فالورع مصطلح من منا لم يسمع عنه؟ ومن منا لم يطرق سمعه؟ إن من يقرأ في سير السلف أو يستمع إلى وصاياهم أو يدرس سيرهم لا بد أن تتكرر هذه الكلمة على سمعه كثيراً، ويرى وهو يقرأ أنه يتحدث عن قضية تاريخية أصبح بيننا وبينها حجراً محجوراً، وحين نقرأ سير السلف وأخبارهم في الورع والزهد والرقائق فإننا قد نحكم على تلك الروايات بالضعف والبطلان، وتارة نتهم من روي عنهم بالمبالغة والتشدد، وأخرى نتهم الراوي بالغلط والخطأ، وقد يكون شيء من ذلك صحيحاً، لكننا نادراً ما نتهم أنفسنا وأنها لم تَرْقُ إلى إدراك هذه المعاني، وأن قلوبنا لم تَصْفُ لترى أن ما عليه أولئك هو الخوف من الله سبحانه وتعالى، وأن ما عليه أولئك هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم والسلف السابقين.
ولقد قدمت رِجْلاً وأخرت أخرى وأنا أريد الحديث حول هذا الموضوع، حتى أني وأنا أعد له وأقرأ عزمت ألا أتحدث عن هذا الموضوع، ليس تقليلاً من شأنه وأهميته، لكن شعور بأنه ينبغي ألاَّ يتحدث عن الورع إلاَّ أهل الورع، وينبغي ألاَّ يتحدث عن الصدق إلا الصادقون الخائفون المخبتون، والمتشبّع بما لم يعط كلابس ثوبي زور، لكن عزائي أن أقول لكم اسمعوا مقالي وإياكم وحالي، فالقضية أقوال وشذرات من سير سلف الأمة نسعى إلى ربطهما بواقعنا، ونقولها لإخواننا ونحن جميعاً نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الورعين المتقين الصالحين، وإن لم ترق أنفسنا إلى منازلهم فلنتشبه بهم؛ فإن من تشبه بقوم فهو منهم، والتشبه بالكرام فلاح.
الورع معشر الإخوة الكرام مصطلح نبوي شرعي؛ فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا اللفظ فقال r -فيما رواه البيهقي – في وصيته لأبي هريرة رضي الله عنه:"كن ورعاً تكن أعبد الناس، وكن قنعاً تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً، وأَقِلّ الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب".
روى البزار والحاكم والطبراني في الأوسط من حديث حذيفة رضي الله عنه، ورواه الحاكم أيضاً من حديث سعد أنه صلى الله عليه وسلم قال: "فضل العلم أحب إليَّ من فضل العبادة وخير دينكم الورع".
ففي هذه النصوص الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم أطلق صلى الله عليه وسلم فيها هذا اللفظ وهذا المصطلح، فهو إذن مصطلح شرعي نبوي، وإن كان ليس من شروط هذه المصطلحات أن ترد بنصها عن النبي صلى الله عليه وسلم، فما دام المصطلح لا يعارض النصوص الشرعية فلا مشاحة في الاصطلاح.
أما الأدلة له على معنى الورع دون لفظه فهي أدلة كثيرة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومنها الحديث العظيم الجامع الذي جعله جمعٌ من أهل العلم أحد الدعائم التي يقوم عليها الإسلام، وهو حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :"إن الحلال بيّن وإن الحرام بيِّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراعٍ يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه" والحديث مشهور في كتب السنة بروايات عدة، ويحفظه الصغير والكبير، وهو قاعدة في التورع مما يشتبه منه، مع أن معنى الورع -كما سيأتي- يأخذ مدى أكبر من هذا المدى ودائرة أوسع من هذه الدائرة، والتورع عن المشتبهات والبعد عنها ليس إلا باباً من أبواب الورع.
ومن الأدلة في هذا المعنى حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"البر حسن الخلق، والإثم ما حاك صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس" والحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه.
وحين جاء وابصة بن معبد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له صلى الله عليه وسلم : "جئت تسأل عن البر" ، فقال: نعم ، قال له صلى الله عليه وسلم:"استفت قلبك؛ البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك" رواه أحمد والدارمي، وله شاهد عند الإمام أحمد من حديث ثعلبة، وهذا الحديث فيه إيماء وإشارة إلى تلك الحساسية المرهفة التي يملكها عباد الله الصالحون؛ فصارت نفوسهم تطمئن إلى البر وترتاح إليه، وصارت نفوسهم تأنف من المعصية وإن أفتاها الناس وأفتوها، ولا شك أن هذا الحديث مع ما فيه من الدلالة على الأمر بالتورع مما حاك في الصدر وإتيان ما اطمأنت إليه النفس، فهو إشارة إلى حال الصالحين وحال قلوبهم التي ترى بنور الله سبحانه وتعالى؛ فتطمئن هذه القلوب للبر والهدى والتقى والصلاح، وتشعر باشمئزاز ونفور وتردد من الإثم وأسبابه، ولو أفتاها الناس، وهذا المقياس في مسألة البر والإثم ليس إلا لعباد الله الصادقين، بل لعله أن يكون أمارة نختبر بها قلوبنا؛ فإن كانت تطمئن للبر والصلاح والتقوى وتشمئز من المعصية والسيئة وتنفر منها فهي قلوب صالحة بإذن الله، وإن كانت دون ذلك فهي بحاجة إلى تزكية وإصلاح.
