سافرتُ عام 1996 إلى بيروت برفقة زوجتي"هيام غانم"حيث كانت اتفقت مع الفنان زياد الرحباني على المشاركة معه غناءً في ألبوم سُمّيَ فيما بعد"بما انو".شاركتْ هيام مع الكورال بأغنيتين،"تلفن عيّاش ومَرْبى الدلال"وكان لي شرف الحضور والاستمتاع بتسجيل هاتين الأغنيتين في"أستوديو نوتة"والتعرف إلى زياد الرحباني وجوزيف صقر و كارمن لبّس وآخرين.امتد العمل لمدة يومين وكان هناك الكثير من الاستراحات والدردشات مع زياد وباقي المشاركين.وبما أن هذه المرة الأولى التي أتكلم فيها علناً عن هذا الأمر.لابد من الإشارة إلى التعامل الحضاري الراقي الذي عاملنا به زياد أثناء تواجدنا معه.يقال"لا تتعرف على الفنان الذي تحب"لأنك ولا بد تضع بذهنك صورة معينة له وعندما تلتقيه قد تفاجأ أنه لا يشبه هذه الصورة.التي غالباً تكون مثالية،فتصاب بالإحباط وتنكسر صورته ولا يعد بالإمكان إصلاحها.تجربتي مع زياد قادتني إلى عكس هذه المقولة،حيث أنني أحببت زياداً عن قرب واستمتعت بصحبته اللطيفة الممتعة وبنقاشه الجاد وبقفشاته الذكية المضحكة وبتواضعه الملفت.أذكر يومها أني سألته لماذا لا تقيم حفلات في سورية؟ ولم أصدّقْ عندما سمعت جوابه وظننته يمزح إذ قال:وهل هناك من يسمع أغانيَّ في سورية؟الحقيقة أن جوابه كان بين المزاح والجد و(يغلب عليه الجد).ثم خضنا حواراً قصيراً حول سوريا ولبنان والعلاقات السياسية والتاريخية بينهما.في آخر الحوار أكدت له أن عدد المعجبين بفنه في سوريا أكثر منهم في لبنان وعندما يزور سوريا سيذهل من ذلك.صحيح أن زيارته لسوريا تأخرت إلى عام 2008.لكنه كما صرّح لاحقاً قد ذُهل فعلاً بالجمهور السوري،ما حمله على تكرار التجربة مرة أخرى في العام التالي.عندما تلتقي زياد الرحباني وتقضي معه ولو فترة قصيرة لا بد أن يحصل موقف ما تحمله في ذاكرتك مدى الحياة.من الأشياء الطريفة التي أضحكتني عند زيارتنا لزياد تعليقه على لوحة فنية صغيرة كنت رسمتها ووضعت لها إطاراً وأخذناها معنا هدية له.عندما سلمناه اللوحة نزع عنها الغلاف وتمعّن فيها،ثم التفت نحوي وقال ممازحاً:(أنا ما بفهم بالفن التشكيلي كتير بس هاللوحة عجبتني خاصة كيف سائبت واجيت معك بنص البرواز)! ضحكنا كثيراً وقتها ثم عانقني وشكرني وكأني قدمت له يختاً،أو قصراً،مما جعلني أشعر بالخجل.أيضاً أخذنا معنا هدية "لكارمن"طوقاً من الجلد مزيناً بالخرز الملون.قَدمَتْهُ لها هيام وفَرِحَتْ به فرحاً عظيماً وشكرتنا بما لا يقلّ عن شكر زياد لنا.خاصة عندما عرفت انه من صنعي شخصياً،وبقيتْ تضعه في عنقها حتى سافرنا.أثناء إحدى الاستراحات طلبنا من زياد أن نتصور معه وكنت أحمل الكاميرا الروسية الشهيرة"زينيت إي".وكلّما تأهبتْ هيام لالتقاط الصورة كان يقول زياد بصوته المميز وطريقته المحببة:(شووو؟منغشى؟)وفعلاً كان يُغشى علينا من الضحك في كل مرة.والغريب أنه عندما طبعنا الصورة ظهرنا كشخصين يواسيان بعضهما في عزاء.بعد فترة قصيرة توفي جوزيف صقر وترك فراغاً كبيراً في عالم زياد وفي عالمنا.في استراحة أخرى بينما كنا نشرب القهوة وندخن(كنت وقتها ما أزال أرتكب هذا الفعل)قال جوزيف :(بدي سمعكم مقطع من اغنية وأريد رأيكم بها) وتأهبت للاستماع كجندي جاءته الأوامر بالتحرك الفوري باتجاه الجبهة.