تمهيد
في البحث عن مصطلح نقدي للأسطورة :
يمكن القول بأن الأسطورة هي الجزء الناطق من الشعائر البدائية ،الذي نماه الخيال الانساني واستخدمته الآداب العالمية،فهي تلك المادة التراثية التي صيغت في عصور الانسانية الأولى، وعبر بها الإنسان في تلك الظروف الخاصة عن فكره ومشاعره تجاه الوجود، فاختلط فيها الواقع بالخيال وامتزجت معطيات بالحواس والفكر واللاشعور، واتحد فيها الزمان، كما اتحد فيها المكان، واتحدت أنواع الموجودات من إنسان وحيوان ونبات والتحمت في كل متفاعل مع مشاهد الطبيعة وقوى ما وراء الطبيعة ، واتخذت من التجسيد الفني وهو لغة الشعر الحق_وسيلتها للتعبير عن كل خلجة من شعور وكل خاطرة من فكر في تلقائية عذبة محببة تنطوي على إيمان عميق بأنها تعبر عن ((حقيقة الوجود)).
الفصل الأول (الأسطورة والشعر):
_ الأسطورة والشعر :
يتأثر الشعر في نسيجه الداخلي وهيكله العام ، ومواقفه وأحداثه وأبطاله ، في الأساطير، فهناك جذر مشترك بين الحكايات الشعبية والخرافية وحكايات الخوارق والأساطير ، وهو أن جميعها نبعت من خيال خصب يتجاوز الواقع ، ويتخطى حدود الزمان والمكان ، ويمزج بين الأحلام والأوهام وبين ما يحس ويرى ويسمع، وبين الذات وتجاربها الموروثة والمعاشة ، وهذا الخيال الخصب هو الذي أبدع الأسطورة ، وأبدع كل تلك الأشكال التراثية التي تكاد أن تكون عالمية، وهو الذي يعود إليه الشاعر المعاصر فيلتقي بعالمه من خلال الرموز والحكايات في هذا التراث الانساني الضخم، أو يصنع ذلك الخيال بخلق رموزه ودلالاته؛ ليكون رؤيته للعالم .
وحسبنا أن نشير إلى بعض الآراء في تفسير الأسطورة :
أولًا: الوجهة التاريخية :
ترى المدرسة التاريخية أن الأساطير التي وصلت إلينا ليست في أصولها إلا تاريخ البشرية الأولى ، الذي نسيت ملامحه الدقيقة، وأضفى الخيال الإنساني عليه جوا فضفاضا.
وتاريخ الآلهة ما هو إلا تأريخ لعصر الأبطال ، حين كان الإنسان يعجب بالقوة ، والجبروت ، والبطولة في شتى ألوانها المادية والمعنوية ، ويسير في ركب هذه النظرية العالم الأثري (إيمانويل فليكوفسكى) في كتابه _أوديب وأخناتون.
ثانيًا: الوجهة النفسية :
يصدر فرويد في تفسيره للأساطير عن فكرته الأولى ، في أن غرائز الجنس هي أهم بواعث الأعمال الإنسانية ، وأهم ما أصابت به الحياة الاجتماعية الإنسان من عقد ،كان عقدة أوديب_وقد استعارها فرويد من الأسطورة المشهورة _وهي تنطوي على المصادمة الاجتماعية (الكبح) للحب الغريزي بين الابن وأمه.
أما كارل يونغ فيصدر في نظريته عن العقل الجمعي والنماذج العليا، وهي حسب تعريفه (صور ابتدائية لا شعورية، أو رواسب نفسية لتجارب ابتدائية لا شعورية لا تحصى ، شارك فيها الأسلاف في عصور بدائية ، وقد ورثت في أنسجة الدماغ بطريقة ما) إذن هي نماذج أساسية قديمة لتجربة إنسانية مركزية .
ويعتقد رانك أن الأساطير تصور كفاحا بين الذات الفردية المؤمنة بخلودها ، وبين الذات السلالية المجسدة في الأيديولوجية الجنسية التي تنبذ الخلود الفردي في سبيل الزواج والأولاد .
لقد أثرت آراء فرويد ويونغ على الأخص في الاتجاهات الأدبية المعاصرة ، واعتبرت الأسطورة عملا فنيًا رمزيا، يستطيع أن يتكىء الفنان المعاصر على دلالاتها الخصبة في التعبير عن القيم وعن المشاعر الإنسانية الأصيلة والمتطورة على السواء.
ثالثًا : الوجهة التعبيرية :
يرى بعض الباحثين أن الأساطير ليست إلا لونا من ألوان التصوير البياني لإحساس الإنسان بقوى الطبيعة، يستخدم المجاز الذي نسي أصله كما تعبر عن الزمن ، فينسى هذا الأصل المجازي وتبقى الأسطورة .
فالأسطورة على حد تعبير ماكس مولر إنما نشأت نتيجة قصور في اللغة ، مما أدى إلى أن تكون للشيء الواحد أسماء متعددة ، كما أن الاسم الواحد كثيرًا ما يطلق على أشياء مختلفة .
رابعًا: الوجهة العقائدية:
تؤكد هذه الوجهة أن الأساطير تعبير عن عقائد الأولين وعباداتهم ، ومن الطبيعي أن توهمهم الآلهة في كل مظاهر الطبيعة وفي كل قوى الكون.
وفي إلياذة هوميروس نماذج كثيرة لصلواتهم وألوان متعددة من تقربهم إلى الآلهة ، وضروب احتفالاتهم الدينية .
و التشابه بين كثير من عناصر الأساطير هو نتيجة طبيعية لتشابه المرحلة التاريخية والمكونات البيئية ، حيث لا يوجد التمايز والخصائص المتفردة إلا مع التقدم الحضاري .
ويرى توماس بوليفتش في كتابه"ميثولوجية اليونان وروما" أن تلك الآراء تتبلور في نظريات أربع :دينية وتاريخية ورمزية وطبيعية .
خامسًا: الوجهة الجمالية :
المدرك الجمالي للأسطورة هو أهم ما يعنى به الشاعر ، إذ غالبًا ما يخلد آثارًا قوليةكانت في الذروة من النسق الفني ؛ لذلك كانت خصائص الصياغة الفنية في الأساطير ومنحاها في التصوير والتشكيل أهم ما يسترعي انتباه الشاعر المعاصر .
و نظرة الشاعر المعاصر إلى الأساطير من وجهتها الفنية ، توسع دائرة رؤيته للتراث الانساني ، فتضع التاريخ وأحداثه ، وتضع الكتب المقدسة والحكايات الشعبية المتوارثة و الخيال مصادر لإلهامه.
الفصل الثاني : (سوابق الظاهرة في شعرنا العربي القديم) :
أ_في تراثنا الشعري:
نشأ الشعر العربي كغيره من الشعر في أحضان الأساطير ، وهي جزء هام من النشاط الشعري ، وقد كان هناك حركة تراجع أو لنقل انحطاط لعبادة الأوثان ، ومحاولة للتجمع حول فكرة (التوحيد)، ونبذ تعدد الآلهة، وبالتالي إضعاف شأن الأساطير بهيمنتها السابقة على العامة.
ورغم ذلك فإن ما بين أيدينا من الشعر الجاهلي لا يخلو من إشارات أسطورية قليلة ،إذ نرى الأعشى يتحدث عن سليمان ، وعن جن سليمان ، وعن المباني القديمة العادية المنسوبة إليه ، كما نراه يقص علينا بعض الأساطير القديمة ، والقصص الذي كان شائعا عند الجاهليين مثل عاد وثمود وجاسم ووبار.
وفي شعر أمية ابن أبي الصلت_وكان طامحا إلى النبوة_تقبل واستجابة لحكايات الكتاب المقدس، إذ يصف سفينة نوح، ويذكر إبراهيم ، ويقص عن مريم ، وخراب سدوم ، ونرى للملائكة مكانا في شعره ، وصفهم وتحدث عنهم ، وتطرق إلى مراتبهم ودرجاتهم وإلى أعمالهم .
ويشير النابغة الذبياني في شعره إلى كثير من الأساطير العربية والحكايات التوراتية ،فيشير إلى قصة سليمان والجن .
ونجد لدى شعراء آخرين إشارات إلى أساطير سنمار وصاحب الخضر ،كما ينظم عدي بن زيد العبادي كثيرا من الحكايات المتوارثة على نحو يجعلها جزءًا من التراث الأسطوري العربي كقصة الزباء ، كما يشير زهير بن أبي سلمى إلى قصة قدار عاقر ناقة صالح الذي كان شؤما على قومه .
لقد شف الشعر الجاهلي ،عن مضمونه الأسطوري ، وما ظهر من إشارات أسطورية فيه، نسج الشعراء العرب في العصور التالية على منواله.
فأبو نواس يشير إلى الضحاك بن مرداس، وأشار ابن الرومي إلى العزيز الذي خاصم ربه، وأشار المتنبي إلى زرقاء اليمامة.
ويعتبر أبو تمام وأبو العلاء المعري أكثر شعراء العربية في هذا السبيل ، فأبو العلاء المعري صاحب الأثر الأسطوري الجميل (رسالة الغفران) وفي شعره إحالات إلى الملل والنحل الدينية ، وإلى مختلف الثقافات المعاصرة والسابقة.
