حلمنا بالتغيير ,بعدما رأينا البلاد تذهب بدون وعي نحو الخراب , وبحثنا بقلق عن أي ضوء يهدي مركبنا الحائر, ولكن على الأرض كانت الأمور تذهب بالإتجاه الخاطىء ,فبدل أن يزداد التنوير ويتجذر الخيار العقلاني , كانت الظلامية والإتباع تستولي على ما تبقى من عقول صامدة ,وامتدت حتى وصلت لجسد الوطن.
وعلى المقلب الآخر كانت قوى الأمر الواقع تمعن في القضاء على آخر هذه العقول , ظهر إلى الواجهة مجموعة من المتسلقين الفارغين الذين لا يملكون أية كفاءات وكان معبرهم الوحيد معرفتهم بأحد المتنفذين وبدأ هؤلاء بعملية قضم لا ترحم لما تبقى من جسد الوطن.
نشأ تواطؤ غير معلن بين هاتين الجهتين , كان كل طرف يمالىء ويداهن الطرف الآخر بانتظار لحظة قوة كي ينقض عليه .
كانت السلطة تستمد شرعيتها من موقفها الخارجي , ولكن هذا الموقف كان يستثمر من قبل مجموعة محدودة من المنتفعين ,وكان الآخر يستمد شرعيته من خطاب ظلامي يبث الكراهية لشد العصب وللتحشيد .
إن طبيعة الصراع توحي وتشير إلى درجة تقدم أو تخلف المجتمع .هناك من يقول , هذا الصراع الحاصل حاليا بين الجهتين ستكون محصلته إيجابية , لأن حاصل ضرب السالب بالسالب هو موجب حتما .
ولكن هذا التبسيط يهمل الإيجابي في الحالتين فلا شيء كلي ,و الخشية هي من صراع الإيجابي مع السلبي في كلا الجهتين ومن نفس المنطق فإن ضرب السالب بالموجب ستكون نتيجته سلبية .
ولكن أين هو الإيجابي , أين هو الجانب المطمئن و أين هو هذا الفعل الغائب المستتر حتى الآن ؟
تنظر لوجوه من يتسنم المعارضة فلا تشعر بالراحة ولا أحد منهم يقنعك ومعظمهم يدور حول ذاته وفي الشارع غموض وأشباح وأناس تحركهم انفعاليتهم لاعقولهم الواعية ينشدون أي تغيير بأي ثمن وبأية طريقة .
, وتنظر لوجوه المسؤولين فلا ترتاح لمعظمهم ولا أحد منهم يجعلك تثق به .
بالعودة قليلا لما كان ,كان القانون السائد بسيط ,لم يكن حضور السلطة موجودا بل إنها تركت الساحة لقانون البازار وقانون الغاب,وتركت الفئات الضعيفة تحاول أن تناضل لتقطيع بقية يومها وشهرها على حد الكفاف ,كانت السلطتان الأمنية والمالية تفعلان بهدوء وبدون شغب,والأمور تبدو هادئة ,لأن قوى الأمر الواقع قد فرضت قانونا لا يرحم هو قانون الحاجة.وكان لكل شيء ثمن حتى المشاكل والمخالفات والقانون سلعة بيد ممثلها قابلة للمساومة , وكان العرف السائد :افعل ما بدا لك , خالف, انشر الفوضى,هرّب ,غش, اسرق ولكن حذار من التكلم بالسياسة.
وماهي السياسة بهذا العرف ؟
هو أن تتطرق بالنقد للسلطة ,كان هذا هو المحظور الوحيد , وهذا ما أتاح النمو لشبكات متغولة في كل المفاصل وبالتواطؤ مع المتنفذين الذين كانوا يتقاسمون المغانم والأرباح.
باتت السلطة هدفا للتزلف والمديح المفرط , وكلما ازداد حجم الشعار والصورة , ازداد حجم المخالفة والإرتكاب , واصبحت السلطة سيفا بيد مجموعة
من المتنفذين الذين يستخدمونه لتهديد الفئات المنافسة .
من الوقائع التي تروى عن التستر بالسلطة لارتكاب المخالفات أو شراء المخالفة بالنقود (السلطة الأخرى):
الأملاك البحرية والإستيلاء عليها من قبل فئة من المتنفذين والبعض امتلك و(طوّب) مساحات وصلت حتى صخر البحر .