وهو ليس خطاباً للمعرضين الذين علا الران على قلوبهم، فأصبحت نفوسهم مأسورة بهواها وشهواتها، فقلبه ونفسه إنما تطمئن لمعصية الله سبحانه وتعالى وإيذاء عباده المؤمنين المتقنين، بل كم من الناس انقلبت الموازين لديه فأصبحت السيئة حسنة والحسنة سيئة.
إذن فهذا المقياس إنما هو لأولئك الصالحين الذين توجهت قلوبهم لله سبحانه وتعالى فأصبح القلب لا يحب إلا لله ولا يبغض إلا لله سبحانه وتعالى، ولا يتوجه إلا لله، وقبلته إلى الله عز وجل لا يفارقها؛ فكما أنه يستقبل القبلة في صلاته ويقف بين يدي الله عز وجل كل يوم خمس مرات فقلبه إنما قبلته لله لا يمكن أبداً أن يستقر في قلبه محبة غير الله أو التوجه له، أو أن يكون فيه إرادة تخالف أمر الله سبحانه وتعالى وشرعه، لهذا ارتقت هذه النفوس إلى هذا القدر فصارت تطمئن للبر وتشمئز من الإثم؛ فمنحها الله عز وجل هذا النور وهذا الفرقان ]يا أيها الذين آمنوا إن تتقو الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم[ وفي آية أخرى ]ويجعل لكم نورا تمشون به[.
الورع عند السلف:
لعلكم تدركون أن السلف لم يكونوا يعنون بالتحرير المنطقي للتعاريف فتصبح جامعة مانعة، إنما كانوا يقصدون أن يعبروا عن الكلمة بما يقاربها وبما يفهم السامع، قال ابن القيم رحمه الله في المدارج: "وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع كله في كلمة واحدة فقال: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، فهذا يعم الترك لما لا يعني من الكلام النظر والاستماع والبطش والمشي والفكر وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع".
وقال إبراهيم بن أدهم :"الورع ترك كل شبهة، وترك ما لا يعنيك هو ترك الفضلات".
وقال الشبلي:" الورع أن تورع عن كل ما سوى الله".
وقال إسحاق بن خلف:"الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة، والزهد في الرياسة أشد منه في الذهب والفضة لأنهما يبذلان في طلب الرياسة".
وقال أبو سليمان الداراني:الورع أول الزهد كما أن القناعة أول الرضا".
وقال يحيى ابن معاذ: "الورع الوقوف على حد العلم من غير تأويل".
وقال أيضاَ:"الورع على وجهين: ورع في الظاهر، وورع في الباطن؛ فورع الظاهر أن لا يتحرك إلا لله، وورع الباطن هو أن لا تدخل قلبك سواه".
وقال أيضاً:"من لم ينظر في الدقيق من الورع لم يصل إلى الجليل من العطاء".
وقيل:"الورع الخروج من الشهوات وترك السيئات".
وقيل:"من دق في الدنيا ورعه أو نظره جلَّ في القيامة خطره".
وقال يونس بن عبيد الورع:"الخروج من كل شبهة ومحاسبة النفس".
وقال سفيان الثوري: "ما رأيت أسهل من الورع، ما حاك في نفسك اتركه".
وقال سهل: "الحلال هو الذي لا يعصي الله فيه، والصافي منه الذي لا ينسى الله فيه".
وسأل الحسن غلامٌ وقال له: ما ملاك الدين؟ قال: الورع، قال: فما آفته؟ قال: الطمع، فعجب الحسن منه.
وقال الحسن:"مثقال ذرة من الورع خيرٌ من ألف مثقال من الصوم و الصلاة".
وقال أبو هريرة:"جلساء الله غداً أهل الورع والزهد".
وقال بعض السلف: "لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس" ويروى مرفوعاً.
وقال بعض الصحابة :"كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في باب الحرام".
هذه بعض الأقوال من السلف حكاها ابن القيم رحمه الله في المدارج حينما تحدث عن منزلة الورع والوقت يضيق عن سرد أقوالهم وعباراتهم في ذلك، ومنهم من يستعمل الورع مرادفاً للزهد، ومنهم من يفرق بينهما وهو المشهور عند المتأخرين: أن الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما يخشى ضرره.