إذن يمكن تسمية مرحلة وجود الظاهرة الأسطورية في شعرنا القديم بمرحلة (الإشارة الأسطورية )حيث ينبثق الرمز عن طبقة واحدة معينة من المعنى ويتحرك بمستوى واحد من النفس، نظرا لخفوت تأثيره بنفوسنا و لبعدنا عن الانفعال بالمرحلة الأسطورية وصلتها باللغة الشعرية في تاريخ العرب ، وعدم امتلاكنا للوسائل العلمية التي تحدد تأثير هذه الإشارات الأسطورية في نفسية القارىء القديم .
ويمكن القول أن هذه المرحلة تليت بمرحلتين هما :
مرحلة صياغة الأسطورة: (ممثلة بمدارس البعث والتجديد في النصف الأول من القرن العشرين "مدرسة الإحياء والديوان والمهجر وأبو للو) ، فقد كان شوقي يصوغ حكاياته عن الحيوان ، وكان شفيق معلوف يصوغ الأساطير العربية في عبقر، وكان علي محمود طه يصوغ أرواح وأشباح، والرياح الأربع عن أصول فرعونية وشخصيات يونانية ، وكان إلياس أبو شبكة يصوغ قصص الكتاب المقدس وما اختلط بها من أساطير، وكصياغة العقاد ترجمة شيطان على النسق الأسطوري .
وكانت الأسطورة بين يدي الشاعر في هذه المرحلة تكاد أن يكون لها استقلالها الموضوعي ، وكان الشاعر يصوغ الأسطورة ويتركها بين يدي المتلقي تاركا شخوصها وأحداثها وما تشف عنه رموزها تعطي المتلقي من خلال العمل الفني الذي بين يديه.
مرحلة توظيف الأسطورة في بناء القصيدة( ممثلة بالمدرسة التي بزغت مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين وما زالت مستمرة إلى اليوم ، ومن أهم شعراء هذه المرحلة بدر شاكر السياب.
وهنا الشاعر يتغنى ويقدم ذاته للمتلقي ،ويستخدم الرموز الأسطورية كوسائط فنية بينه وبين المتلقي، وهو لا يصوغ أساطير ولكنه يشكل ، ويمتزج معجمه الشعري أحيانا برموز الأساطير وعناصرها ، فتسري الأسطورة في نسيجه الشعري كما تصهر عضويا مع بناء قصيدته.
الفصل الثالث : (مصادر الأسطورة في الشعر العربي المعاصر):
يستقي شعراؤنا المعاصرون الذين يستخدمون الأساطير ، من منابع عديدة تتلخص في :
1_الأساطير : وهي المصدر الأصلي وقد تنوعت روافدها ، فقد لجأ شعراؤنا إلى الأساطير اليونانية والفينيقية والأشورية والبابلية والفرعونية وألم بعضهم بالأساطير الإفريقية والصينية .
وهنا يظهر سؤال هل للحضارة الإنسانية أصل واحد ؟
إن القائلين بأصل الحضارة الواحد يختلفون على أولية وجودها في وادي النيل ومابين النهرين (العراق)، والقائلون بتعدد نشأتها لا يستثنون مصر وبابل وآشور .
غير أن حظوظ هذه الحضارات فيما خلفت من أساطير كانت مختلفة ،إذ توارت أوكادت الأساطير الكبرى للحضارة العربية، ومثلت الأساطير اليونانية فعالية في الآثار الأدبية ، وربما كان ذلك لأن الحضارة اليونانية كانت أحدث هذه الحضارات القديمة جميعا، وآدابها صادفت توفيقا ملحوظا فحفظت لنا الملاحم كالإلياذة والأوديسة لهوميروس،والمسرحيات والقصائد الغنائية، والأبحاث التاريخية والنقدية والفلسفية والتشريعية .
إذن تعددت مصادر الأساطير التي استقى منها شعراؤنا المعاصرون ورغم تعدد الأساطير وتنوعها لدى الأمم فإن عناصرها الأولى تكاد تكون متحدة أو متوافقة، وكثيرا ما نجد التشابه بينها مع اختلاف بعض التفاصيل ، بل نجد هذا التشابه بين الأساطير وما ورد في الكتاب المقدس.
فقصة ميلاد الإنسان من أب إلهي أو أم إلهية قصة متكررة في الأساطير(حتشبسوت،سميراميس،سرجون)، وربما يرجع مثل هذا التشابه حسبما يشير جوستاف لوبون ، وتوينبي إلى أن الأساطير كانت نتاج أمم في أطوار تاريخية متشابهة فتشابهت عناصرها واتحدت أصولها .
إن الثراء المتزايد لعالم الأسطورة _باختلاف مصادرها أو تأويلها _هو السبب في بقاء ينبوعها ثرا بين أيدي الأدباء حتى اليوم، وكل فنان معاصر _يستخدم الإطار العام للأسطورة ، أو يكون صورة من عناصرها ، أو يلتقط شخصية معينة ، أو موقفا كقناع لفكرة أو إحساس_ بحاجة إلى تأمل الدلالات العامة والارتكاز على الإطار الكلي للأسطورة ، أي أنه يطور الأسطورة ويطوعها إلى فن ، ويبث من خلاله مضامين معاصرة .
وقد لفتت أنظار شعرائنا كبرى الأساطير القديمة على الإطلاق وهي الأسطورة التي نجدها مكررة في تراث كل الحضارات القديمة : أسطورة الصراع بين الازدهار والجدب في الطبيعة ، وبين الخير والشر في الإنسان ،أسطورة إيزبس وأوزوريس في مصر القديمة،وعشتروت وأدونيس في فينيقيا،وأفروديت أوفينوس وأدونيس في بلاد اليونان .
وأي من هذه الأساطير صادف أطوارًا من النمو حتى بلغ صورته من الاكتمال على مر الحقب وتطور البيئة والمجتمع.
و كان للبيئة التي نشأت فيها الحضارتان البابلية والمصرية أثر واضح في تشكيل نظرة الإنسان إلى الكون والحياة ، فانتظام النيل في فيضانه أعطى الإنسان في مصر مقياسًا دقيقا للزمن ، وإحساسًا بالأمن وثقة بالمستقبل، وشعورًا بصداقة الآلهة له ، أما دجلة والفرات وعدم انتظام فيضانهما ،ومفاجأتهما بالأعاصير الغاضبة ،أعطى الإنسان إحساسا بعدم الأمن وعدم الثقة بالوجود .
ولذلك نستشعر في الأساطير البابلية والأشورية إيقاع الفزع ، ومحاولة البحث عن الإنسان وقيمته في الوجود ، وقد تجسد هذا الإحساس المفزع بالوجود وذلك التوق إلى الخلود في ملحمة جلجامش ، وتعتبر ملحمة جلجامش _حتى الآن أول تجربة ملحمية في تاريخ الأدب العالمي .
كما تعتبر الإلياذة والأوديسة أعظم أثرين أدبيين في التراث الإنساني ، استوحى فيهما هوميروس أساطير اليونان وتراثهم الحضاري وظلا على مدى التاريخ_مصدر إشعاع للكتاب والمفكرين وما زالا قادرين على الإمتاع والإلهام .
وقد عربها في صورة شعرية (سليمان البستاني).
ويمكن القول أن هوميروس استفاد من التراث المصري ، إذ زار هوميروس مصر ولابد أن زيارته كانت فرصة للبحث والدراسة وتحسس الجوانب المشرقة في هذا التراث الخالد .
2_ الحكايات الشعبية :
اعتمد شعرنا قليلًا على الحكايات الشعبية التي تروى عن عرب ما قبل الإسلام ، كأحاديث جذيمة والأبرش ، وحكايات الزباء ملكة تدمر ، والأقاصيص حول سنمار والأمثال التي ضربت فيه ، ويوما النعمان (يوم نعيمه ويوم بؤسه).
وكل هذه وأمثالها شغلت جزءًا كبيرًا من الأدب العربي القديم ، ولكنها لم تسترع انتباه شعرائنا المعاصرين إلا قليلا أمثال(عبد الرحمن شكري ).
*أما أهم مجموعات الحكايات الشعبية التي أثرت في شعرنا المعاصر فهي:
أ_كليلة ودمنة :وهي مجموعة من قصص الحيوان تدور كلها على ألسنته ،ويحاول مؤلفها أن يعطي العظة والعبرة للإنسان من خلال ما يخترعه خياله من أحداث ومشكلات في عالم الحيوان .
ويذهب بعض الدارسين إلى أن حكايات الحيوان أقدم الحكايات الشعبية على الإطلاق وتوجد في كل بيئة .
ب_ألف ليلة وليلة :عالم خيالي خصب لا يكفي أن نتحدث عنه بل يجب أن نقرأه قراءة دقيقة ؛ لنكتشف وسائط فنية لشعرنا المعاصر ، ورموزًا تعبر عن ضمير عصرنا وتطلعاته ، وهذا هو الطريق الحق لاستلهام التراث ، فنحن لا نريد من شعرائنا أن يفتحوا كتاب ألف ليلة وليلة لينظموا حكاياته وإنما نريد أن يمنحوها روح العصر .
