منقول للفائدة
العفة
موضوعنا هذه الليلة هو درس في العفة، وفي الواقع أن من أشد ما يعاني منه الشباب خاصة في هذا العصر الشهوات ومشكلة هذه الشهوة العارمة مع انتشار دواعيها وتنوعها وكثرتها ، وفي خضم هذه المثيرات وهذه الفتن يبقى الشاب صريعاً بين وازع الخير والإيمان والتقوى الذي يدعوه للعفة والمحافظة وبين الاستجابة للنفس الأمارة قصة قديمة فقد كنت قَد ألقيت محاضرة قبل سنوات بعنوان الشباب والشهوة ثم أصدرت كتاباً بعنوان "أخي الشباب كيف تواجه الشهوة " وبعد أن أصدرت هذا الكتيب وردت إلى رسائل كثيرة جدًّا رسائل بريدية أو مكالمات هاتفية من كثير من الشباب يعرض مشكلات كثيرة حول هذا الموضوع بمعدل رسالة أو رسالتين أسبوعيا منذ أن صدر الكتاب إلى الآن وأحرص أن أرد على كل رسالة ولو تأخرت في ذلك ولكن هذه الرسائل وتواليها أعطاني شعورا بأن لهذا الموضوع أهمية وبأن الشباب مازالوا يحتاجون وأنهم فعلا يعانون من مشكلة الشهوة، وهناك رسائل مؤثرة ومؤلمة في الواقع ولكن كثيراً من الشباب عندما يبعث لي بالرسالة يقول أرجو أن لا تقرأ هذه الرسالة في محاضرة أو تذكرها في كتاب مع أني لو قرأت جزءا منها فإنني لن أشير من قريب أو بعيد إلى واقع هذا الشباب ولكن من حقه علينا ما دام قد طلب منا هذا الطلب واستأمننا على سره أن لا نذكره، مع أني لو أعرضه لم يفهم الناس مَنْ المراد.
وهذا أشعرني بأن الموضوع يحتاج إلى معالجة أكثر وإلى تنويع الأساليب.
ومن ذلك النموذج ذكره اللّه سبحانه وتعالى في كتابه عن قصة يوسف عليه السلام كيف واجه الفتنة وكيف صبر ونجاه اللّه سبحانه وتعالى منها، ومن القضايِا المهمة التي يحتاج إليها الشباب: القدوة العملية، الصورة التي يراها شاخصة أمامه ويتخيل هذه الصورة، ويتخيل تلك الحال والمغريات والمثيرات التي فيها وكيف نجا يوسف من هذا الابتلاء فيعتبره قدوة ونموذجاً له يحتذيه.
وسنتناول الموضوع من خلال النقاط الآتية:
عوامل الإغراء ،ثم قوارب النجاة ، ثم وقفات حول القصة ، وأخيراً دروس أخيرة ، أما عوامل الإغراء فنحن عندما نتأمل هذه القصة وحتى نعرف الثبات الذي ثبته يوسف عليه السلام وحتى نعرف فعلا أن هذا البلاء لنبي اللّه. لا بد أن نتصور ونعيش جو القصة ونتصور عوامل الإغراء والإثارة التي كانت موجودة لدى يوسف عليه السلام ويستطيع كل منا أن يتصورها عندما يقرأ القصة ويتصورها ويتخيلها بنفسه ويستطيع أن يدرك هذه العوامل.
وقد أشار الحافظ ابن القيم حفظة اللّه إلى عدة أمور أوصلها إلى (13) كلها كانت وسائل وأمور تغري وتهيج الفتنة لدى يوسف عليه السلام في مثل هذا الموضوع.
* " أولها: العامل الطبع أي أن الرجل يميل إلى المرأة أصلا ، الرجل وكل الرجال إلا من شذي لديه هذه الشهوة فهذا العامل موجود أصلا.
الأمر الثاني: كونه شابًّا ولا شك أن الشهوة عند الشاب تكون أكثر توقداً منه عند غيره خاصة مع ذلك فقدرته على ضبط نفسه أقل من غيره ، ومن هنا تكون الصعوبة أكثر، فتعرفون أن يوسف عليه السلام رمي وهو صغير ثم أخذ رقيقاً وهو لا يزال غلاماً حتى قال عز رجل: " ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين. وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب".
