يعرف الحب الرفيع أو حب الفُتّوة Courtly love بأنه " مجموعة قواعد تواضع الناس عليها في أواخر العصور الوسطى بأوروبا خاصة بما ينبغي أن يتبع من سلوك في مغازلة الفرسان أو الشعراء لكرائم السيدات ويقرب هذا من الهوى العذري عند العرب " (1).
وقد عرف جاستون باري Gaston Paris الحب الرفيع بأنه الحب الذي يخاف الحبيب فيه دوماً أن يقوم بأي شيء يغضب حبيبته أو يجعله غير جدير بحبها ؛ ومركز الحبيب هو مركز أدنى من حبيبته ، فحتى أعتى الفرسان والمحاربين يرتجف حباً في حضور حبيبته .
أما من ناحيتها ، فهي تعمل دائماً على جعل حبيبها غير واثق أو مطمئن تماماً من عاطفتها نحوه ، عن طريق سلوك نزق متعالٍ .
والحب هنا هو مصدر شجاعة وسمو ، وإن لم يكن عفيفاً بالضرورة ، فكثيراً ما تكون الحبيبة متزوجة ، وتعمل قسوة الحبيبة الظاهرية على اختبار شجاعة الحبيب وصبره وقوة احتماله ، والحب الرفيع ، مثله مثل الفروسية ، هو فن له قواعده الخاصة به ، وهو في معظمه حب نزوى ، يائس ، ويكون طرفه حبيبة قصية المنال ، محجوبة أو متزوجة (2) .
وقد ظهرت مفاهيم هذا الحب وغيره عند ابن حزم 994_ 1064 في كتابه طوق الحمامة الذي ترك أثراً بالغاً في صور الحب ومفاهيمه في الأندلس وأوروبا منذ تأليفه (3) .
وعدد روجر بواز roger boase في كتابه "مصادر الحب الرفيع ومعناه " أصول الحب الرفيع وحصرها في سبعة مصادر محتملة هي :1_ العربي الأندلسي ، 2_ تقاليد الفروسية ، 3_ ديانة الكاثار المسيحية ،4_ الأفلاطونية الجديدة .
5_تقديس السيدة مريم العذراء ، 6_ طقوس الربيع الفولكلورية ، 7_ التقاليد الإقطاعية (1) .
وهو يذكر أن نظرية الأصل العربي للحب الرفيع هي أكثر الفرضيات احتمالاً وقبولاً ، بيد أنها لقيت معارضة من عدد من الباحثين الغربيين ، ويُرجع المؤلف ذلك إلى النعرات القومية ، والاعتقاد بأن الحضارة الغربية قد ورثت مقوماتها من الثقافة الهيلينية والرومانية القديمة (2).
وكان الباحث الإيطالي جياماريا باربيري Giammaria Barbieri (1519_ 1575) هو أول من دافع عن النظرية القائلة بأن العلاقات مع إسبانيا العربية قد ساهمت في نشأة الحب الرفيع في القرن الثاني عشر، ويضيف أن هذه النقلة الأدبية قد حدثت عام 1112، حين تولى رامون برنجر Ramon BERENGUER كونت برشلونة ، كونتية إقليم بروفانس مما أدى إلى توحيد المقاطعتين ثقافياً وحضارياً (3).
ثم شهد القرن الثامن عشر مدافعين آخرين عن الأصل العربي للحب الرفيع ، منهم الإسباني جوان أندريس Guan Andres (1782- 1822) ، والألماني فردريك بوترفرك Friedrich Bouterwek ، وقد اعتمدا في أبحاثهما على المرجع الشامل الذي نشره ميجيل كاسيري Miguel casiris خلال الأعوام 1760_1770 بعنوان Biblioteca Arabico-HISPANA Escorialensis وهو عبارة عن كتالوج بالمخطوطات العربية في مكتبة الإسكوريال الإسبانية ، وقد مثل هذا المرجع أساسًا هاماً اعتمد عليه الباحثون لإثبات الأصول العربية لكثير من الموضوعات والأفكار ، من عناوين المخطوطات والكتب التي وردت في الكتالوج (4) .
ونجد في القرن التاسع عشر متحمسين آخرين لفكرة الأثر العربي في الحب الرفيع ،منهم سيموند دي سيسموندى j.c.l Simonde de Sismondi ( 1773_ 1848) إذ يقول : إن القصص العربي هي مصدر تلك الرقة والرهافة في المشاعر تجاه المرأة التي سادت عصور الفروسية الأوروبية .