3_التاريخ والكتب المقدسة :
يعالج الشعر التاريخ أحيانًا معالجة أسطورية فلا ينظر إلى البطل أو الأحداث في ضوء الحقائق التاريخية والوثائق المعروفة ، بل تتجاوز الرؤية الفنية للشاعر ذلك الإطار الواقعي وتلك الدلالة المحدودة إلى دائرة خيالية تتحرك فيها الحوادث والأبطال كما تتحرك في عالم الأسطورة لتتيح للشاعر أن يبث من خلال ذلك العالم الأسطوري ما يريده من غايات إنسانية دفينة .
إذن ثمة مسافة بين الحقيقة التاريخية وبين استخدام الفن للشخصية أو للواقعة الفردية ، فالشاعر لا ينظم تاريخا ولكنه يتوسل بالتاريخ للتعبير عن رؤى فنية معاصرة .
فمثلًا ينظر الشعر إلى الكتب المقدسة وإلى ما جاء فيها من قصص ، خاصة ما ازدحمت به التوراة من حكايات مثيرة ، ومافي قصة صلب المسيح من مثيرات فنية ، وما في عصيان ابن نوح لوالده في القرآن من تمرد ودلالة على الاعتداد بالذات ، ومافي موقف الشيطان أمام الذات الإلهية من هذه الدلالة السابقة ، إلى غير وذلك مما لا شأن له بالمقاصد الأصلية لهذه الكتب أو التحقيق التاريخي لبعض أحداثها.
وأهم الأسفار التي استرعت أنظار شعرائنا ، تلك الأسفار التي تكاد أن تكون شعرًا خاصا نذكر منها :المزامير والجامعة ونشيد الإنشاد ، وتعتمد الصورة الشعرية في هذه الأناشيد على موجودات البيئة البدوية من حيوانات وأشجار وأثمار وبخاصة البيئة الفلسطينية .
وكان العهد القديم _وما زال _يلفت نظر شعرائنا .
أما الإنجيل فلم يكن أقل لفتا لشعرائنا من التوراة ، وأعظم ما يزخر به من حكمة وبيان ذي طابع شعري يثوي في (موعظة الجبل) ، وكلمات المسيح عبر الأناجيل مليئة بالوعيد للأغنياء وللعشارين والمرابين والمرائين وبخاصة رجال الدين اليهود، وشخصية المسيح مثيرة للخيال خارقة للعادة يدعونه الرب والإله وهو يغفر الخطايا .
الفصل الرابع : (المؤثرات الأجنبية في استخدام الأسطورة في الشعر العربي المعاصر) :
ترجع المؤثرات الأجنبية في استخدام شعرنا العربي المعاصر للأسطورة في صورتها العامة إلى :
1_تأثير لافونتين في شوقي في حكاياته عن الحيوان .
2_التأثير الرومانتيكي.
3-التأثير الرمزي في سعيد عقل بخاصة .
4_تأثير إليوت في مدرسة الشعر الحر .
ففي أثناء وفادة شوقي إلى فرنسا قرأ لافونتين ، وقد أفاد منه كيف يستطيع أن يخفي أغراضه ويبث مضامينه دون أن يقع تحت طائل السلطة السياسية أو الاجتماعية .
وكان تأثر شوقي بذلك التكامل الفني الرائع لهذا اللون الفني عند لافونتين وفيه تتحقق:
1_وحدة الحكاية .
2_ويقوم كل بدوره المميز الواضح .
3-ويتم التناظر _عن طريق الإيماء البعيد _بين عوالم الحيوان وعالم الإنسان .
وتأثر بعض شعرائنا(شعراء الديوان وأبو لو والمهجر) _ قبل الحرب العالمية الثانية _في اصطناع الإشارات إلى التراث الأسطوري الإغريقي ، وفي صياغة قصائد في موضوعات أسطورية يونانية على نحو ما نجد عند أبي شادي ، وفرعونية على نحو ما نجد عند علي محمود طه، عبرية على نحو مانجد عند شوقي وعزيز أباظة .
و يرجع هذا التأثير المباشر والقوي لشعراء المدرسة الرومانتيكية _والرمزية عند سعيد عقل _واستفادتها من أساطير الإغريق وتضمينها أشعارها كثيرا من الإشارات _إلى أساطير اليونان ثم صياغتها أعمالا شعرية خاصة ببعض الأساطير.
فالأسطورة (أداة لتوصيل الحقيقة التي يكشف عنها الخيال )الذي اعتبره الرومانتكيون الوسيلة الأولى للمعرفة الإنسانية.
أما خليل مطران فكان يتمتع في شعره بميل إلى الموضوعية يكاد أن يكون كلاسيكيًا ، اتجه به إلى إنشاء القصص الاجتماعية ، والتاريخية ، وما سماه ملحمة عن "نيرون" .
وكانت الرمزية مبعث التجاء سعيد عقل إلى الأساطير وكانت مبعث اختياره لبعض مصادره (الأساطير الفينيقية والعبرية) ومبعث تأثير في أعماله الأخرى .
والشاعر الرمزي يستقي تجاربه من الحالات المتوالدة في العقل الباطن ،ومن الأزمات المبهمة في اللاوعي وهو نفس ما دعا إليه سعيد عقل ، وقد جهد الرمزيون في استغلال طاقات اللغة الشعرية ، والرجوع للأساطير انفلاتا من التعبير المباشر ووقوعا على رموز جاهزة استغلتها الآداب القديمة .
أما مدرسة الشعر الحر فقد كان إليوت أكبر مؤثر في اتجاهاتها إلى توظيف الإشارات التاريخية والأسطورية، ومحاولة صهرها في بناء القصيدة ، فكان اللجوء إلى الأساطير لأبعد مدى وأكثر تشعبا حيث استحالت إلى لبنة في البناء الشعري التماسا(لمعادل موضوعي) للفكر والشعور ، وإلى تكثيف دلالات شعورية وفكرية على نحو يحيلها (رموزا ونماذج إنسانية وأقنعة موضوعية للشاعر .
وتعتبر نظريتا (المعادل الموضوعي ) و(الصلة بالتراث) أهم نظريات إليوت النقدية ،و أكثرها تأثيرا فيمن تأثروا به وثمة له آراء في صلة الشاعر باللغة ورسالته الشعرية لقومه.
أما مدرسة المهجر وهي المدرسة التي تكونت من مهاجري سوريا ولبنان إلى الأمريكيتين ، فقد حاولت أن تهز الجمود الشعري وأن تؤسس للإبداع الفني كما تراه شعرا ونقدا .
ويمكن إجمال ما وصلت إليه مدرسة المهجر في استيحاء التراث الأسطوري بالإشارة إلى أهم الأعمال وهي مجموعة عبقر للشاعر شفيق معلوف،وكذلك استفادة الشاعر القروي مما يدعى ولادة (الآب الإله)من مريم في بعض قصائده.
الفصل الخامس : توظيف الأسطورة في بناء القصيدة :
تمهيد :
1_ الشعر والخصائص التعبيرية للأسطورة :
خلف كل لغة شعرية ترقد طبقة من الإشارات والرموز الأسطورية ويترسب قدر من لغة الإنسان الأولى ، بكل ما فيها من تجسيد للأهواء والمشاعر ومن بث الحياة في الأشياء ومن إحساس بوحدة الكون والإنسان ، وحدة تجعله جزءا من الكيان الحي الخالد.
ولعل قصيدة القمر العاشق لعلي محمود طه ، وهي قصيدة غنائية لا تحفل في ظاهرها بأي إشارة أو رمز أسطوري تستمد من الأساطير الأولى تجسيد القمر ومنحه الحياة الإنسانية .
وفي شعرنا المعاصر خواص أسطورية عديدة منها (الجو الأسطوري ) بمباينته للواقع وغرابته غرابة خاصة تذكرنا بأجواء الأساطير ، ومنها الشخصية بما فيها من عناصر خارقة للعادة وقدرتها على تسخير الأشياء وإخضاع قوى العناصر كما تشاء لها الأهواء مثلما نرى في قصيدة علي محمود طه (امرأة وشيطان ) وقصيدة (ميلاد شاعر ) والتي صوّر فيها ميلاد الشاعر كحدث كوني ، تتساءل عنه مظاهر الوجود .
ونجد في شعرنا الحديث ظاهرة تأليه الإنسان، وتأليه الظواهر الطبيعية وتأليه الأشياء المقدسة ، ويكثر الاشتقاق من صفة الألوهية ونعت الأشياء بها كظاهرة من ظواهر التأثر بالشعر الغربي .
ويعمد الشاعر إلى اصطناع جو أسطوري وإلى أن يؤله أشخاصا أو معاني ،كما صنع الهمشري في مطولته (شاطىء الأعراف ) وأحمد زكي أبو شادي في أوبراه (الآلهة).
ويتصل بالتأليه اللغوي للأشياء ، ظاهرة الحديث عن بنات الماء ، وربة الأحلام ، وعرائس الآمال ، وربة الشعر، وإضفاء الحياة على النجوم .
