بعد الحرب العالمية الثانية التي تلطخ خلالها الضمير الألماني بالذنوب والآثام، اهتم كارل ياسبرز بمواضيع من قبيل " مسألة الذنب"،"فكرة الجامعة"، "القنبلة الذرية ومستقبل الإنسان"، ثم " الحرية وإعادة بناء صرحِ الوحدة الألمانية"..و لكن كلمات المرور إلى فلسفة الوجودي كارل ياسبرز تبقى معروفة لدى كل من قرأ لهذا الفيلسوف،
وهي كلمات من قبيل :"الوجود الذاتي الحميم- التواصل – الشامل – شفرات الوجود – المواقف الحدية ..
لا شك أن أعظم كتاب لهذا الفيلسوف الألماني كان " فلسفة " والذي هو مكون من ثلاثة أجزاء، سنتطرق إلى ملخص كل جزء على حدة، ولكن بعد أن نتناول مفهوم الوجود وتقسيميه الأساسيين لدى الفلاسفة الوجوديين أمثال " هايدغر مارتن"،"مارسيل غابرييل"، "سورين كييركغارد"، "ماكس فيبر" وغيرهم ممن ارتبطوا واتفقوا على هذا التقسيم الوجودي رغم اختلاف فلسفاتهم.
قام فلاسفة الوجود من خلال نظرتهم للعلم بما هو مفهوم دقيق، والتفريق بينه وبين التفلسف ذلك الفعل الباطني الشخصي، قاموا بافتراض ميتافيزيقي يقضي بكونٍ الوجود الإنساني ذي بُعدين :
-الأول هو الوجود الذاتي الحميم ( الحقيقي الأصيل ) .
- الثاني هو الوجود العلمي غير الأصيل .
و بخصوص الوجود الأول : يشارك فيه الإنسان بوصفه وجوداً قِوامه التحقق والمعاناة ثم التجربة الباطنية، وهو وجودٌ ينفلتُ من البحث الموضوعي بكل مناهجه العقلية والتجريبية. ويعبر عنه كارل ياسبرز بقوله : " إن الإنسان في الأساس لأكثر مما يمكن أن يعرفه عن نفسه"، كما تدل عليه عبارة أخرى لغابرييل مارسيل وردت في يومياته الميتافيزيقية حيث يقول : " إنني على الدوام وفي كل الأحوال لأكثر من مجموع الصفات التي يمكن أن يُدخلها علي أي بحث أقوم به لنفسي أو يتولاه غيري عني " .
لهذا يكرر فلاسفة الوجود أنه ما من سبيل مباشرٍ للإفصاح عن هذا النوع من الوجود المضمر الحميم، الذي يقبع في الباطن. لكننا ببساطة نحياه ونتصل به في لحظاتٍ نادرة من حياتنا الباطنية التي تتجاوز كل تفسيرات العقل ومناهج التجريب العلمي.
وربما تجدر الإشارة هنا إلى أن هذا النوع من الوجود حظي بعدةٍ أوصاف أطلقها عليه فلاسفة الوجود أمثال هايدغر الذي قاله عنه " الوجود الأصيل "، وياسبرز الذي نعته ب"الوجود الذاتي أو العلو والتعالي"، ومارسيل غابرييل " السر"، و" الأنت الأبدي" على حد تعبير مارتن بوبر وإيمانويل ليفيناس.
من جهة أخرى، قلل هؤلاء الفلاسفة الوجوديون من شأن العلم الدقيق ومناهجه لأنه غير قادر – بالنسبة لهم – على النفاذ إلى عمق الوجود الجوهري، واتبعوا كييركغارد في تأكيده المستمر بأن " الحقائق والمبادئ العلمية التي تُلزم العقل بتصديقها بوصفها ضرورية وعامة الصدق، لا تُلزمني بما أنا وجود فردي وحيد، ولا تجيب عن أي من أسئلتي القلقة حول حقيقتي ومصيري. "
وبالعودة لكتاب " فلسفة " لياسبرز كما قلنا، نتحدث عن الجزء الأول منه :
- أعطى ياسبرز للجزء الأول عنوان " التوجه في العالم "، وقام من خلاله بِــشَنِِ حملة شعواءَ على العلم وموضوعيته" المزعومة"، وكأنه أصلحُ وسيلة للكشف عن حقيقة العالم. ولإثبات ذلك أتى بالحجتين التاليتين :
- المعرفة العلمية بالطبيعة لا تكتمل في صورة كونية تامة، لأن نتائج البحث العلمي تتولد عنها مشكلات وأساليب جديدة لمواجهة هذه المشكلات.
- المناهج العلمية كثيرة متعددة، بحيث يستحيل إرجاعها لمنهج واحد موحد، بل إن مجرد الوعي بأن العلم نفسه عملية تركيب وتحليل لانهائية يشير بما يكفي إلى أن الحياة العقلية والعلمية لا يمكن للبحث التجريبي والعلمي نفسه الإحاطة بها.
