحيل , في ساعة الغذاء , ذهبت للجلوس على مائدة الطعام مع المقيمين . في اليوم التالي إقتربت من الشاعر هومير , وطلبت منه أن ينقش لي مقطع شعري مكون من بيتين : فعل ذلك , بنيت مباشرة عمودا بالميناء ونقشت هذان البيتان :
لوقيان مفضل من الآلهة التي لا تموت شهد أماكنهم ورجع إلى بيوت أجداده
كان يومنا الأخير : في اليوم التالي رفعنا الشراع , رافقنا الأبطال , واقترب مني أوليس , أعطاني, دون علم زوجته بينيلوب , رسالة موجهة إلى كلبسو , بجزيرة أوغيجي . عين ردمنث نابوليوس ليقود سفينتنا , لكي , ان رمت بنا الأمواج بالجزر القريبة , لا أحد يعتقلنا تحت ذريعة الإشتباه بالملاحة المشبوهة . ما كدنا نخرج من الجو الفائح بالعطر , حتى أسّرتنا رائحة قير لا تطاق , كبريت وبقايا القطران يحترقن معا. في الوقت نفسه , رائحة قتار شنيعة , مقززة , لبشر مشوية : بخار مظلم , ذاب فوقنا تحت شكل ندى القطران . ثم سمعنا ضجيجا عاليا للسياط , صوت واحد للجميع لا حد له من الأنين .
بهذا الجزء يبعث لوقيان الشرقي الحر كل النصابين الذين زيفوا التاريخ إلى الجحيم مثل المرتزق هيرودوت وسايسيا دي سنيدي الذان حرفا تاريخ المشرق . وكعادته يحلم بمشرق متحرر من قيود العبودية والاستعمار …….
لم نقترب من كل هذه الجزر, لكن لواحدة فقط من بينهن, وها هي أوصافها. محاصرة كلها من حافة الشاطئ إلى شعفة الجبل , جرداء , كثيفة الصخور , لا يوجد بها أشجار ومياه . مع ذلك , عندما انزلقنا بجهد طول المنحدرات , تقدمنا , عن طريق ممر مليء بالشوك , حتى إلى منطقة فضيعة , ومن هناك وصلنا إلى السجن , مكان الجحيم بنفسه .
صدمنا المظهر الأول لهذا المكان من الدهشة . بكل مكان يرتفع التراب مثل حصادة من السيوف والنبال : ثلاثة أنهار يحيطون بها , واحد من الوحل , الآخر من الدم , والأخير , مكانه بالوسط , من النار : ممتد وليس له حدود , متعذر عبوره , يتدفق مثل الماء , أمواجه تهيج مثل أمواج البحر . يحتوي على عدد كبير من الأسماك , البعض يشابه قطعة جمر كبيرة ملتهبة , الأخرون , أصغر , لفحم مشتعل , يسمونهم الفوانيس الصغار ( الليشنيسك ) .
لا يوجد إلا مدخل واحد ضيق جدا لتخترق إلى الداخل : يحرسه تيمون أثينا .
سمحوا لنا بالمرور تحت قيادة ناوبليوس , وشاهدنا عدد كبير من الملوك والأفراد يعاقبون بالجلد , والبعض منهم نعرفه. ورأينا كذلك الطفل الجميل سنيري يختنق من الدخان ومعلق من أطرافه . مرشدينا أعلمونا بكل جرائم هؤلاء المجرمين , والسبب الذي من أجله عوقبوا . أقصى العقوبات خاصة بالذين كذبوا أثناء حياتهم , وكتبوا قصة ملفقة ومزورة . وكان من بينهم المؤرخان سايسيا دي سنيدي وهيرودوت , وعدة آخرون . عند رؤيتهم , رأيت أنه لي أمل كبير في المستقبل , أنا الذي لا يمكن لومي من أجل أي كذبة . رجعنا بسرعة إلى سفينتنا , لأني لا أتحمل أن أشاهد أكثر منظر مثل ذلك , ودعت نابليوس ورجعت مرة أخرى للبحر . سريعا نرى على مسافة قريبة , جزيرة الأحلام , محاطة بالظلام وصعب تمييزها . تشبه الأحلام نفسها , تبتعد عندما نقترب , هربت وتبدو انها تلاشت . أخيرا قبضنا عليها , ودخلنا الميناء , ويحمل اسم ميناء النعاس , وقريبة جدا من أبواب العاج , بالمكان الذي يعلو فيه معبد الديك ألكتريون .