وتشيع في شعرنا الحديث ظاهرة أخرى ، وهي خصائص المعجم الأسطوري ، لا كأسماء أشخاص أو مواقف أو مدن، بل كخصائص وظيفية في تلك الأساطير .
وما يرى في شعر ملك بن عبد العزيز من حديث عن خصب النفس وخصب التربة ، والتعبير عن النزوع من خلال عطش الأرض ، وتوقها إلى قطرات الماء هو من بقايا ذلك المعجم الأسطوري.
2_المدارس الشعرية واستخدام الأسطورة :
إذا استعرضنا القصيدة الشعرية المعاصرة منذ أن انبعثت إلى الحياة حية على يد البارودي ، متخلصة من وهن النسيج وزيف التجربة ، فإننا نلاحظ أن تطعيم النسيج الشعري بالإشارات الأسطورية قد مرّ في مراحل ثلاث :
أ_الإشارة
ب_الرمز
ج_النموذج
أ_الإشارة :
_كان لشوقي ومدرسته مشاركة عامة في تضمين أشعارهم كثيرًا من الإشارات التاريخية والأسطورية التي تشبه مثيلاتها في أشعار _مدارس التجديد.
_أما مدرسة الديوان فيقل حظها من استخدام الإشارات الأسطورية.
_ولدى المجددين من شعراء أبولو نجد الأساطير اليونانية تدخل على حذر كمصدر من مصادر هذه الإشارات.
_و تكثر الإشارات الأسطورية والتاريخية كثرة لافتة للنظر في مدرسة الشعر الحر ، حتى تبيت من أهم ملامح معجمها الشعري ، وتتسع مصادر هذه الإشارات فتصدر عن الآثار الأدبية القديمة والحديثة ، وعن الأساطير المختلفة وتتطور الإشارة إلى كثافة في المعنى واتساع في الدلالة واتخاذ مجرى رمزي في نفوس القراء .
لذا نجدها تقتحم أجواء القصيدة فتشذ عن روحها العام ، وتنبو عن طبيعة نسيجها الشعري ، وتحاول أن تكون استعراضا لثقافة الشاعر أو تأكيدا مفتعلا لعصرية شعره ، وحداثة أدواته الفنية ، فتسقط في دائرة الرفض ،وتنبذ كل مادة زائفة .
مثلما نجد في شعر السياب ،وقد يعمد الشاعر إلى تكثيف الدلالات باستدعاء أكثر من رمز شعري فيجد القارىء حشدا من الإشارات والرموز توهن من القدرة على الإيحاء، كما نجد عند البياتي في قصيدته (مرثية إلى عائشة).
وقد وفق شعرنا المعاصر (مدرسة الشعر الحر )في استحداث بعض الرموز الفنية ،وكانت الغاية من تلك الرموز :
_حاجة الشعر العربي للدخول إلى دائرة الموضوعية التي لها وجودها المستقل ، نشدانا لتحقيق ما دعا إليه إليوت .
_الخروج من دائرة التلقي للعالم والانتقال به إلى دائرة النظر وتعقله.
_تحقيق الإحساس بوحدة الوجود .
_الاقتصاد بلغة الشعر وتكثيف الدلالة .
_التعبير عن بعض المضامين بصورة غيرية حتى لا تثير السلطات السياسية والاجتماعية.
ب_الرمز :
_استقى شعراؤنا من الأساطير اليونانية (سيزيف ، وبروميثيوس ، وأدويسيوس، وبنيلوب ، وأدونيس، وفينوس، وبرسفون) ومن البابلية (تموز ، وعشتروت ) ، ومن العربية (السندباد ، وشهرزاد ، وشهريار، وعنتر، وأيوب ، وقابيل ، وهابيل)، ومن العبرية (المسيح ولعازر ويهوذا) .
_وشكلت الأسطورة عند صلاح عبد الصبور ، والسياب ، وخليل حاوي ، والبياتي ملمحا من أهم ملامح معجمهم الشعري واتجاهاتهم الفكرية ومشكلاتهم االنفسية ، وقد حاول هؤلاء الشعراء أن يكتشفوا في الأساطير (النموذج الأسطوري) الذي يحمل عبء التعبير عن خصيصة من خصائص المجتمع العربي .
وقد كان لكل من هؤلاء الشعراء وجهة نظر في اللجوء إلى استخدام الأسطورة :
*فصلاح عبد الصبور يرى في استخدام الأسطورة محاولة لإعطاء القصيدة عمق أكثر من عمقها الظاهر ، ونقل التجربة من مستواها الذاتي إلى مستوى إنساني جوهري .
لهذا آثر قناع شخصيتي الملك عجيب بن الخصيب ، وبشر الصوفي، وقصيدة القناع قادته إلى عالم الدراما الشعرية حيث بدأ نتاجه المسرحي باستغلال شخصية الحلاج .
وحاول صلاح إخفاء المادة التاريخية بشكل عام .
*أما بدر شاكر السياب ففسر إقبال الشاعر الحديث على الأسطورة بانعدام القيم الشعرية في حياتنا الحاضرة ؛ لغلبة المادة على الروح، لهذا يلجأ الشاعرإلى عالم آخر يحس فيه بالارتياح.
*وفي مقالة لخليل حاوي (الخلق العضوي في نظرية الشعر ونقده)يتضح أن كلية المبنى الفني وتعبير الرمز عن الانصهار الجزئي والكلي في وحدة يستحيل فكاكها ، خصائص واضحة في فن خليل الشعري، ومفتاح محاولته لاستخدام الرموز الأسطورية.
_ثمة وشائج من الاتصال بين بعض الرموز التي قد تبدو متباعدة في الظاهر لاختلاف مصادرها حينًا، أو لبعد دلالتها داخل إطارها الأسطوري والتاريخي ، لكنها داخل الاستخدا م الشعري المعاصر دارت في مجال تعبيري واحد ،على نحو (أوديسيوس والسندباد ) و(تموز والمسيح ولعازر) .
وفي هذا اكتشاف لعنصر هام في الأساطير الكبرى ، وهو وحدة الوجود الإنساني في جوهره ، رغم تشعث مظاهره، وتناثر جزئياته.
_تتردد بعض الرموز في كثير من الأشعار بمعان متقاربة على نحو ماتردد (يهوذا) في التعبير عن الخيانة والندم، ولم يمنع أن تدور جملة من الرموز في إطار دلالات معينة ذات صلة بالتطور الاجتماعي والحضاري الذي كنا نمر به ،على نحو ما نلاحظ في استخدام (المسيح )كرمز شعري .
*ففي شعر المدارس الشعرية قبل الحرب العالمية الثانية كانت الإشارة إلى شخصية السيد المسيح (طيبة،رحمة ،طهارة،نبل )،
أما في مدرسة الشعر الحر ف (عذابه وصلبه وتضحيته)، وقد كثر الوصف والاشتقاق من صيغة الصليب في مدرسة الشعر الحر، وثمة قصائد مستقلة تدور حول معنى الصلب وتتأمل فيما انبثق عنه من مواقف .
_كان خليل حاوي من أبرز الذين وظفوا الأساطير في الشعر، ففي قصيدته (البحار والدرويش)اتخذ من السندباد علما على تجربته الشعرية ،واعتبر نفسه راحلًا أبديًا في سبيل المعرفة ،وقد حاول عبر هذا الرحيل أن يعثر على اللغة الفطرية البكر.
وفي ديوانه (نهر الرماد ) بدأ بالرحيل من أجل المعرفة والبحث عن ماهية الوجود ، وانتهى بذوبانه في نهر الجوع، والتطلع إلى ازدهار الحياة .
وفي (الناي والريح)ديوانه الثاني واصل الإيمان بالبعث العربي ، وانتهى بمعاينة البعث في بشارته لأمته بأنها ستعود إلى سابق ازدهارها .
أما في ديوانه الأخير (بيادر الجوع )فقد بدا مليئا بالألم الكظيم ،كسير القلب والروح ،وهو يعبر عن مرارة انتظاره وسأمه الانبعاث الذاتي العربي .
وداخل هذا الشعار الكلي لتجربته نثر كثيرا من الرموز الفنية واستخدم كثيرا من الأساطير .
_وتأثرا بإليوت في (الأرض الخراب ) وجد السياب في الإيقاع الأساسي للطبيعة في أساطير الحضارات الزراعية الأولى إيقاع تتابع من الجدب والإزدهار ، موت الخضرة وانبعاثها من قلب التربة الموات ، بما يوثق صلتها بصلب المسيح وقيامته ومافي صلبه من معنى التضحية وفداء الإنسانية لتحيا _بعد ذلك _محررة من نار الخطيئة الأولى .
والبعث في قصائد السياب نزعة أصيلة في نفسه وفنه يتجول فيها نفسيا وفنيا من خلال أسطورة من أساطير الانبعاث الكبرى (أسطورة تموز ) مع تأصلها في فنه _مع صلب المسيح وقيامه وتواصل التعبير عن تموز وعشتار ،أو التعبير بجزء من الأسطورة ، واستحضار دلالتها العامة دون مسميات وبهذا تتعدد وسائل التعبير _بأسطورة تموز عند السياب كما تتعدد روافده في التعبير عن فكرة البعث ، مما يؤكد أصالة فكرة البعث في نفسه.