الغابات البكر ومن الأمثلة الفاقعة عليها ,غابة العذر في صلنفة وعشرات الهضبات التي جرى قطع أشجارها وصارت ملكيات خاصة (بعضها يظهرعلى الغوغل إيرث بوضوح).
ومن الأمثلة المفجعة أيضا قيام أحد المتزلفين بقطع الأشجارعلى سفح أحد الجبال بحجة كتابة كلمة(الأسد) في الغابة ولحسن الحظ تم إيقافه ولكن بعد أن قطع قسما كبيرا من الأشجار.
وايضا مثال الحديقة المركزية التي كانت مقررة وسط مدينة جبلة الحديثة والتي كانت تقدر ب 40 دونما ,وروى لي فيما مضى صاحب الأرض كيف ذهب إلى دمشق ومقدار المبالغ التي دفعها هناك لكي يحصل اول الأمر على عشرة مقاسم بناء بطابقين ,و مع استمرار الدفع حصل على ترخيص بأربعة طوابق ثم خمسة وأخيرا ستة ولم ينته الأمر عند هذا الحد بل اقتطع أيضا عشرة مقاسم أخرى منها وهكذا حتى تقلصت مساحة الحديقة إلى 4 دونمات فقط!.
ولك أن تسأل من خطط لجبلة الحديثة واقام هذه المقاسم المتلاصقة التي جعلت كتلا غبية من الإسمنت تحتل الهواء وتسد الأفق ولا مكان لفسحة أو روضة أو حديقة صغيرة للأولاد.
أصبح مقدار النفوذ يقاس بمدى القدرة على تجاوز القانون والمخالفة , واصبح هاجس الناس هو تجاوز القانون , من أصغر بسطة في الشارع إلى مخالفات البناء وصولا لفضائح المشاريع الكبيرة .
أصبحت المطاعم والمقاصف عنوانا فاقعا لجامعي الثروة ,بعض أصحابها كان جمركيا بسيطا وبعضهم الآخر كان تغطية لاسم اكبر منه .
قد تكون السلطات متشابهة في العالم الثالث في أمر السيطرة وفي بنيتها الأقلوية, وحتى في العالم المتقدم ,ولكن هناك يوجد إلى جانبها مجتمعا شكّل
بنيته وتنظيمه ولا يمكن إغفال حاجته ومطالبه .
من الآثار والنتائج الهامة لما يجري حاليا هو أن السلطة قد ظهر جمهورها الحقيقي الذي كان مغيّبا ومستترا لحساب الإنتهازيون الذين يتاجرون بالسلطة ويرفعونها بوجه مخالفيهم ومنتقديهم , وهؤلاء قد يشكلون قوة إيجابية تؤثر في صانع القرار.
لا يمكن أن يقنعنا أحد أن باستطاعة السلطة إخراج الناس بالقوة وسط هذه الظروف ولا بالإغراءات , ففي هذاانتقاص من كرامة آلاف الناس ومجافاة للمنطق .
"جدلية"
السلطة تقتلنا وتعتقلنا وتخرق القانون والدستور,لأننا نريد إسقاط النظام ؟
يجب:أن تتركنا نسقط النظام .
كيف ستسقطون النظام؟
في الشارع .
ماذا إذا قالت لكم:لا لا لست من رأيكم بإسقاط النظام في الشارع فهذا مخالف للقانون والدستور.
ولكنها ثورة لا تعترف بالدساتير والقوانين وهي تفرض شرعيتها .
تتهمون السلطة بخرق القانون والدستوروتطالبون بحماية القانون الذي عليه تثورون وتخرقون .
إذا كان الأمر للثورة والشارع فمن نفس المنطق لدى السلطة (ثورتها) و(شارعها).
ولكن (ثورتنا) هي للحرية , و(ثورة) السلطة هي للقمع.
من باب الحرية أليس من حق الشارع المخالف لكم أن يثورعلى ثورتكم أيضا؟
.....
لماذا لا تتحاورون .
لا ( لا للحوار ).
إذن هو قانون (الشارع)ماذا عن العنف والطائفية , كيف ستتحكمون بهذا, ألم يظهر ذلك جليا في الشارع.
السلطة هي التي تدفع الأمور باتجاه العنف والطائفية .
إذا قلنا نعم فلماذا تسلمون أمركم وتذهبون بالإتجاه الذي تريده ؟
هم يمسكون الأمن ويجب أن يتحملوا المسؤولية .