نزلنا من السفينة في المساء , ودخلنا المدينة , حيث رأينا جمهورا من الأحلام من كل الأنواع والأشكال . دعونا نتكلم في البداية عن هذه المدينة التي لم يصفها أحد قبلي . هومير الوحيد الذي ذكرها , لكن ما قاله ليس بالظبط . إنها مطوقة كليا بغابة متكونة من الخشخاش الكبير واليبروح ( اللفاح ) , وبها عدد لا يحصى ولا يعد من الخفافيش , هم فقط لهم أجنحة بالجزيرة . قريب جدا يتدفق نهر يسميه السكان نكتبوروس لأنه يتدفق إلا بالليل . يتكون من منبعين مجاورتين للأبواب : أحدهما يسمى نيغرتوس والآخر الذي ينام طول الليل بانيشي . سور المدينة , عال وله لون سريع التغير يشبه قوس قزح ( قوس الألهة إيريس ) : ليس لها بابان , مثلما يقول هومير , بل أربعة , إثنان منهما يطلان على سهل الرخاوة مُـلّاس : أحدهما من حديد والآخر من طين ؛ عن طريقهما تنبعث ، يدعون , الأحلام المزعجة ، الملطخة بالدماء ، القاسية ؛ البابان الآخران على مقربة من الميناء ، ويدوران في جهة البحر : أحدهما من القرن والآخر من العاج : عن طريقهما دخلنا . عند الوصول إلى المدينة , يجد المرء على اليمين معبد الليل : إنه المعبود الرئيسي , مع ” الديك ” ألكتريون , ومعبده قريب من الميناء ؛ على اليسار نجد معبد النعاس : إنه ملك المنطقة ويحكم بواسطة إثنان من حكماء بلاد فارس المرزبان ، تركسيوس ، ابن ماتيوجان ، وبلوتكلس , ابن فنتسيون . وسط الساحة العمومية ثمة نافورة يدعونها كاريوتيس , وبجانبها معبدان , معبد الخدعة والنفاق والآخر معبد الحقيقة . لكل منهما محراب ووسيط الوحي , والكاهن هو أنتفون مفسر الأحلام , الذي وضع النعاس فيه ثقته المطلقة .
ليس للأحلام نفس الطبيعة والشكل البعض منهم طويل ، جميل وخفيف الظل ، والآخرون قصيرون وقبيحون ؛ هؤلاء يظهرون من ذهب ، وهؤلائك هزيلين وبائسين ، قلة لهم أجنحة ، وآخرون لهم مظهر غريب . يرى المرء أن البعض تزين وكأنه في حفلة إنتصار ، متنكرين ، مثل الملوك ، الآلهة ، وأزياء أخرى من هذا النوع . تعرفنا على الكثير من الذين شاهدناهم سابقا . إقتربوا منا وقدموا لنا التحية وكأننا نعرف بعضنا ؛ صافحونا ، أرقدونا وعاملونا بكرم ولطف ؛ ثم ، بعدما قدموا لنا أجمل استقبال ، وعدونا بأن يجعلوا منا ملوكا وحكماء . نقلوا البعض إلى وطننا الأم ، أظهروا لنا أباؤنا وأصدقاؤنا ، ورجعوا بنا نفس اليوم .