وأكبر ما يتهدد الشاعر في الاهتداء إلى أسطورة كبرى ،وكثرة التعبير بها أن تتحول إلى صيغة عامة جامدة يفقد _بالتعبير بها دقة تصوير مختلف الزوايا النفسية ، وقد حاول السياب أن يتجنب ما يصيب الأسطورة من جمود ، بتطويعها إلى تجاربه المختلفة ، والاستعانة بمصادر أسطورية أخرى ليخصب رمزيتها وينوع دلالتها .
و السياب أكثر الشعراء ورودا على الأساطير ،وأسطورة تموزتحتل مرحلة خصبة من حياته ، أما ما قبل المرحلة التموزية فقد كان السياب يستعين بمختلف الإشارات الأسطورية دون التركيز على أسطورة معينة مثل ديوانيه الباكرين (أزهار وأساطير )، وقد ارتكزت هذه المرحلة في الأغلب على الأسطورة اليونانية ، مع بعض الإشارات إلى المصادر العربية والإسلامية كقابيل ويأجوج ومأجوج ، وفي المرحلة التموزية صاحبه تفتح على المصادر المسيحية وبخاصة حادثة صلب المسيح ، وإحياء لعازر، وفي المرحلة الأخيرة تتنوع الإشارات الأسطورية مع بعض التركيز على شخصية السندباد، وصنوه عوليس كطرف مضاد لشخصية الشاعر وحياته ، فكلاهما جواب آفاق ولكن أحدهما مغامر ناجح والآخر(الشاعر)مفروض عليه أن يرحل عن الديار وأن يجتاز البحار ، مريضا ينشد العلاج .
وكان أيوب هو الرمز الذي أضافه السياب في ديوانه(المعبد الغريق ) و(منزل الأقنان )، غير أن السياب تخلى عن الإشارات الأسطورية ، واعتمد على الغناء الذاتي ،الذي يفيض بالتعبير عن محنة مرضه وانتظاره للموت وعجزه عن الإبداع الفني.
وحاول السياب في مراحله الأخيرة أن يخصب أدواته الفنية باكتشاف رموز الطفولة ، وعلاقاته بالأم والقرية ، وأعطت هذه الرموز لبض قصائده أبعادا بالإيحاء ، واستطاع أن يعثر على رمز للأمل الهارب _بما يتلاءم مع حالته النفسية في (إرم ذات العماد )ولإرم ذات العماد حديث طويل في الأساطير العربية القديمة _فيما قبل الإسلام .
_أما عبد الوهاب البياتي فمنذ ديوانه الباكر (أباريق مهشمة) حاول أن ينثر الإشارات التاريخية والأسطورية مثل :هولاكو، وهارون الرشيد ،ومامون(إله لما في الأساطير اليونانية )وشهرزاد وسدوم وسيزيف، إلا إنه وقع بجملة من العيوب الفنية أهمها:
1_التصوير الآلي للواقع دون محاولة للانتقاء الفني .
2_الشعارات السياسية التي تمتلىء بها رقعة القصائد .
3_الطابع النثري في كثير من القصائد مثل ديوان( عشرون قصيدة من برلين ).
أما في دواوينه الأخيرة فقد اكتشف أكبر عيوبه:إن شخصيته الحادة هي التي كانت تفرض عليه تلك المباشرة ،وعدم الأناة في إنضاج التجربة النفسية ،وفي إنضاج تصويرها، وبابتعاده عن تلك الشخصية في الدواوين الأخيرة دخل عالم الشعر .
_ونثر صلاح عبد الصبور بعض الإشارات في شعره مع اتجاه واضح إلى تجسيد الحالات النفسية كالحزن والحب، متخذا رموزه من الواقع الإنساني ومن الطبيعة ،أما حين لجأ إلى الرموز الأسطورية فقد سار في اتجاهين :
*التماس قناع من شخصيات التراث .
*الاعتماد على نظير مرئي على سطح القصيدة.
وقد اشتبكت أقنعته ورموزه الأسطورية برمزه الأسطوري السندباد .
ج_النموذج :
كثيرا مانرى روح الإنسان وخصائصه العامة في عصر ما متمثلة في أثر فني ،أبدعته عبقرية على جانب كبير من الوعي بحركة التاريخ ، ومن الإحساس بروح العصر.
ولعل أبرز النزعات في مجتمعنا العربي ،هي محاولة الخروج من قيم الماضي الفكرية والاجتماعية ، ومحاولة تحطيم العزلة التي فرضها علينا الاستعمار والاتصال بالعالم ، والاستفادة من خبراته، ومحاولة سبر الوجود العربي ، والرحلة داخل النفس العربية لاستخراج كنزها الدفين .
وحاول الشعراء أن يحلوا هذه النزعات في نموذج فني مستخرج من التراث الشعبي وهذا النموذج هو : (السندباد)
ولعل الشاعر صلاح عبد الصبور كان أسبق معاصرينا إلى استخدام هذا الرمز، وتقمصه في قصيدته(رحلة في الليل)من ديوانه الأول(الناس في بلادي).
وقد سبقت هذا الشاعر إرهاصات باتخاذ ذلك الرمز من أهمها حياة الشاعر علي محمود طه وفنه، ومن أكثر الإرهاصات لفتا للأنظار في أدبنا المعاصر لشخصية السندباد كتابات الدكتور حسين فوزي ومن أهم كتبه الرائدة(حديث السندباد القديم).
غير أن هذه الشخصية انتقلت كنموذج فني إلى عالم الشعر ،وكان لها من الأبعاد النفسية والفنية في شعرنا المعاصر وبخاصة شعر الشاعرين صلاح عبد الصبور وخليل حاوي .
1_السندباد في مرحلته الأولى عند صلاح عبد الصبور :
رحلة السندباد :هي رحلة الفنان ومغامرته في سبيل الإبداع الفني ، وهي الطريق بين التجربة النفسية للشاعر واضطرامها داخل كيانه، وبين وصوله إلى مرافىء الورق حروفا نابضة بعذابه مضيئة برؤيته الجديدة للأشياء.
2_السندباد في مرحلته الثانية عند صلاح عبد الصبور:
السندباد هنا يعيش سأما وتعاسة روحية ، لم تعد تشوقه رغبة ، ويموت رعبا ويحيا توجسا وخوفا لأننا نحيا كما يقول صلاح عبد الصبور في زمن الحق الضائع، فحياة الفنان في المجتمع المعاصر متجمدة ولا إثارة في الأشياء.
3_السندباد في مرحلته الثالثة عند صلاح عبد الصبور :
يحاول صلاح عبد الصبور في هذه المرحلة ألا يجد طريقه عبر العالم الخارجي ، بل يشتق طريقه عبر عالمه النفسي ويرحل في أغوار ذاته ، وفي كتاب صلاح (حياتي في الشعر)حديث عن مرحلة تحول فكري خطير مر بها.
4_السندباد في رحلته الثامنة :خليل حاوي:
كان الديوان الثاني لخليل حاوي يمثل توحد الشاعر بمجتمعه العربي ، ويتجلى أوضح ما يكون هذا التوحد في قصيدته (السندباد في رحلته الثامنة) التي تمثل رحلة في عالم اللاوعي ، يجوس فيها الشاعر دروب نزعاته الخفية ، ويستجلي معالمها العميقة ، فقصيدته تلك مثال موفق لحلول الشاعر في قلب أمته العربية ، وشفافية سماته النفسية، ورموزه الفنية عن شخصيتها الراهنة بكل نقائصها وتطلعاتها ، وعن مكوناتها التاريخية بكل ما كان لها من قدرة على الاتصال بجوهر الوجود، وحمل لأعباء النبوة في شخصية نبيها العربي ، الذي مر الشاعر في رحلته بتجارب من النقاء والتطهر تشبه تجاربه ، وقد التفت السندباد ، حين وصل إلى لحظة التطهر والاستعداد لتقبل الرسالة ، إلى النموذج المحمدي وقد أتى إليه ملاك الرب ، وشق صدره ، وأزال عنه هواجس الشيطان ،أما هو فقد عانى تجربة رهيبة حين رأى أن هذه الرحلة الاستطلاعية تفرض عليه أن يبتر أحد أعضائه ، غير أنه تجلد للمحنة .
لقد كانت هذه الرحلة تشف في ذات الشاعر عن معاناة مرة في استكشاف سرائر أمته ، وما يسري في أعماق كيانها من وهن وتصدع ، بعيدا عن التقريرية والمباشرة والتجاء إلى الرموز التاريخية والأسطورية.
ومن النماذج الأخرى الموظفة في شعرنا :
2_بشر الصوفي :صلاح عبد الصبور:
يميل صلاح عبد الصبور في شعره إلى المراوحة بين وسائل الحس ، ووسائل التأمل الباطني ، ولذلك تلمس قناع رجل صوفي شهير جاء في الأثر عنه :
"أبو نصر ، بشر بن الحارث ، كان قد طلب الحديث ، وسمع سماعًا كثيرًا ، ثم مال إلى التصوف ، ومشى يومًا في السوق ، فأفزعه الناس ، فخلع نعليه ، ووضعهما تحت إبطيه ، وانطلق يجري في الرمضاء ، فلم يدركه أحد".
