امرأة ٌ و فارس
قصة قصيرة
بقلم
نور الدين محمد
دلف إلى داخل المنزل الهادئ، و نظر إلى زوجته في ردائها الوردي القصير و سبح للحظات في ذاك النهير الأزرق الطالل من عينيها الجمليتين، قبل أن يلفه شعرها الذهبي الطويل و هي تحضنه بشوق امرأة ٍ غاب عنها حبيبها منذ سنوات ٍ طوال لا ساعات ٍ قليلة، وتنسج على شفتيه قبلة ما عرفتها شفاه الأحبة ِ من قبل، و ترقص بأناملها الرقيقة بين خصلات شعره الأسود مع نسيم العطر الباريسي العتيق الذي يملأ المكان.
هكذا كانت – امرأة الليالي الحسان، و ما كان لحسنها هذه الليلة من مفر، فحتى خطواتها ، همسها، صمتها، كل شيء قد جاء من أجل دعوة هذا الفارس إلى ليلة حب، و لكن ،،، ما زال الفارس يختلس النظر إلى شيء أبعد من صورة هذه الحسناء،،، شيءٌ ... يكمن في أعماقها، في عتمة هذا الفيض النوري المبهر من عشق ٍ فريد قد واجهه طيلة خمسة أشهر كاملة.
تراجع ببطء خطوتين إلى الوراء و هم بالحديث، لكنها وضعت يدها على فمه، و أخذته إلى حيث المنضدة الخشبية الدائرية و أضاءت شمعة صغيرة بعد أن أطفأت كل الأنوار.
" يا لجمال هذه المرأة " هكذا همس في صمت ٍ- ففي وسط أشعة الشمعة القليلة و بين نغمات هذه الموسيقى الهادئة، كانت تتلألأ كنجمة ٍ سقطت من عُـقد نجمات ﭽيد السماء، و باتت له وحده.
اقتربت منه، أمسكت يديه، و راحت ترقص معه في هدوء، و هي تنظر إليه، و تتغلغل إلى داخل أعماق فؤاده، و تأسره عند هذا الجمال الأخاذ، و دون أن تعلن الحرب عليه، و دون أن تغزو أسوار قلاعه، باتت تأسره كلما أرادت، و تعتقه كلما أرادت، تقربه، و تبعده، تطمئنه و تقلقه .
توقفت عن الرقص و أخذته إلى حيث الطاولة الخشبية و جلسا من أجل الطعام، وتحدثا بالنظرات و دون أن ينطقا بكلمة ٍ واحدة :
- ألم يحن الوقت بعد كي أعرف الحقيقة ؟ .
- أنك لا تبحث عن الحقيقة، بل تبحث عن كبريائك و تخشى من لحظة صدق.
- لم يعد بمقدوري التحمل و ليس بمقدوري أيضاً أن أقف أمامكِ و أعلن عن خطيئتي و أنتظر ما تنزليه من عقاب ٍ .
- أما أن تعترف، و أما أن تظل رهينة الحيرة.
- لو تصرخين في وجهي، لو تعلنين ثورتك، لكان هذا أيسر من هذا الصمت الثائر.
- لن أعلن ثورتي لكِ، برغم ما يجتاح القلب من إعصار.
- أنتِ لا تدرين كيف هي عالية دقات الألم بقلبي.
- الألم، دعني أنا أحدثك عنه.
نظرت إليه و نظر إليها، و قامت بهدوء و أضاءت الأنوار، و تأملها ثانية، و راح بنظره يتأمل هذا الإيشارب الأبيض الذي يلتف حول رقبتها و يتدلى بطرفيه الشفافيين على ظهرها.
" لو تخبريني بحقيقة هذا الشيء " قال لنفسه - و هو يقوم من مجلسه و نظراته تلاحق تلك القطعة البيضاء، أنها السر الذي ينتظر التفسير كي يعيد الفارس خارطة حياته.
اقتربت منه و تطاير الإيشارب الأبيض على نسمة هواء تسللت عبر الشرفة، و بدا و كأنه طيرٌ قد جاء من بعيد، في تلك الرحلة الطويلة، ليحط على عشه الصغير، و كلما اقتربت منه تراجع إلى الوراء، إلى أن دخل غرفته من أجل أن يُبدل ملابسه.