منذ ثلاثون يوما وكذلك العديد من الليالي ونحن مقيمين بهذه الجزيرة ، سلمنا أنفسنا إلى نعومة النوم والولائم ، عندما فجأة صعقة رعدية قوية أيقضتنا من نومنا : نهضنا بسرعة ، أخذنا المؤونة وهل نحن قد رحلنا . في أقل من ثلاثة أيام وصلنا إلى جزيرة أوغيجي ( سبتة ) ، ورسونا . أول شيء قمت به هو فتح رسالة أوليس , وقرأت هذه الكلمات : ” أوليس إلى كلبسو أهلا ! ليكن في علمك بعدما غادرتك على العوامة التي صنعتها بنفسي ، تحطمت ، ونجوت بصعوبة قصوى بمساعدة ليوكوتي ، وصلت إلى الفيسيانيين الذين إقتادوني إلى وطني ، حيث وجدت زوجتي محيطة بحشد من الطامعين الذين يأكلون خيراتي . قتلتهم جميعا ، وانتهيت بفناء نفسي عن طريق يد تلجون ، هذا الإبن الذي أنجبته مع سيري . أنا الآن بجزيرة السعداء ، نادما كثيرا لأني تركت الحياة التي عشتها بالقرب منك ؛ والخلود الذي عرضته علي . في أول فرصة ستتاح لي ، سأهرب وأذهب لألقاك ” هذا هو مضمون الرسالة ، مع بعض النصائح لنا .
عندما مشيت مسافة قليلة من الشاطئ ، وجدت هذا الكهف ، الذي تكلم عنه هومير ، وكلبسو بنفسها تغزل الصوف . أخذت الرسالة , وبدأت قراءتها ودموعها تذرف بغزارة : بعد ذلك ، إستضافتنا وعاملتنا معاملة حسنة للغاية . وفي نفس الوقت أرهقتنا بالأسئلة حول أوليس وبينيلوب . إذا هذه المرأة كانت في مثل هذا الجمال والحكمة كما أوليس مجدها ، كان قريبا … جاوبنا عن كل تساؤلاتها بأفضل طريقة حسب ما كان في استطاعتنا لنكون لطيفين ؛ ثم ، عندما أتى المساء , ذهبنا للنوم بجانب الشاطئ .
في اليوم التالي , أبحرنا : الرياح تعصف بعنف , وهاجمنا من جميع الجهات نوء دام يومان . في الثالث , وصلنا إلى الكلسكينثبيرات . إنهم بشر متوحشون , الذين , من الجزر المجاورة , يقومون بعمليات القرصنة على السفن المارة . سفنهم كبيرة , مصنوعة من حنظل طوله ثلاثة أمتار : عندما تجف الحنظلة , يثقبونها ، بعد أن يستخرجوا ما بداخلها ، ثم يـُعوموها ؛ صواري سفنهم من قصب ، والأشرعة من أوراق الحنظل . طاردونا ، وهاجمونا بسفينتين ، وأصابوا بجروح الكثير من زملائنا ، حيث رمونا ، بدلا من الحجارة ، ببذور الحنظل . بعد معركة غير حاسمة ، استمرت حتى منتصف النهار ، رأينا وصول , خلف الكلسكينثبيرات , أسطول الكروينت : هذان الشعبان أعداء ، كما أثبتته الأحداث . لأن الأولون عندما أدركوا قدوم الآخرين تركونا واتجهوا للقتال ضدهم .
رفعنا الشراع مباشرة ولذنا بالفرار ، تاركين الأسطولان في حالة اشتباك . ومن الواضح أن النصر سيكون حليف الكروينت ، إنهم أكثر عددا ، لأنه لهم خمسة سفن مجهزة بكل التجهيزات للقتال وأكثر متانة .
هذه السفن مصنوعة من الجوز المقسوم إلى قسمين وتم تفريغه : كل نصف طوله خمسة عشر أرغية . عندما صرنا مختفين عن أبصارهم , فكرنا في تضميد جراح المصابين بيننا ، ومنذ هذه اللحظة لا نترك أسلحتنا ، خوفا من هجوم مفاجئ . كنا على حق .