ونغمة القرار في توظيف هذا القناع ، هي فقدان الإنسان لمعنى الحياة ، ولوسيلة توافقه مع الوجود ، فقدانه للشيء الذي يريد ، مع ارتطامه بأشياء لا يريدها .
واستطاع صلاح بوسائل فنية ك (الحوار الداخلي ،والحوار النفسي، والتجسيد)أن يحقق هدفين :
1_أن نعيش في قصائده داخل القناع التاريخي والصوفي الذي اختاره،فنعيش في بيئته وملابساته وفي ملامحه النفسية .
2_أن نستشف _عبر هذا القناع _آراء الشاعر واتجاهاته.
نماذج أسطورية لدى البياتي :
3_ الحلاج :
من أهم ملامح الحلاج التي صيغت منها قصيدة البياتي(عذاب الحلاج) من ديوانه (سفر الفقر والثورة) ، الثورة على السلطة الغاشمة ، والتعاطف مع الفقراء ومسلوبي الحقوق.
ولعل أهم ما حدث للحلاج في حياته حقيقة هو تلك النهاية الفاجعة بصلبه في بغداد بعد إثارة الجماهير عليه ، وحاول البياتي أن يضفر من هذه القسمات مع قسمات أخرى من حياته ،وتجربته الذاتية ،وجودا فنيا لا ينتمي لزمن معين.
4_ أبو العلاء :
كانت محنة أبي العلاء المعري في الحقيقة هي المجتمع الذي تستشري فيه مأساة الأخلاق، ومأساة الظلم ، نتيجة لخلل في تركيبه، وفقدان الأسس الصالحة لبناء اجتماعي قويم .
وذلك هو المحور الذي اعتمد عليه البياتي في القناع الثاني من ديوانه(سفر الفقر والثورة)تاركا البعد الثاني في فلسفة أبي العلاء المعري التي تشف عنها مجموعة أشعاره (التشاؤم ، رفض الحياة)
إن من آصل ملامح الرمز الفني في هذا المجال أن يجتاز تخوم الزمن ، واتجاه البياتي إلى النموذج الفني يطور فنه الشعري ويعمق غاياته الإنسانية ،ويخلصه من الشوائب التي كانت تتبدى في قصائده الغنائية .
ج-الحكاية
إن ما في الأسطورة من عنصر القص قد لفت شعراءنا ، فحاولوا وخاصة شعراء مدارس ماقبل الحرب العالمية الثانية أن يصوغوا شعرا عربيا فيه بعض الحكايات الأسطورية من مصادر مختلفة ، وأذكر هنا طرفًا من هذه الحكايات:
1_حكايات الحيوان _شوقي :
جمع ناشر الجزء الرابع من الشوقيات ، نحوا من خمسين قطعة ، نشرت مستقلة فيما قبل بعنوان (منتخبات من شعر شوقي في الحيوان ) دون تتبع لتواريخ القصائد أو محاولة تحري المناسبات الفردية والجماعية التي كانت بعث إنشائها .
بيد أن هذه الحكايات تحمل مضمونا اجتماعيا وطنيا واضحا،ويبدو أن (شوقي) قد ألف هذه الحكايات في فترات متباعدة، ومناسبات مختلفة ، إذ اختلف مستواها الفني ، فصدر شوقي بعض الحكايات بالعبرة منها ، كما عقب على أخرى بخاتمة وعظية ، ولعله قد أضاف بهذه الحكايات إلى فننا الشعري كثيرا ،حيث أخضع لغته لتصوير التفاصيل الصغيرة ،ولإجراء الحوار البسيط على ألسنة الحيوان .
2-من الأدب الشعبي _خليل مطران :
أكثر خليل مطران من استيحاء الواقع الإجتماعي في أقاصيص فنية (مقتل بزر جمهر ، واللبن والدم ) ،حتى ليعتبره مندور رائدا للشعر الموضوعي ، وقد حرص على أن يوثق صلة قصصه بالواقع الإجتماعي ،فأطراف قصصه السابقة هي الحاكم الظالم ، والأمة المستذلة ، والمفكر ...رمز الرفض الإنساني الخالد.
ويلاحظ في قصصه أنه يتخلى عن التعبير بالصورة الشعرية وهي في الحقيقة مشكلة في قصصنا ومسرحياتنا الشعرية .
ففي قصي
3_من الكتاب المقدس: إلياس أبو شبكة :
في أفاعي الفردوس يستوحي إلياس أبو شبكة حكايتين من حكايات التوراة (شمشون وسدوم ) تدوران حول الغريزة الجنسية، ومدى ما تصل به الإنسان من نسيان للقيم والفضائل وغفلة عن مذاهب القوة والحق .
ويتبين الشاعر أن المهم ليس الوقوع على المادة الفنية للشعر مهما كان هذا الوقوع موفقا ، بقدر أهمية التناول الفني، واستخراج الدلالات أو الأبعاد الفكرية والشعورية في تلك المادة من خلال توظيفها في عمل فني ، وليس من خلال صياغتها ونقلها من إطارها النثري إلى إطار نظمي .
4- من الأساطير :أحمد زكي أبو شادي :
للشاعر أحمد زكي أبو شادي محاولات تجريبية كثيرة في الشعر ، فقد حاول أن ينشىء القصة الشعرية والأوبرا ،وله محاولات شتى في تنويع القوافي والأوزان ،وصل بها حينا إلى الشعر المرسل.
وفي مجال الإستفادة من التراث الأسطوري ،وجدناه يتجه إلى الأساطير اليونانية والفرعونية في قصائده:أورفيوس ويورديس،هرقل،ودنيال في جب الأسود وغيرها .
وسواء أأجاد أبو شادي أوغيره نظم الأساطير أم لم يجد ، فإن النظم ليس غاية الشاعر من العودة للأساطير ، وإنما يعود إليها يعود ليتخذ من لغتها وأجوائها وشخصياتها ، وسائط فنية _أثبتت قدرتها على التأثير في النفس الإنسانية عبر مختلف العصور.
_ترجمة الأساطير :
الترجمة وجه من وجوه الإستفادة في الشعر العربي من الأساطير ،ومن الأدب الغربي الذي دار حولها .
وقد ترجم المازني قصيدة (الرعي المعبود )، وترجم العقاد في الجزء الأول من ديوانه (فينوس على جثة أدونيس ) لشكسبير .
هذه ألوان من الاستفادة بعنصر الحكاية في التراث الشعبي _أساطير أو حكايات شعبية كما فعل أحمد زكي أبو شادي ، أو ترجمتها كما فعل المازني والعقاد تكون أهون صورها ، ولعل محاولة إعادة تشكيلها وتركيزها حول محور يشع بغاية الشاعر ، ومضمونه العصري ، كما فعل شوقي في قصص الحيوان ، ومطران في الحكايات الشعبية تكون أعلى قيمة ، وإن كانت أقل في قيمتها الفنية _بصورة عامة_ من تغلغل الأساطير وروحها في الأعمال الشعرية المعاصرة ، كتغلغل أسطورة تموز في شعر السياب .
5_ظواهر ثانوية في الاستفادة من الأسطورة :
1_النظير الأسطوري :
وهو أحد المناهج التي دعا إليها صلاح عبد الصبور في الاستفادة من الأسطورة ، متأثرا خطى إليوت_واتبعها في بعض شعره.
حيث يعمد إلى تجسيد الحادثة أو الموقف الأسطوري أو التاريخي القديم دون ذكر أسماء ، أو أماكن توضح هذه الإشارات، تاركا دلالتها تلعب على مستويين: مستوى العطاء العفوي داخل النسيج الشعري ، ومستوى استثارة هذه الأحداث والمواقف الأسطورية وابتعاث دلالتها .
2_البناء :
حاول الدكتور أبو شادي الاستفادة من بعض أوزان الزجل ليكتسب الشعر عن طريق هذه الأوزان ما في الزجل من خفة ورقة روح ، وحاول كامل أيوب الاستمرار في هذه الاستفادة منتقلا من الاستفادة الجزئية في الوزن إلى اكتشاف عناصر التكوين الدرامي للأغنية الشعبية وللموال ومحاولة إثراء القصيدة بالمفردات الريفية .
غير أن هذه المحاولات ما تزال في حاجة إلى الصقل.
الفصل السادس الأسطورة في المسرحية الشعرية ):
تمهيد : مسرحنا الشعري:
منذ المشاهد الحوارية التي كان يمثلها الكهنة أمام ساحات المعابد في مصر القديمة _ والتي كانت تستمد موضوعاتها من العقائد والأساطير ،وبخاصة أسطورة الإله المعذب أوزيريس وزوجة الوالهة إيزيس _ ظلت صلة الفن المسرحي بعالم الأسطورة مستمرة عبر الزمن فكان المسرح الإغريقي يرى في الأساطير منبعه الثر .
وحين التفتنا إلى ذلك الفن وكان علينا أن نشارك في إنتاجه ، كانت_ (أهل الكهف)و(بجماليون)و(أوديب)لتوفيق الحكيم ولباكثير _سيراعلى طريق عالمي ممهد واحتذاء لتقليد مسرحي أصيل.
