كيف نرى ماضينا؟، وماذا نرى منه؟، وهل رؤيتنا هذه موضوعية وشاملة، وذات مصداقية تستند ما أمكن إلى البينات والحقائق؟
وهل نستطيع أن ندافع عنها أمام أجيالنا في الحاضر والمستقبل؟
نعم يحق لنا كأمة أو مجتمع أو حتى كأفراد أن نسأل أنفسنا هذه الأسئلة وغيرها لسبب بسيط وجوهري، وهو أن رؤية الماضي المبنية على أسس وقواعد موضوعية هي ضرورة أخلاقية وحضارية، وهي أيضاً من ضرورات الثقافة العلمية والإنسانية للهوية الوطنية التي تعد عماد حاضرنا ومستقبلنا.
إن نظرة سريعة إلى رؤيتنا لأحداث الماضي عبر سنوات طويلة، تدل أننا ننتقي ما يحلو لنا منها، وتدل أننا كثيراً ما نرى أمجاداً في الماضي، لا نبرح ساحاتها، ونسلط الضوء على بطولات وانتصارات، ندور وندور حولها، وكثيرا ما لا نكل أو نمل ونحن نطرب أنفسنا، ننشد فضائلنا على بعضنا البعض، نجود ونجود في وصف جهل وتخلف الآخرين وصفحات تاريخهم المظلم. رؤى وقراءات متباينة ومتضاربة لأحداث الماضي، دفعنا ثمنها كثيراً، وندفع ثمنها يوماً بعد يوم.
المطلوب أن نرى ما لنا، وهو كثير وكثير، وما علينا أيضاً، المطلوب أن نرى أين أصبنا وأين أخطأنا، أين تقدمنا وأين تأخرنا، أين انتصرنا وأين هزمنا، المطلوب أن نرى بعين الدارس والفاحص والناقد، لأننا وبكل بساطة نحتاج رؤية متوازنة ترى كل شيء، رؤية غير منحازة، …رؤية تدفع أجيالنا للتفكير الجاد المبني على الحقائق كاملة بكل أبعادها وألوانها، رؤية واعية تستفيد من عثراتنا وكبواتنا و سقطاتنا وتبني على نجاحاتنا وإنجازاتنا، إنها رؤية الماضي التي تحفظ وتنصف، ولاتغفل أو تتغافل، رؤية لا تنسى دور الآخرين وإنجازاتهم، رؤية لا تجهل أو تتجاهل دلالات العجز والإخفاق الذي شاب ماضينا كثيراً وكثيراً، ووصل درجة احتجنا فيها الآخرين للتعرف حتى إلى جوانب أساسية من ماضينا وحاضرنا، وأتذكر هنا على سبيل المثال “فرانسوا شامبليون” الذي حل لغز لغات حجر رشيد لاسيما الهروغليفية الذي نقش عام 196 ق.م، وكذلك عشرات مكتشفي روائع الآثار الفرعونية في مصر، و “مورغان” الذي حل لوحة تشريع “حمورابي” في بلاد الرافدين عام 1902، وأولئك الذين اكتشفوا صهاريج عدن، وباقي آثار اليمن. ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل امتد إلى طباعة القرآن الكريم على سبيل المثال، ولأول مرة، في البندقية بإيطاليا أوائل القرن السادس عشر سنة 1530 م ولم يتسنى طباعته في بلادنا إلا بعد نحو قرنين من الزمن.
وأذكر أيضاً أن عجزنا وإخفاقنا امتد في الماضي ليصل إلى بعض أعلامنا ومبدعينا مثل الأديب والفيلسوف الكبير “أبو العلاء المعري” الذي اقترنت حياته بالمعاناة والألم والإجحاف والتنكر، وظل في مجتمعنا بين إنكار وافتراء حتى أخرجه إلى النور وأنصفه المستشرق “نيكلسون”، و “بلاسيوس”، و “جب”، وكانوا، وبكل أسف، أوائل من سلطوا الضوء على ابداعات هذا الأديب.
رغم أنني تعمّدت عدم ذكر أمثلة أخرى كثيرة من ماضينا وحاضرنا، لأسباب نعلمها جميعاً، فمن المؤكد أننا نحتاج إلى رؤية جديدة للماضي، رؤية للأمس بعين اليوم الذي يتطلع إلى الغد، فالرؤية الواعية هي دائما الواعدة على طريق بناء مستقبل أفضل.