ما كادت الشمس تختفي , ومن جزيرة مهجورة رأينا عشرون شخصا ينقضون علينا , ممطتين عشرون من الدلافين الضخمة . هم كذلك قراصنة . هذه الدلافين يظهر عليهم بأنهم مركبات صلبة ، هائجة وتصهل مثل الخيول . عندما اقتربوا منا ، إنقسموا إلى فصيلين ، ورشقونا ، البعض بالحبار الجاف والآخرون بأعين السراطين ؛ لكن لم يصمدوا ضد سهامنا ورماحنا : أصيب أكثرهم بجراح ورجعوا بسرعة إلى جزيرتهم .
حوالي منتصف الليل ، عن طريق زمن هادئ ، اصطدمنا , بدون أن نشاهد , بعش كبير جدا لألسيون ، طول محيط دائرته لا يقل عن ستين غلوة . بخارجه تسبح الأنثى لتحضين البيضات ، وبنفس حجم العش تقريبا ؛ حين طارت بعيدا ، كادت تغطـّس سفينتنا بريح أجنحتها : هربت ودفعت بصرخة حزينة .
عندما طلع النهار نزلنا لننظر للعش : قال أحدهم العوامة ضخمة جدا وتتألف من أشجار كبيرة ؛ بداخلها وجدنا خمسة مئة بيضة ، كل واحدة بحجم برميل من جزيرة شيوس . شاهد واحد تحت قشرة البيض صغار ينعقون . كسرنا بيضة من البيضات بفأس , وأخرجنا منها الصغير , دون ريش , لكن حجمه بالفعل من حجم عشرون نسر . عندما تقدمنا في البحر , بمسافة مئتي غلوة من عش الألسيون , شيء رائع وغريب سطع نظرنا . شكل أوزة ، جلست في مؤخر السفينة ، وفجأة صارت تصرخ وتضرب بأجنحتها ، والشعر ينمو ثانية ويتجه إلى رباننا سينثاروس ، الذي كان أصلعا تماما . لكن هنا ما هو أكثر غرابة على الإطلاق : سارية سفينتنا تغطت بالبرعم ، وانتجت فروعا إمتلأت أطرافها بالفواكه . كانت من التين والعنب الكبير الذي لم يكن طازجا . عندما شاهدنا هذا , استولت علينا الدهشة ؛ يمكن لنا أن نصدقه ، توسلنا للآلهات أن يبعدوا عنا كل شر ٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ لأن هذه الرؤيا نذير شؤم . لم نكن على بعد خمس مئة غلوة ، عندما رأينا غابة شاسعة وكثيفة بشجر السّرو . توقعنا في البداية بأنها قارة ، لكن البحر ليس له قاع ، والأشجار ، دون جذور ، ومزروعة بالماء ، واقفين عموديا لا يتحركون ، وكأنهم يطفون على السطح . إقتربنا ، و ، رأينا الشيء عن قرب ، ونحن مريبين حول القرار الذي يجب ان نتخذه . انه من المستحيل ، فعلا ، الإبحار عبر هذه الأشجار ، المشكلة شبه النسيج المتقارب جدا ، بالإضافة إلى ذلك ، ليس من السهل الرجوع على خطانا . صعدت إلى قمة أعلى شجرة لأبحث عن ما يمكن أن يكون بالجانب الآخر من الغابة ؛ أرى أنها لا تمتد أكثر من خمس مئة غلوة ، وبعدها يظهر البحر بقدر ما تستطيع العين رؤيته .
قررنا أن نرفع سفينتنا حتى أعلى الأشجار ، التي كانت أجمة ، ونيل البحر الآخر ، ان لا يعترض طريقنا العقبات .
بدأنا العمل . ربطنا حبلا كبيرا بسفينتنا ، ثم ، صعدنا فوق الأشجار ، وجذبناها إلينا . بعد جهد عنيف ، طرحناها فوق الأغصان ، و ، رفعنا الشراع ، وبدأنا نبحر ، وكأننا على البحر المفتوح ، تدفعنا رياح جميلة . ثم تذكرت بيت الشاعر أنتيماك الذي قيل في مكان ما : عندما كان يسافر بحرا عبر الغابات .