بحث وبحث جوزيف عن الكاسيت الذي سجل عليه المقطع دون جدوى،فأصبنا جميعاً بإحباط شديد.سألته فيما بعد عن كلمات هذا المقطع وتبين أنها أغنية " أفلاطون" ونزلت في نفس الألبوم.أكثر ما أحزنني عند وفاة جوزيف هو أنه أرسل معي سلاماً لعائلة لاذقانية عندهم محلات أقمشة بمنطقة قريبة من الشيخضاهر ويسكنون في كسب( أوعندهم بيت هناك).بحثت كثيراً عن هذه العائلة(وكنت وقتها احمل الاسم معي مسجلاً على ورقة)ولكن دون جدوى،ومن يومها كلّما سمعتُ أغنية"أفلاطون"أتذكر جوزيف صقر وذلك اللقاء وأحزن لأني لم استطع إيصال السلام،هل سيسامحني جوزيف؟.هناك الكثير من الناس لا يعرفون مِنْ زياد الرحباني إلا أنه ابن فيروز.وهذا لعمري أكثر المعلومات الصحيحة سذاجة فيما يتعلق بزياد.وما يزيد الطين بلّة أن بعضهم يقيّمون عملاً له كما يقيمون أغنية لراغب علامة أوهيفاء وهبة.وإذا حصل ذلك أمامك أنصحك ألّا تفعل أي شيء.اكتفي بالاستماع وهَزّ الرأس.وفور عودتك إلى البيت يمكنك طرق رأسك بالجدار ثلاثة مرات قبل الطعام أو حسب الحاجة.إذ كيف ستشرح ماذا يعني المقطع الذي يقول فيه"يا زمان الطائفية،طائي فيي وطائي فيك"أو"شوف الليرة ما أحلاها بتقطع من هون لهونيك"أو"عناّ حجرة عليها سمكة"أو"تركت الحب وأخدت الأسى"أو" وصلت دورية عصفورين غطت على نفس البلكون مشغول فكرا على عصفور طار وغط وطول هون ورجعوا موكب تلات عصافير رجعوا على نفس الكركون" أو"يمكن رح ينقطع النيدو بهاليومين.أمك في عندا بزّين" أو"وقمح". تخيل نفسك وأنت آتٍ إلى سهرة يقيمها مجموعة من الأصدقاء وقد تأخرت ثلاثة ساعات عن الموعد.أولاً.قد لا يفتح لك أحد الباب وهذا متوقع جداً.ثانياً.إذا وجدت الباب مفتوحاً أو فتحه لك أحد ما بالصدفة ستدخل ولكنك لن تفهم ما الذي يحصل حيث الجميع قد سبقك بنصف ليتر من العرق على الأقل.وستسمع الكثير من الحوارات الجدية،والهزلية.والكثير من الضحك،والمواقف العجيبة،سيعانقك أناس كثر لا تعرفهم، وسيبكي على كتفك البعض أو يضحكون ! سيسألون إن كان معك سجائراً أوقلم رصاص أو حتى مفتاح انكليزي شق،ولا تعجب. ستجد نفسك تخوض حواراً عن كل شيء من الديالكتيك إلى طريقة صنع مراهم البواسير.وستعجب لماذا البعض يتعانقون في الوقت الذي من المفترض بهم العراك.ستجد أناساً من كل الأصناف والأجناس.مثقفون يساريون،مثقفون يمينيون.مثقفو سلطة أوبلا سلطة.سائقو تاكسي،عتالون،وزراء،فنانون تشكيليون،سيدات جميلات مثقفات.سيدات مثقفات جميلات. سيدات جميلات ، سيدات مثقفات،سيدات يغازلنك لمجرد وجودك في هذه المعمعة،ولا تستغرب وجود رجال الدين.وسط هذا الحشد العجيب عليك أن تجد موقعك.وهناك طريقة وحيدة قد تنجح معك في الدخول إلى الجو.هي أن تكرع عدة كؤوس من العرق الواحدة تلو الأخرى إلى أن تشعر أنك بدأت تفهم الجو.هنا قد تفاجأ بأن الجميع صحصحوا وبدؤوا بشرب القهوة.زياد الرحباني مفكرٌ إنسانيٌ يحملُ همّاً سياسياً،اجتماعياً،يعبّرعن فكره وفلسفته في الحياة من خلال الموسيقى والغناء والمسرح والشعر.محاولاً أن يشعل شمعة في ظلام ليلنا الدامس.زياد الرحباني هو السهرة التي لا تستطيع التأخر عنها.واليوم بالذات نستطيع القول أن فيروز هي ابنة زياد وليس العكس...وقمح
عصام حسن
*رسام كاريكاتير سوري.