لكن شوقي كان هو بداية التأصيل لهذا الفن في شعرنا المعاصر ،وله مجموعة من المسرحيات الشعرية ، يدور بعضها حول التاريخ المصري القديم والحديث (مصرع كليوباترا ،وقمبيز،وعلي بك الكبير)، وتستقي(مجنون ليلى ،وعنترة) من الحكايات الشعبية التي نسجها الخيال العربي حول حب قيس بن الملوح لابنة عمه ليلى وتفانيه في هذا الحب ، وحول سيرة عنترة وبطولته.
وتابع شوقي عزيز أباظة ، فتعددت مسرحياته كما تعددت موضوعاتها وتنوعت مصادرها ، فمن مسرحيات تدور حول الأساطير الأدبية ، والشعبية كمسرحيته (قيس ولبنى)و(شهريار) إلى مسرحيات تستقي أحداثها من التاريخ ، وتدور حول فترات هامة، وشخصيات نادرة كمسرحياته عن العباسة ،والناصر، وشجرة الدر، أو مسرحيات تستلهم الواقع الإجتماعي وتحاول أن تمس قضاياه كمسرحية (أوراق الخريف).
وبالإضافة إلى شوقي وعزيز أباظة كان الشاعر علي محمود طه ، والشاعر سعيد عقل يحاول كل منهما أن يَرِد هذا المورد فاستلهم علي أسطورة فرعونية (أغنية الرياح الأربع) ، واستلهم عقل أسطورة فينيقية عن إيروب وزوس وقدموس غير أن النتاج الشعري ما لبث أن أسلم زمامه للقصيدة الغنائية حينا من الزمن ..ولم يرتد إلى محاولة (المسرحية) إلا حين نشط عبد الرحمن الشرقاوي .
ثم كانت المحاولة الجادة (مأساة الحلاج ) لصلاح عبد الصبور .
ولعل تناول بعض المسرحيات ، والكشف عن المادة الأسطورية فيها ، يعطي القارىء صورة لاستخدام شعرائنا المعاصرين للأساطير في مسرحياتهم ، وفيما يلي نعرض لكل مسرحية من هذه المسرحيات :
1_مجنون ليلى :
استقى أحمد شوقي أحداث هذه المسرحية من الحكايات الشعبية المنسوجة حول قيس العامري لابنة عمه ليلى _ولو أنه ترك من الأخبار ماكان يغني المسرحية ،ووشح هذه الحكايات بما عرف عن العرب من عادات وخرافات وأساطير ،خاصة تجسد عالم الجن في خيالهم وآثاره في حياتهم وقيامه بالإلهام لشعرائهم لكان أجدى .
والملاحظ أن مضامين شوقي كانت قريبة الغور ولم يستغل المادة الأسطورية استغلالا جيدا ، فظهر التناقض الواضح بين تقديس العادات في بداية المسرحية ، ثم الارتداد عنها في نهايتها ، وإقحام الفصل الخاص بالجن دون صهره في الكيان الفني للمسرحية ، والتقاط الجوانب السلبية في شخصية قيس وشخصية ليلى ، والانتهاء بموت الحبيبين على نحو لا مسوغ له.
وقد كان هدف المؤلف من هذه المسرحية الإشادة بالنبل العربي والتغني بسمو العرب وتضحياتهم بحياتهم ، في سبيل رعاية التقاليد كما حدث لقيس وليلى.
2_عنترة :
إن ما قدمه شوقي في هذه المسرحية كان متواضعا ، فهو لم يحسن استغلال المادة الأسطورية والتاريخية التي بين يديه في بناء المسرحية وتصوير الشخصيات ،ولم يكن موفقا في ترك شخصيات على جانب كبير من الأهمية ، ولم يحسن الاستفادة من الشخصيات الثانوية كصخر ووالد عنترة ، ولم يبد صراع البطل النفسي والاجتماعي إلا لمحا.
3_قيس ولبنى :
وقد كان مصدر عزيز أباظة في هذه المسرحية جملة من الأخبار التي رويت عن قيس بن ذريح في الأغاني،واستفاد من الشخصيات والموقف في مسرحية شوقي (مجنون ليلى ).
4_شهريار _عزيز أباظة:
كان حظ هذه المسرحية من استخدام المادة الأسطورية ضئيلا حيث وافق ألف ليلة وليلة فيما كان عليه أن يخالفها فيه وهو إسلامية مجتمع شهريار ، وخالفها فيما كان عليه أن يوافقها فيه وهو تكامل شخصية شهرزاد بالبهاء الروحي والجمال الجسدي على السواء ، بينما لجأعزيز إلى تقسيمها إلى شخصيتين تختص كل منهما بنزعة واحدة .
5_أغنية الرياح الأربع _علي محمود طه:
يمكن القول أن (علي محمود طه ) في هذه المسرحية استطاع أن يطور المادة الأسطورية التي بين يديه ، وأن يستفيد من علمه بالتاريخ القديم ، وبالعلاقات البحرية التي كانت قائمة بين مصر واليونان والشاطىء الآسيوي ، وما كانت تتعرض له السفن من غزوات القراصنة .
إذ كان طابع التعبير في المسرحية ينتمي إلى علي محمود طه نفسه ، بما نعرفه عن شعره الغنائي من رقة وأناقة دون مراعاة لضرورة تغير الأساليب وتنوعها طبقا لتنوع أشخاص المسرحية واختلاف مستوياتهم النفسية والفكرية، فثمة قِطَعٌ صيغت على لسان القرصان ، بينما يعز نظيرها إلا على لسان شاعر كباتوزيس ، وقد ظل إخضاع اللغة الشعرية لطبائع، ومستوى الشخصيات عقدة العقد في المسرحية الشعرية إلى أن ظهر الاتجاه (الواقعي)في آدابنا بعامة.
وحاول الشعراء في قصائدهم الغنائية الإقتراب من لغة الواقع ، وأن يبسطوا اللغة الشعرية ، وأن يتخلصوا_ في مدرسة الشعر الحر_من وحدة البيت وضرورة القافية اللتين تمنحان لغة الشعر نمطية خاصة تبعده عن لغة الحديث اليومي .
بيد أن مرحلة المواءمة بين اللغة والشخصية في المسرحية الشعرية بما مهد إليها التطور الإجتماعي والاتجاه نحو الواقعية مرحلة متأخرة عن علي محمود طه .
6_قدموس_سعيد عقل:
في قدموس يتناول سعيد عقل أسطورة إغريقية تمس هدفا خاصا ،جعله عقل بالإضافة إلى التعبير من خلال (الرمزية) )رسالة حياته..ذلك الهدف هو التعصب للفينيقية والعودة إلى تاريخ لبنان القديم وقت كان مركزًا من مراكز الإشعاع الحضاري في العالم .
الفصل السابع(الأسطورة في المطولة الشعرية) :
أفرد المؤلف هذا الفصل لبعض المطولات التي نشرت أحيانا تحت أسماء الملحمة أو المسرحية ولم تكن
تمثل أي من هذين الفنين بل كانت (قصيدة ممتدة بالطول) تستفيد من عناصر تلك الفنون :
1-مطولة نيرون _للشاعر خليل مطران :
نيرون هي أكبر قصيدة متحدة الروي والموضوع عرفتها العربية ، وهي فوق أنها نموذج نادر تحمل دعوى نقدية خطيرة ما زال جيلنا في حاجة إلى تفهمها ، وهي أن اللغة العربية قادرة وهي في قيودها العروضية _على الوصول إلى أسمى غايات التعبير الشعري عن أكثر الموضوعات تركيبا وطولا وعمقا ، وبالتالي فإن اللغة العربية أكثر قدرة على ذلك حين تتاح للشعراء فرصة التخفف من هذه القيود.
وتتخذ هذه المطولة محورها(علاقة الأمة بالسلطان الجائر ) ومسؤولية الشاعر في إيقاظ الغافلين ، ولقد اختار مطران كما قال موضوعا تاريخيا رائعا ، والحقيقة أنه اختار موضوعا يقف بين التاريخ والأسطورة ويتنازعه الواقع والخيال معا .
فكاليجولا ونيرون والحاكم بأمر الله وقراقوش من بين الحكام شخصيات فنية نادرة ، بغض النظر عن وجودهم التاريخي وحقيقة الأحداث التي نسبت إليهم .
ونيرون كان حاكما طاغية ، وكان فظ الطبع، وحقودا ، وقد غدر بأقرب الناس ( أمه) ، وكان شاذا في قسوته حتى لقد قيل إن أحرق روما ليتلهى بمنظر نيرانها المشتعلة ، ووقف يتغنى بقيثارته على لهب الحريق.
ذلك جماع ما يقوله التاريخ عن نيرون ، وهو أيضًا جماع ما يعرضه مطران في قصيدته ، وبهذا يتطابق ما ورد في التاريخ والقصيدة ، غير أن مطران بروح من الفن عالية ، قد جعل من عرضه لذلك التاريخ خلقًا فنيًا جديدًا ، من خلال إعادته لترتيب الأحداث ، وعرضها ، وربطه الخيال بالواقع ، بعيدًا عما يسمى نظم التاريخ واستخراج العبرة منه .
