المنبر القديم للمحكمة الشرعية التي تقع في وسط زحام العاصمة ، تنطلق اليه عبر ازقة ضيقة لا تتمكن ان تركن سيارتك فيها ، مبنى أثري وقديم جدا قدم القضايا التي فيه .
تتناثر هنا وهناك أمام مدخل المحكمة طاولات الإستدعاء وتنصب فوق كل طاولة مظلة تقي الجالس على هذه الطاولة حر شمس الصيف وبرد كانون الثاني..
في ملامح كل كاتب عدل مما يجلسون عليها تحفر في الذاكرة الف قصة وقصة ما بين طلاق ونفقة وشقاق ونزاع .. وإصلاح ذات البين .
يحملها هذا المسكين كما لو أنها قوت يومه لزوجته الصبورة التي تنتظر بشغف لتستمع آخر قصة بعد وجبة العشاء البسيطة في غرفته الصغيرة وبعد ان يعدل مزاجه بكاسة الشاي المضلعة نافثا سيجارته المحلية وهو يروي ويروي وكأن الزمن يعود الى الوراء الف عام وعام فيصبح شهريار بدل شهرزاد يروي كل الحكايا , حكايا ألف ليلة وليلة ، وفي اليوم التالي تظهر عليه آثار سهر الليلة الماضية وآثار تعب القصص التي يرويها ويحملها كل يوم في جعبته .. ترتسم على وجهوه كل هؤلاء على وجوههم دون ان يشعروا بذلك .
دينار …نصف دينار … طبعا كل استدعاء له تسعيرة خاصة به ومتعارف عليها.. أقبلت لأستفسر عن المحامي الخاص بي .. حسبت نفسي أنني في سوق الخضار ، الكل يتهافت على الزبون وعيناي لا تستطيعان ان تطاردان كل شئ في كل ما يجري ويحدث … حركة دؤوبة لا تستطيع ان توقفها في رأسك ما دمت انت في هذا المكان .
تجولت في هذا المبنى بعد ان التقطت انفاسي مرات عدة وانا اصعد السلالم المملة … ارضية المحكمة تشهد العشرات من اصحاب القضايا يوميا ورغم ان عمال النظافة ل يؤولون جهدا في تنظيف الأرضيات بين الحين والآخر …. وكم خطوة خطاها المتردد على هذه المحكمة من المطلقين والمطلقات والأرامل كبار السن وصغارهم ومن جاء ليعقد قران ابنه او ابنته .
الكل يطارد هنا وهناك من اجل انجاز معاملته ولكنهم لا يعيرون اهتماما لهذه الجدران الكئيبة ذات اللون الرمادي …. تساءلت ما بيني وبين نفسي لماذا لا يتم مراعاة نفسيات المترددين على هذا المكان الحاملين قضايا تؤرقهم ليل نهار ، لماذا لا يكون الوردي مثلا او الابيض لونا مميزا لهذه المحكمة التي تعج بالقضايا لون يريح النظر ويدعو للتفاؤل بأن كل من يلجأ اليها سيجد من ينصفه .
أسئلة كثيرة تتردد في عقلي البسيط لماذا ولماذا ولماذا "
رائحة قاعة الانتظار تعج بالمنتظرين دورهم تفوح برائحة التبغ المحلي والأجنبي التي استطيع ان اميزها جيدا .
قدماي تأخذاني الى غرفة الأرشيف حيث الملفات المكدسة من سنوات عدة وهناك من اعتلاها الغبار وقضايا ما زالت تنتقل من هذا القاضي لذاك دون ان يبت في أمرها وأكثر من موظف يتسامرون ويحتسون شايا معتقا .
القيت التحية وسألت احد الجالسين عن الملف الخاص بقضيتي 68/1994 وغاص بين الأرفف باحثا عن ضالتي … الملف لم يكن موجودا فشكرته وانطلقت الى غرفة المحامين للسؤال عن المحامي طلال دون جدوى فهو لم يحضر اليوم .
زالت كل الألوان الجميلة التي رسمت بها جدران المحكمة …طارت من رأسي مثلما طار عقلي .
سار معي احد المحامين لمساعدتي بعد ان لاحظ غضبي فأنا للمرة الأولى التي ادخل فيه هذا المبنى ومنذ ان وكلت المحامي منذ اكثر من سنة وثماني اشهر فأنا لا احتمل المطاردات بين الأروقة وإلا لم وكلت المحامي .
( بصراحة لقد تورطت بطلال يا ست لمى )
ان من تسألين عنه لديه الكثير من القضايا مع موكليه بعد ان يقتص كل موكل بطريقته الخاصة منه .
( تذكرت الان لماذا كان يتأخر بتسلمي النفقة وما زال لي بذمته 600 دينار ولكنني اعتبره رصيدا )
ضحك المحامي الشاب قائلا :
( نصاب من الدرجة الأولى )
جن جنوني …. قضيتي لم تكن بالأصل موجودة وإلا لوجدت الملف .
وفكري يشرد بعيدا لعامين انصرما لما اوصلني لأبواب المحكمة .
( عليك ان تتزوجي فقد اصبحت في الخامسة والعشرين عانسا … والدك متوفي …اخواتك سبقنك بالزواج ولم تبقي إلا انت هما أمام وجهي كلمات امي تتردد في مسامعي واشتاط غضباً .
لا أريد ان اتذكر
لم يمض على زواجي شهر واحد وعلامات حقده تملأ جسدي وتشوه وجهي .
لا اريد ان اتذكر
وحياتي الوردية بدأت من اول يوم بعد ان قام على بيع مصاغى بعد ان قام بضربي وفي الأسبوع الثالث من زواجنا غرفة نومي …
لا اريد ان اتذكر
ولكنني ما زلت احلم بأن تكون جدران المحكمة الشرعية تتزين باللون الوردي لا الرمادي المقيت ( وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم )
صدق الله العظيم
قصة قصيرة
نهله آسيا