رمقته بنظراتها و تأملت قسمات وجهه الحائرة، و تحسست هذا الإيشارب الأبيض، و ذهبت صوب الشرفة و نظرت إلى القمر الجالس في موكبه الليلي . نفس القمر و في مثل هذه الليلة الهادئة و عند نفس هذه الشرفة و خلف نفس الستائر الزرقاء و من خمسة أشهر، كانت تنتظر زوجها الذي سيعود من رحلة عمل صغيرة امتدت لأسبوعين، كانت خلالهما تسمع من صديقة لها أن الزوج قد تعرف على امرأة ٍ أخرى، و هو يسافر بصحبتها، لكنها أبداً لم تصدق أن هذا الفارس كما كانت تحب دوماً أن تناديه، يمكن أن يخونها أو أن يتخذ لنفسه عشيقة، لقد رأته دوماً يوتوبيا لم تعرف الأساطير مثلها.
لم تنس تلك الدقات الهادئة التي سمعتها في تلك الليلة الباردة على الباب، جرت مسرعة و هي لا تصدق أنها قد غفلت عن رؤية فارسها و هو يدخل إلى العقار. فتحت الباب و تأملت الشخص الواقف أمامها، كانت امرأة ذات ملامح جميلة ترتدي ثوباً عارياً أسود اللون و يفوح منها عطرٌ ذكياً و تضع على كتفيها العاريين إيشارباً أبيضاً شفافاً .
دخلت المرأة و هي تتأمل الشقة و حتى قبل أن تنتظر رد صاحبتها، و قبل أن تتحدث الزوجة،بدأت المرأة بالحديث وهي تجلس على المقعد الخشبي الهزاز .
أخبرتها بأنها عشيقة الزوج و هي ترافقه منذ شهرين و سافرت معه عدة مرات، و عندما لم تتقبل الزوجة هذا الأمر، قدمت العشيقة بعض الصور و التي تظهر فيها بصحبة الزوج على شاطئ البحر, كما قدمت أيضاً بعض الوريقات بخط يد الزوج و التي تمتلئ بعبارات الغرام، و لأنها مثل كل الغانيات اللواتي لا يجدن حرجاً في أن يتحدثن عن كل شيء، فقد أخبرتها عن أدق تفاصيل علاقتها بالزوج و ماذا كانت تفعل له، و كيف جعلته أسيراً عند قدميها و كم مرة رقصت له بهذا الإيشارب الأبيض.
كانت الزوجة لا تصدق ما تراه، و لا تريد أن تسمع كيف شاركتها امرأة أخرى قلب و جسد زوجها، و كلما زاد الألم في وجهها و تجمعت الدمعات في مقلتيها، كلما زادت العشيقة من حديثها الماجن .
" عرف امرأة أخرى" - هكذا قالت الزوجة و دموعها ترسم على وجهها قصة السنوات الأربع التي قضتها معه،، و صورة الطفل الصغير الذي لم يتجاوز العامين .
هكذا سقط فارسها عند نهود العاهرات، و باتت مدينتها الفاضلة التي نسجتها من زيف طهره، وريقات مشوهة تتقاذفها رياح الحقيقة، الحقيقة – ما هي الحقيقة ؟
تنبهت إلى صوت الباب و هو يُغلق، و وجدت العشيقة و قد رحلت تاركة وراءها، جرحاً عميقاً و ... الإيشارب الأبيض .
ماذا ستفعل ؟ أتعلنها ثورة في وجه الفارس ؟ أم تغفر له خطيئته ؟ أتتركه بعد أن سقط القناع ؟ أم تبقى بجواره ؟
ظلت طيلة ليلة كاملة تبحر بين أمواج الحيرة، و كلما زاد الإبحار وقتاً، زاد الجرح عمقاً، و قررت أن،،
تظل داخل حدوده و تعلنها ثورة سكون و انتفاضة صمت،،
ترسم في عينيه سطر و تُخفي سطر، فتبدو الحقيقة كطيف ٍ مر و خلف ورائه تساؤلات ٍ حيرى،،
تُسكنه خلف كل علامات الاستفهام ؟ و حين يعبر أحداها في شوق الرؤية، يجد أمامه مزيداً من علامات الاستفهام،،
تزرع في نفسه اشتهاء الجسد فيكون القرب، و بالقرب تنزع منه يقين السكينة فيكون البعد.