أما محور المطولة الذي جعل كل حديث مهما طال يومىء إليه ، أن الأمة دائمًا باستسلامها تصنع من الحاكم القزم عملاقًا ، ومن خائر الهمة طاغية لا يقيم وزنًا لأي من مقدساتها ... و يعول عليها تبعة تقويم الحكام .
وقد تأثر إيليا أبو ماضي في قصائده بهذه المطولة ، التي تتخذ محورها علاقة الأمة بالسلطان الجائر ، ودور الشاعر في إيقاظ الغافلين.
2_المجدلية _سعيد عقل :
في المجدلية يلتقي جمال الروح والجسد ، بل يذوب جمال الجسد في رؤى وأطياف روحانية ، تمهيدا لتجردها لذلك الحب العظيم الحب الروحي الخالص، فسعيد عقل يريد أن يقدم لنا صورة الجمال الباهر الذي فتن البشر (المجدلية)، ثم انقاد إلى حب المثال الأعلى (المسيح) .
أراد سعيد عقل أن يحدث تطبيقا للمذهب الرمزي في لغة غير لغته، بل في لغة اشتهر عنها خطأ أنها لغة الخطابية ، وأن أظلال المعنى تختفي فيها .
وقد خالف الأصل الديني لهذه الحكاية ، فلم نكن أمام أحداث ، بل أمام جو تحاول المهارات الرمزية أن تحيينا فيه ، فتلك المرأة المؤلهة التي صورها بعيدة عن أي مريم في الواقع والتاريخ ، لأنها وليدة رؤاه الشعرية .
3_أرواح وأشباح _علي محمود طه :
أوجد علي محمود طه بطله الأسطوري في جو يتصل بمجموعة شخصيات معروفة في التاريخ والأساطير كسافو الشاعرة اليونانية الشهيرة ، المتدفقة بالقصائد الغنائية الحادة والعذبة ،التي كانت تقدس الجمال أينما كان حتى قيل لقد كانت تنتقي الفتيات الجميلات من تلميذاتها وتؤثرهن بمحبتها، وتجعلهن موضوعا لتجاربها الشعرية وتودعهن لدى زفافهن_بأحر أغنيات اللوعة والحرمان .
وكتاييس الراقصة الأثينية ، وهي ليست راقصة الاسكندرية الشهيرة التي تركت بصماتها على الأدب العالمي ، وأقرب ما يتوارد للذهن عنها قصة أناتول فرانس العظيمة(تاييس)التي صور حياتها الحافلة بالعشق والملذات ، وقد انتهت إلى صورة من النقاء الروحي والتطهر النفسي ،سارَعا بها إلى الدير في أطراف الصحراء.
وكهرميس قائد الأرواح في العالم الآخر في الأساطير اليونانية .
وقد استعان الشاعر بنسيجه الشعري بالإشارة إلى أحداث تاريخية وأسطورية أخرى ، كإشارته إلى مانا وهو أعظم آلهة الطابو، وأشدهم انتقاما في عقيدة بعض قبائل السود المنتشرين في شاطىء العاج الإفريقي ، وبعض جزر الشرق النائية .
وأشار إلى السامري الذي صنع العجل من الذهب في غيبة موسى _ليعبده بنو إسرائيل ، مشيرًا إلى أن مجد هذا الشعب كان في الانغماس بالمادة ، والبعد عن دعوات المثل العليا .
وأفاد من أسطورة أورفيوس :إله الموسيقى في أساطير الإغريق ،الذي كان يحرك الجماد والنبات بألحانه ،وتهرع الحيوانات مستكينة عند قدميه ،مصيخة أسماعها لعزفه الساحر.
أما جوهر (أرواح وأشباح) هو علاقة الشاعر بالإلهام الشعري ، وبمثيرات هذا الإلهام وأهمها المرأة ، وهي فكرة رومنتيكية غير بعيدة عن علي محمود طه الرومنتيكي النزعة والفن .
4_ أدونيس وعشتروت_فؤاد الخشن :
فؤاد الخشن من جيل الشعراء الذين ظهر عطاؤهم الشعري بعد الحرب العالمية الثانية ، وله قصائد غنائية رقيقة ، وفي فنه تلتقي مؤثرات الرومانتيكية والرمزية .
ومن بداية هذه المطولة الشعرية كانت النزعة الوطنية مبعث عودة الشاعر إلى ذلك التراث الأسطوري الخصب، الذي كان لبنان مهدها في القديم .
وقد حاول فؤاد الخشن صوغ الأسطورة في شعر عربي ، حرص على عذوبته وصفائه ، مستفيدا بما سبقه من تراث عربي متأثرا بالرومانتيكية والرمزية ،في الطابع العاطفي للأولى ، وفي استخدام عناصر الإيماء في الصياغة الشعرية في الثانية، فبدت مطولة ثرية بأناقتها اللغوية ، معبرة عن عواطف الحب الجياشة عند(عشتار وبرسفون وأدونيس ) ، ومصورة لمشاعر الفرحة في أعياد الربيع وسعادة الإنسان بعودة الخصب والازدهار ليابس الأرض وجرداء التلال .
وفي المطولة تصوير موفق لعالم الأرباب الأولمب، ولعالم الموتى ونشيجهم الخفي ، وأحلامهم المكبوتة، ومحاولة للتأمل في حقيقة الموت ودلالته.
ولم يستطع الشاعر _كما استطاعت الأسطورة _أن يمزج بين شخصية (عشتروت )وتشوقها إلى الحب ، وبين عناد الأرض الجرداء وانتظارها مواسم الخصب، كما لم يستطع الشاعر أن يستلهم الجوانب التأملية في الأسطورة .
إن الماضي الغنائي للشاعر حين يتخيل الصور الموحية ، والتعبيرات الشائقة قصر به عن البناء الدرامي لشخصيات المطولة، وعن استغلال مواقف الصراع في تطور الأسطورة .
إلى هنا تم عرض الكتاب ، ويبقى لنا أن ننتهي من حيث بدأ المؤلف بقوله مصرحًا بغاية هذا البحث :
" أن يكون أول دراسة تضع ظاهرة الأسطورة في الشعر العربي المعاصر في ضوء مصادرها ، والمؤثرات الأجنبية في الاعتماد عليها ، في الأبنية المختلفة ، قصيدة ، ومسرحية ، ومطولة شعرية " .
ولعل هذا الهدف هو الذي جعل المؤلف بعيدًا عن صلته بما ألف وقيل في هذا الموضوع وإن لم يفرد له مؤلفًا ، ذلك أن جمع شتات الموضوع ، لا يستوي لشخص انقطع عن ماضي أو تلبس به مقلدًا ، وإنما يتحقق الهدف بالبدء بما انتهى عنده السابق، ضمن رؤية إستشرافية تجلي جوانب الموضوع .
أما المنهج الذي اتبعه المؤلف حسبما أشار فهو " منهج خدمة النص الأدبي " أو " منهج الرؤية الداخلية للنص" ، ولكن المتتبع لقراءة المؤلف للنصوص يظهر له ، أنه أضاف لهذا المنهج ما هو خارج من إطاره، ـ بحديثه عن خلفية النص ، وبواعثه ، وغاياته ، والعودة بنا إلى مصادر الأسطورة ، مع أن المفترض أن يبدأ بالنص وينتهي عنده .
وادعاء المؤلف باصطفاء النص الأدبي الجيد أرى أنه بحاجة إلى إعادة نظر ، فهناك إقحام لبعض النصوص الضعيفة ، وإن عوّل المؤلف بإيرادها على شهرة قائليها ، وهذا الضعف نابع بالدرجة الأولى عن حياد الشاعر عن التوظيف الجمالي للأسطورة، والتوجه إلى غايات اجتماعية أوسياسية أو تاريخية أو دينية ، أو حتى إقليمية ، حتى غدت القصيدة وثيقة أبعد ما تكون عن الفن الأصيل .
أما مجال البحث التطبيقي فهو أقرب إلى الشرح اللغوي البسيط الظاهر ، دون الغور إلى ما وراء اللغة من مدلولات خفية ، حتى غدا القارىء يكتفي بقراءة القصيدة ، دون النظر إلى ما يعقبها من تحليل ، لأنه يجد نثرُا بالألفاظ لما قد سبق نظمه .
وتبقى الخاتمة التي اعتدنا أن تكون خلاصة ما وصل إليه الباحث من فكر ومنجزات ، إلا أن المؤلف وللأسف يتركنا لنستخلصها عنه ، عندما يعيد لنا في الخاتمة خطته بالبحث وهي التي يفترض أن تكون في المقدمة.
كل هذا لا يقلل من شأن هذا البحث الجاد في موضوعه ، وهو يطلعنا على صورة الأسطورة في الشعر العربي الحديث ، ويفتح لنا آفاقًا جديدة للبحث والنظر.
ــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر :
1_ الأسطورة في الشعر العربي الحديث ، أنس داود ، دار المعارف ، القاهرة، ط3 ،. 1992
إعداد : هدى محمد قزع