من هنا فإن ياسبرز لا ينظر في " ماهية الحياة العقلية " كما نجدها في التراث الميتافيزيقي العريق، وإنما ينظر إليها من منظور " عَمَلي" على النحو الذي سلكه إيمانويل كانط. وهذا هو مضمون الجزء الثاني ، الذي اختار له عنوان " إضاءة الوجود" بدل " نظرية العقل ". حيث يدور مضمونه حول الوعي بوجودي الحاضر والماضي بما أنا كائن حر يحيا في ظل الحقيقة والكرامة، حيث أتمكن من تحقيق هذا النوع من الوجود ثم تحمل مسؤوليته. ولا توجد معايير موضوعية جاهزة ليتحقق ، ولا مجال لطلب العون من التراث المأثور ولا حتى من أي سلطة ميتافيزيقية أو دينية لا يعترف بها الفيلسوف. لذا فإن السبيل الأوحد هو أن يجرب الفرد تلك " المواقف الحدية" والأساسية النادرة، التي توقظ فيه حقيقته الباطنية التي هي قانون حريته الأسمى.
من هنا يمر الفرد بتجارب تكشف عن تناهيه، أهمها تجربة " التواصل"( التي كتب عنها الفيلسوف ياسبرز صفحات خالدة يطل من خلالها ذلك الوجه الطيب لرفيقته جيترود التي كانت ترعى جسده العليل وتسند رأسه المتعب على صدرها طيلة العمر).
هذا التواصل الذي هو إمكانية أساسية لتحقيق الوجود الحقيقي، والذي خلاله لا يتصل فهم بفهم، ولا عقل بعقل، بل وجود حميم بوجود آخر حميم : " فيه تتحقق كل حقيقة بأخرى، وفيه أكون أنا نفسي بحيث لا أحيا مجرد حياة وإنما أحقق حياتي".
أما التجربة أو الثانية التي يتحقق من خلالها الوجود الأصيل فهي تجربة " المواقف الحدية" التي قدمها ياسبرز لأول مرة في " وجهات نظر عالمية"، وهي هذه المواقف التي يعاني فيها الإنسان من العذاب والشعور بالذنب والإخفاق وفقد الأعزاء ووطأة الصدفة المباغتة، ثم ضياع الثقة بالعالم. يحس أنه على وشك الإصطدام بجدار لا سبيل لتجاوزه، ويظهر عجزه عن المواجهة بكل ما لديه من قوى عقلية وقدرات علمية، وقد يتمكن منه الإحساس بالإخفاق ويهزمه في النهاية، وذلك إذا تهرب منه بالمورفينات والحلول الوهمية وعجز عن مواجهته بأمانة، واكتفى بتقبله في صمت بوصفه" الحد النهائي" لوجوده. هذا الحد الذي يكشف له عن " الآخر" الذي يستعصي على التحديد والتفسير، و " حقيقة الإخفاق هي التي تؤسس حقيقة الإنسان " .
غير أن الجرا ح التي تؤلم هي نفسها الجراح التي يمكن أن تشفي : " وداوني بالتي كانت هي الداء"، وتصدق هذه الحالة هنا أكثر مما تصدق عند السَكر والنشوة كما عبر عنها أبو نواس. فالإخفاق القادر على هز جذور الإنسان بإمكانه، من ناحية أخرى، أن يهديه لطريق وجوده، ويساعده على أن يكون "هو ذاته"، ويكتشف بداخله البعد الباطن الذي كان خفياً عنه، والذي على أساسه تبنى الحرية والحكمة والأصالة. إنه البعد نفسه الذي أطلق عليه ياسبرز " العلو" الذي هو إمكان يتخطى جميع الإمكانات الأخرى.
أما الجزء الثاني من الكتاب " فلسفة" والذي عَنْوَنهُ ياسبرز ب" ميتافيزيقا"، كما تدور فلسفته كلها حول هذا العلو أو التعالي. فالوعي بالعلو هو وعي وجودي من كل ناحية، وينخرط في "الموقف الحدي" ليعلو فوق الحد ويطمح إلى العثور على أساس يقيم عليه حياته ليشعر أن حريته ليست مجرد مطلب أساسي، بل هي تجربة بالوجود غير المحدد الذي يصفه بالعلو. وهذه تجربة مختلفة كل الإختلاف عن تجارب العلم التجريبي أو تجارب الحياة اليومية، ويمكن أن نكررها بإرادتنا لأنها مرتبطة بحدية وجودنا الحميم واستعصائه على " التموضع" أو التجسد في موضوع.
لهذا السبب ربما نلجأ للإيمان، بمعنى التصميم على تشكيل حياتنا بطريقة عقلية رغم تناهينا الأكيد، وحتى لو أفصحت هذه التجربة عن نفسها في عدة صور نجدها في العلم الطبيعي، فإنها لن تتجاوز – أي هذه الصور – كونها " شفرات " ذات معاني مختلفة قد لا يربط بينها وبين نا تشير إليه أية علاقة، ولا يمكن أن يفك رموزها إلا صاحب التجربة وحده، الشيء الذي يزيد من صعوبة جعل الأمر موضوعا قابلاً للدراسة.
ـــــــــــــــ
ايمان ملاك