كانت تريد أن يبحر بين الشك و اليقين، بين المنفى و المرفأ، بين رضوخ الجسد و مكنون القلب ،،، حتى يأتي اليوم الذي يعترف بما فعله و لأنه تعرفه ففد كانت على يقين من أن هذا الاعتراف سيستغرق وقتاً.
و جاء ليل الغد و تزينت كما لم تتزين من قبل، و بدت ثورة الأنوثة الرابضة في طيات الثوب الجميل، و كأنها راقصةٌٌ حسناء تنتظر أذن مولاها كي تحلق بفتنتها في سماء العشق .
و جاء الزوج و تأمل زوجته و هي تجلس بانتظاره على المقعد الهزار، و ذهب إليها و قبلها و تأملته هي في هدوء و تحسست وجهه و فكرت كم مرة لامست عشيقته بشفتيها هذا الوجه.
و بدأت ليلة الهوى، و النغمات تعزف، و بقية من ضوء الشموع تلف رقصة الحبيبين إلى أن رأى الزوج هذا الشيء الملفوف حول عنق زوجته بطرفيه الطويلين على ظهرها .
تراجع إلى الوراء بغتة، و تأمل الإيشارب الأبيض، أنه هو ، فقد اشتراه لعشيقته منذ عدة أسابيع، كيف أتى ؟، لا يمكن أن يكون نسيم البحر قد حمله إلى هنا، و لا يمكن أن تبتاع زوجته نفس الإيشارب و نفس النوع و نفس اللون، أيمكن أن تكون العشيقة قد أتت و أخبرت الزوجة، أيمكن أن تكون قد أرسلته لتنتقم منه بعد أن تركها بلا سبب و رفض أن ينساق وراء مطالبها .
و كيف يمكن أن تكون زوجته قد عرفت شيئاً و تزينت من أجله بهذا الشكل المبهر، كم ود أن يسألها و لكن كيف ؟ أيقول لها من أين اشتريت ِهذه القطعة البيضاء ؟ ستخبره الزوجة بالطبع أنها قد اشترتها من مكان ٍ ما، و ربما تتأكد ظنونها لو أنها كانت فقط تشك بشيء .
اعتذر لها الزوج و ذهب لينام لأنه مرهق، و ظل يفكر طيلة الليل و دون أن يغمض له جفن،أيمكن أن يحدث هذا الأمر ؟ و كيف يتأكد من أنه قد حدث ؟ أنه لن يقف أمامها و هو فارسها ليعترف بخطئه و ينتظر عقابها، و لكنه لن يظل بين الشك و اليقين، و طيلة الأيام التالية، حاول أن يبحث عن تلك المرأة كي يتأكد منها و لكنه لم يجدها أبداً، و حتى لو وجدها ستقول له لا لم أفعل ...
مرت خمسة أشهر كاملة و هو يقبع في سجن الحيرة، و حتى في أمسيات الحب، بدا و كأنه ينفذ واجباً مقدساً، و كل يوم يلتقي بوجهه مع وجه زوجته، كانت التساؤلات بينهما تدور و دون أن يتحدثا، كان يعلم أن بالأمر شيء و لكن ما هو هذا الشيء، كان يدرك أن هذا الفيضان العشقي من زوجته الذي و إن كان يكفي ليدثر قلوب كل الأحبة، فهو حتماً يحمل في طياته سراً، كان حقاً يحبها و يعرف أنه أخطأ، و أنساق وراء نزوة عابرة، كم ود أن يخبرها، و لكنه كان يخشى مما قد تفعله و يخشى على كبرياء الفارس في أعماقه.
************
مسحت الزوجة دمعة من عينها بعد أن طوت صفحات الذكرى القريبة و تذكرت أنها لم تخبر أحد بهذا الأمر، بل و أخبرت صديقتها بأنها قد تأكدت من أن زوجها لم يعرف امرأة أخرى لأنه أعظم فارس.