والفروسية _ التي كانت روح الأدب الجديد في ذلك الوقت _ هي مستورد عربي لم يرتبط في بادىء الأمر بالنظام الإقطاعي ، فقد أدخل رايمون برنجر ومن تبعه إلى بروفانس روح الحرية والفروسية مع العلوم العربية التي وفدت إلينا(1).
أما الباحث ديليكلوز E.j.Delecluze فيقول عام 1846 إن النظرة إلى المرأة بوصفها رمزاً مقدساً قد انتقلت من الشعر العذري والشعر الصوفي العربي الإسلامي ، عير إسبانيا وعن طريق الصلات التي حدثت إبان الحروب اللصليبية إلى أوروبا .
كما تناول المستشرق الألماني فون هامر بيرجستال j.Von Hammer –purgstall أحد باحثي ومترجمي ألف ليلة وليلة موضوع الأصل العربي للفروسية الأوروبية (2).
وفي مقابل ذلك ، قدم جون ولكوكس John Wilcox و ك.س. لويس C.S.Lewis تعريفاً دقيقاً للحب الرفيع وعناصره تمثلت في : تعبد الحبيب في محراب حبيبته ، ومشاعر الحب الحر ، ثم التسامي بها عن طريق أنشطة الفروسية ومخاطراتها ، وقد تم تفسير الحب الحر بأنه التعبير العفوي التلقائي للرغبة المتبادلة التي تبرز في وجه الضغوط الاجتماعية والدينية والاقتصادية(3) .
وهذا هو ما كان يحدث في الحب العذري العربي ، بإضافة تقاليد القبيلة والأسرة ،وقد كان الحب الرفيع نبتاً غريباً في وسط المجتمع الأوروبي عند ظهوره ، ففي الوقت الذي ظهر فيه ، كانت كنيسة العصور الوسطى لا تشجع فكرة السمو بالمرأة ووضعها موضع التقديس في العاطفة الغرامية ، ولم تكن الرغبات الحسية _مهما بلغت درجة صدقها ومشروعيتها _تعتبر من العواطف النبيلة ، ولم تكن الكنيسة تشجع عواطف الحب العارم حتى ضمن نطاق الزواج ، بل نظرت إليه نظرة غير أخلاقية ؛ فالزواج كان هدفه الحفاظ على النسل وحسب (4).
وأكد كريستوفر دوسون Christopher dawson في دراسة له بعنوان أصول الأعراف الرومانسية 1935 على أن المقاييس الأخلاقية للمجتمع البروفنسالي في القرن الثاني عشر لم تكن نفس المقاييس الدينية ، وأن
الملاحم الوطنية التي نشأت في الشمال الفرنسي وما وراءه لم تتبد فيها ملامح المُثل العليا الجديدة للفروسية والحب الرفيع إلى أن انتقلت إليها تلك المثل بعد ذلك من الجنوب (1) .
ويوضح هنري بيريز Henri Peres أن مخاطبة الحبيبة باسم المذكر ، وإخفاء شخصية الحبيب ، ودور الرقيب ، والعذول ، ومساعي الوسيط بين المحبين ،كلها بصمات عربية خالصة (2).
و بقي جدل الأثر العربي في الحب الرفيع قائماً ، إذ ظهرت أبحاث معارضة وأبحاث مؤيدة ؛ ودخل في تلك الأبحاث أثر ابن سينا (رسالة في العشق) ، وابن رشد ، وابن حزم في تطور مفاهيم الحب لديهم ، وبرز نقاد يفرقون بين الحب الرفيع Amour courtiosوالحب الفروسي Amour chevaleresque من مثل رينيه نيلي Rene Nelli 1963 ، ونقاد يحللون الحب الرفيع في أضواء فرويدية كريتشارد كوينزبرخ Richard Koenigsberg 1967 يتحدثون فيها عن السادية والماسوشية (3) .
ومن بين كل تلك النظريات والاتجاهات ، ما تزال نظرية الأصل العربي والأندلسي للحب الرفيع هي النظرية ذات الأصل المنطقي حتى وقتنا الحاضر .
ترجمة من كتاب :
The origin and the meaning of courtly love , a critical study of European scholarship , roger boase ,Manchester university press,1977
هدى محمد إبراهيم قزع