استطعنا أخيرا عبور هذا الخشب ، ووصلنا المياه ، حيث أنزلنا سفينتنا بنفس الوسيلة . البحر الذي نـُبحر به كان صاف وشفاف ؛ لكن جولتنا توقفت فجأة بفجوة هائلة جدا ، شكلتها الفصل بين المياه . وكأنها كما يقولون عن الهوة التي نراها بعض الأحيان تـُفتح في أعقاب الزلزال . طوينا القلاع ، وتوقفت سفينتنا مع بعض الصعوبات ، في اللحظة التي كنا سنـُبلع فيها . إشرأبت أعناقنا لننظر إلى الهاوية : كان عمقها أكثر من ألف غلوة ، رهيبة ، مفزعة ؛ الماء يقف عموديا ، وكأنه مقصوص إلى قطعتين . عندما نظرنا حولنا ، رأينا على يميننا ، على مسافة قريبة ، جسر شكلته المياه ، والذي ، يربط بين الشاطئين ، ويجعل الترابط بين كل من البحران بالآخر . غيرنا إلى هذه الإتجاه ، و ، راغمين مجاذيفنا ، عبرنا ، بعد جهد شاق ، عن طريق الجسر ، ضد كل إنتظار .
من هنا ، دخلنا بحرا هادئا كثيرا ، ووصلنا جزيرة كبيرة ، لكن رسوها كان سهل ؛ كان يسكنها بشر متوحشون اسمهم البيسيفاليون ، رؤوس البقر ، جبينهم مسلح بالقرون ، وهكذا يصورون المينوتور ( نصف بشر ونصف ثور ) .
نزلنا لنأخذ الماء ، وننتعش ، إذا كان ممكنا ، غذائنا ، الذي بدأ ينقص . عثرنا على الماء بالقرب من الشاطئ ، لكننا لا نرى أشياء أخرى ؛ سمعنا فقط خـُوار عظيم من مسافة قريبة . إقتنعنا بأنه قطيع من الثيران ، تقدمنا بضعة خطوات ، ونلتقي البشر الذين تكلمت عنهم سابقا . حالما رأونا ، بدأوا في مطاردتنا ، حجزوا ثلاثة من أصدقائنا : ما بقي من فرقتنا هرب باتجاه البحر .
هنا ، أخذنا أسلحتنا ، مصممين على الإنتقام من أجل رفاقنا ، إنقضـّينا على البيسيفاليين ، الذين بدأوا يتقاسمون لحم أسراهم ؛ أرعبناهم ، و ، بدأنا في مطاردتهم ، قتلنا حوالي خمسون ، وأخذنا إثنان أحياء ، ورجعنا إلى الشاطئ مع أسرانا . إلا اننا لم نعثر على الغذاء ؛ العديد منا يريد أن نذبح الأسيران . لم أكن مع هذا الرأي نهائيا . قدتهم إلى مكان لأراقبهم ، حتى إلى أن وصل إلينا المبعوثين من طرف البيسيفيليين ، ليساوموا على فديتهم ، رأينا ، فعلا ، ان الذين يتكلمون معنا بالإشارات ، سمعناهم ينتجون نوعا من الخـُوار الحزين يشبه الصلاة . الفدية كانت عدد كبير من الأجبان ، سمك جاف ، بصل وأربعة أيليات ، بحيث أن لهم سوى ثلاثة أكرعة ، إثنان في الخلف ، واللذان بالأمام منضمين في واحد فقط . بهذا الثمن ، أفرجنا عن أسراهم ، و ، بعد أن قضينا يوما آخر بالجزيرة ، إستأنفنا رحلتنا .