أسدلت الستائر الزرقاء و توجهت نحو الأريكة الخشبية الوثيرة و تمددت عليها و أغمضت عينيها للحظات في انتظار قدوم الزوج.
خرج الزوج من غرفته و تأمل الزوجة في ثوبها الوردي وهي مغمضة العينين فبدت و كأنها الأميرة النائمة التي تنتظر أن تمضي قبلة الحبيب على شفاهها، " كم هي رائعة " - ردد تلك العبارة بشوق ٍ كبير.
جلس على المقعد المجاور و هو يتأملها و يتساءل لمَ فعل ذلك ؟ و ما الذي دفعه لأن يخطو في هذا الأمر؟ ما الذي يستحق لكي يُضحي بزوجته التي يعشقها و تعشقه و كذلك ابنه الصغير؟، أسند رأسه إلى الوراء و تنفس بعمق، و بدت رايات الاستسلام تبدو في عينيه بعد رحلة الأشهر الخمسة، و قرر أن يتحمل ثمن ما اقترفه لأنه لم يعد قادراً على الاستمرار.
نظر إلى زوجته و قال بصوت ٍ منخفض :
- حبيبتي.
فتحت زوجته عينيها و تأملت تلك الدمعة الحائرة التي ترتسم في عين زوجها و تابعته و هو يقول :
- هناك شيء أود أن أخبرك ِ به.
نظر إلى الأرض قبل أن يكمل حديثه :
- لقد أخطأت في حق هذا البيت الجميل، و في حقك ِ أنت ِ، و غدوت وحيداً لا أبصر بين الحب و الزيف، بين نقطة الندى التي تهب الوريقات الحياة، و بين نقطة السم التي تقتل نضارتها، و اليوم أقولها لك ِ، لقد عرفت امرأة ً أخري قبل عدة اشهر و لكني قد طردتها من حياتي بعد أن عرفت خطئي و تصورت أن الأمر قد انتهى، بيد أن الأقدار لم ترد ذلك.
تنبه إلى كفيها و هما يحتضنان كفيه و رآها و قد جلست على ركبتيها بجواره لتقول وسط دموعها :
- أعرف ما حدث، و لكن ما لا أعرفه هو لمَ حدث ؟
نظر في عينيها و من بين دموعه قال :
- لا تسأليني، لم َ خنتك ِ ؟ لأنني لا أعرف سبباً .!، ربما أخذني كبريائي إلى ساحة الآثام ِ، فقط ما أعرفه هو أنني ... أحبكِ.
تأمل دموعها و بدت له و كأنها تحمل أطهر معاني الحب قبل أن يواصل حديثه :
- لا أملك عذراً، و ما ستفعلينه سأرضى به، فما عدت استحقك ِ و ما عدت استحق هذا البيت، و لو طلبت ِ مني الرحيل لرحلتُ.
قالت و هي تغالب دموعها:
- نعم،سأطلب منك أن ترحل، لكن ... أن ترحل إلى قلبي و تسكن به.
نظر في أعين زوجته وأخذ كفيها و قبلهما و وضعهما على وجهه و كأنه يريد أن يتلقيا الدمعات التي تفجرت من عينيه، و سمع زوجته و هي تقول بحنان :
- أتعرف أن البكاء الصادق للرجل بين كفيّ حبيبته قد يجعله أسمى من كل أقاصيص البطولات، لا تخشي مني، أردتك فقط أن تعترف حتى تمضي حياتنا بلا كذب ٍ، و برغم ألمي، و برغم جرحي، لن أنثر عبراتك في الأفق ِ و ستظل فارسيّ، طالما بقيّ في القلب نبض.
تأمل عينيها و بدا الدمع على وجهه و كأنه يتساءل " كيف تسامحيني ؟ ".
قبلت كفيه و قالت :
- لأنك وطني أيها الفارس أعشقه مهما قد يُسيء لي.
أخذها بين أحضانه و لأول مرة يشعر بهذا الدفء في داخله، و ترك دموعه كي تمسح تلك الصرخة الكامنة في أعماقه طيلة الأشهر الماضية ، أما هي فلم تنس أن تنزع هذا الإيشارب الأبيض من على عنقها و تلقيه على الأرض بعيداً.
تمــــــــــــــت
من مجموعة أنها أنثى