إذن نعود للقانون والدستور والأمن والجيش الذي يقف بجانب السلطة, فكيف ستسقطون النظام إذن ؟
بالعودة للمنطق الرياضي , لماذا لا تكون العملية هي جمع بدل الضرب , لماذا لانحاور و نجمع السلبي مع الإيجابي والناتج سيكون إيجابيا إذا كان الإيجابي في البداية هو الغالب .
وماذا إذا كان الإيجابي مساويا للسلبي ؟
حتى في هذه الحالة فإن المحصلة هي قيمة تساوي الصفر (هو محصلة جمع -1,+1), وقد لا يعلم الكثيرون أن الصفر هو رقم إيجابي, المهم نكون قد تخلصنا من السلبي .
هل رأيت القوة المرعبة للسلبي , لا تحاول استخدامه في الضرب أو القسمة أبدا لأن أي مقدار ضئيل منه سيجعل النتيجة سلبية بالتأكيد.
يا حبيبي ...دعنا من هذا واسمع منطق الشارع :
يوجد في جبلة مستودع للطحين بالقرب من جامع أبي بكر ,تقدم العديد من السكان منذ سنوات باستدعاءات لنقل هذا المستودع كونه يشكل إزعاجا مستمرا وينشر الغبار
إضافة لانتشار الفئران وأزمة السير التي تشكلها الشاحنات التي تأتي لتفرغ وتحمّل الطحين .
وبوشر منذ أكثر من سنة ببناء مستودع للطحين حديث ويؤمن كل المواصفات اللازمة لتخزينه خارج حدود المدينة استجابة لذلك ,وصدف أن انتهت أعماله بعد
بدء الأحداث الأخيرة , وعندما سلّم للجهة المختصة خاطبت هذه المحافظة لنقل المستودع ,وعندما وافق المكتب المختص على ذلك وسمع الناس أن المستودع
سينقل ثارت ثائرتهم , وبدأ البعض ينشر شائعات مفادها :إنهم سيفرضون حصارا غذائيا على البلد وسيجوعوننا !!
بل وأن البعض أدرج هذا من ضمن المطالب التي قدمت للمحافظ ,الذي اوعز للمكتب المختص بمعالجة الأمر ,الذي شرح للمحافظ أن الأمر قد تم بناء على
طلب أهل الحي ومنذ سنوات عديدة وأن المستودع الجديد قد كلف ملايين الليرات وهو بمواصفات تخزينية ممتازة وهذا يندرج ضمن خطة لنقل جميع المستودعات
المماثلة (الإسمنت مثلا) خارج حدود المدينة وأن هذا يمثل مطلبا شعبيا , وللعلم فإن من بين ال60طنا من الطحين تستهلك المدينة 8 طن ويستهلك الريف 52 طنا.
ثم إن الذي يريد أن يجوّع أحد لا يزوّده بالطحين من الأساس أيا كان مكان المستودع الذي سيخزّن فيه.
فقال المحافظ: على الرغم من كل ذلك لا تنقلوا المستودع حاليا!!
قد يفاجىء البعض أن العرب تاريخيا لم ينتجوا سلطة منتخبة ديموقراطيا وفق المعايير التي يطالب بها اليوم ,بل وان مفكرا مصريا قد أكدأن المصريين مثلا لم ينتخبوا
رئيسا طوال 7000 عام ,ويجادل البعض بأن هذا ناجم عن هيمنة الفكر الديني الذي يلزم المعتنق بمبدا الحاكمية , وعدم القدرة على انتاج خطاب تنويري عقلاني مختلف
ومن هنا يصر هؤلاء أن ازمتنا هي فكرية وثقافية قبل أن تكون سياسية.
طرق الحكم الرعويةالقديمة فشلت، والنظريات المبنية على الدين تحولت في أحسن الأحوال الى مشروع سياسي غاية مراده نصيبه من الكراسي.
سيمر زمن طويل قبل أن نستبدل فيه حكامنا بآخرين، ونعيد إنتاج القهر وتكرار الأزمة قبل أن تنضج الأفكار التنويرية وتتحول الانتفاضات إلى ثورات حقيقية.
حلمنا بالتغيير وبالحرية,ولكن بعدما رأينا الذي يجري التحفنا حلمنا وذهبنا إلى أقرب حرش...لا زال حرشا.
ـــــــــــــــ
محمد عبد الرحمن