عندما بدأنا نرى السمك ، والطيور ترفرف ، وجميع الدلائل التي تشير بأن الأرض قريبة ، رأينا بشرا يستعملون نوعا جديدا من الإبحار ، لقد كانوا في الوقت نفسه سفن وبحارة . سأقول كيف … نائمون على ظهورهم ، يمسكون بقضبانهم ، الكبيرة جدا ، ويربطون الشراع ؛ ثم ، حبل الشراع في اليد ، يوجهونه للريح ويدخلون عرض البحر ؛ وآخرون ، جالسون على قطع القـُرق ، وبهم يربطون تـُخسان ، يقودون ويوجهون بواسطة لجام هذه الحيوانات التي تجر القـُرق معهم . هؤلاء الملاحين لم يقوموا بعمل أي شر ضدنا ولم يلوذوا بالفرار عندما اقتربنا منهم ؛ دنوا منا دون خوف ، وبطريقة ودية ، ويبدو أنهم استغربوا كثيرا من طريقتنا في الإبحار ، التي درسوا بعناية كبرى كل تفاصيلها .
في المساء ، وصلنا جزيرة كبيرة جدا ، يسكنها نساء فقط ، على الأقل ما يظهر بها ، ويتكلمن اللغة اليونانية ؛ اقتربن منا ، صافحونا وقبلونا ؛ متزينين مثل المومسات ، كلهن جميلات وشابات ، لابسات جلباب يغطي الكعبين . الجزيرة اسمها كابالوس ، والمدينة اسمها هيدراماردي . كل واحدة من هؤلاء النسوة ، أخذت واحد منا ، واقتادته إلى منزلها ، وأحسنت ضيافته . من ناحيتي ، ترددت ، شعرت بهاجس شر يلم بي ؛ ونظرة يقظة تركتني أرى عظام وجماجم عدد كبير من الرجال . كنت سأصرخ ، أطلب مساعدة رفاقي لنركض للأسلحة ، لكنني فضلت أن لا أفعل شيئا . إلا أنني أمسكت جذر خـُبازتي البتفسجية وتوسلت لها ان تخفي عني الأطار التي تهددني . بعد لحظة ، عندما كانت مضيفتي تخدمني ، رأيت ان رجلاها ليست لمرأة لكن لحمار ، سحبت سيفي ، وقبضت على مضيفتي ، وقيدتها وأرغمتها على الإعتراف . قاومت ، ثم في الأخير أقرت بأنهن نساء بحرية اسمهن أرجل الحمير ، ويبتلعن الغرباء الذين يرسون على شواطئهم ” نـُسكرهم ، أضافت ، نتركهم ينامون معنا ، ونذبحهم أثناء نومهم ” . ” عند هذه الكلمات ، تركت هذه المرأة كلها مقيدة بشدة ، صعدت فوق السطح ، وصرخت بكل قـُواي لأنادي أصدقائي . عندما وصل الجميع ، حكيت لهم القصة ، أظهرت لهم العظام وقدتهم إلى أسيرتي ؛ لكنها تحولت إلى ماء واختفت . من جانبي ، غصت بسيفي في هذا الماء ، مهما حدث ، وسالت الدماء . عجلنا ، إذا ، للعودة إلى السفينة ، وغادرنا . عند مطلع الفجر رأينا قارة ، والتي تبدو لنا الأرض في الجهة المقابلة لأرضنا : عشقناها وقدمنا لها صلواتنا ودعائنا ، وتشاورنا حول أي جهة يجب علينا أن نتجه لها . البعض رأيهم أن ننزل قليلا ، ثم نرجع على خطانا ؛ والآخرون ، أن نترك سفينتنا تتوغل داخل البلاد ، لمعرفة سكانها . بينما نحن نتشاور ، قامت عاصفة عنيفة ، دفعت بسفينتنا على الشاطئ وحطمته . بالكاد كان لنا متسع من الوقت لننقذ أنفسنا بالسباحة وحمل أسلحتنا وكل ما يمكن لكل منا أن يحمله . هذه هي ، حتى وصولنا إلى هذه الأرض الجديدة ، مغامراتي المختلفة بالبحر ، عندما أبحرنا بين الجزر ، في الجو ، في السمكة الكبيرة ، ثم بعد خروجنا
عبدالسلام زيان |
|