ولا يهمنا الآن كم كان سن يوسف ولكن كان لاشك أنه قريب من العشرين يزيد عنها قليلا أو ينقص عنها قليلا، المهم أنه في مرحلة زهرة الشباب التي تشتد فيها هذه الشهوة.
العامل الثالث: أنه كان عَزَباً لم يتزوج بعد ولا شك أن هنا أيضاً أمر له أهميته فالمتزوج قد يسر اللّه له طريق الحلال فلو أثاره ما آثاره فأمامه المصرف الشرعي ، أما هذا الشاب الذي لم يتزوج بعد ولم يحصن نفسه فإنه أكثر عرضة للوقوع في المعصية والداعي للوقوع في المعصية والإغراء أكثر من غيره ومن هنا أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم الشباب قال: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطيع فعليه بالصوم فإنه له وجاء".
- الجانب الرابع: كونه في بلد غريب فالإنسان عندما يكون غريباً بعيداً عن أهله -خاصة لمّا يتركهم في سن مبكرة- فإن هذا يدعوه إلى أن يمارس ما يمارس ، فوجود الغربة يدعوه إلى أن ينطلق وينفلت من هذه القيود التي تقيده وتحجمه ، وكما نلاحظ الآن أن المرء عندما يغترب عن بلده يصبح أكثر عرضة للانفلات والضياع منه عندما يكون عند قومه وعشيرته وأهله.
- الأمر الخامس: أن المرأة كانت ذات منصب وذات جمال، أما كونها ذات منصب فهذا واضح وأما كونها ذات جمال فقال رحمه الله: إن مثل العزيز العادة أن لا يتزوج إلا امرأة ذات جمال.
الأمر السادس: كونها غير ممتنعة ولا آبية فإن مما يصد المرء أحيانا عن المعصية أن تمتنع المرأة وتأبى.
الأمر السابع: أنها طلب وأرادت وراودت و بذلت الجهد فكفته مؤنة الطلب وبذل الرغبة. فهي الراغبة الذليلة وهو العزيز المرغوب فيه. فالشاب قد تدعوه الشهوة إلى أن يواقع المعصية، لكن قد تبقى أمامه عقبه وهي الجرأة والتصريح بالرغبة والطلب.
وتجاوز الأمر إلى قضية التهديد والوعيد له، فاجتمع عليه الترغيب والترهيب، فلو لم تكن لدى الشاب الرغبة ابتداءً فهذا الموقف كفيل بإيجادها.
الأمر الثامن: أنه في دارها وتحت سلطانها وقهرها بحيث يخشى إن لم يجبها إلى ما تطلب أن يناله أذاها فاجتمع له الرغبة والرهبة.
الأمر التاسع: أنه لا يخشى أن تنم عليه لأنها الراضية الراغبة، فيزول لديه خوف الفضيحة ومعرفة الناس بما قارف من سوء.
الأمر العاشر: قربه منها وكونه مملوكاً لها مما يؤرث طول الأنس، فهو يلقاها كل يوم ويراها، ويدخل عليها في أحوال لا يدخل عليها فيها غيره، وهذا يدعوه إلى أن يرى منها ما لا يرى منها غيره.
الأمر الحادي عشر: استعانتها بأئمة المكر و الاحتيال وهن النساء، قال تعالى: (وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين. فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعدت لهن متكئا وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن) فهي هنا استعانت عليه بالنساء وهن أئمة المكر والاحتيال، بل قال بعض أهل العلم : إن كيد المرأة قد فاق كيد الشيطان فقد قال :(إن كيدكن عظيم) واللّه قد قال في آية أخرى: (إن كيد الشيطان كان ضعيفا) . ولكن لاشك أن المرأة الصالحة القانتة التائبة العابدة بعيدة عن هذا كله المهم.
والمقصود أن المرأة استعانت عليه أيضا بالنسوة مرة أخرى، فالموقف قد تكرر مرة أخرى فهي بعدما راودته عن نفسه وامتنع، استعانت عليه بالنسوة لتصيد عصفورين بحجر واحد؛ أن تكيد للنسوة وتنتقم مما قلنه في حقها، وأن تستعين عليه بهن، فتجمع النسوة وتعطيهن الطعام، وتأمره بأن يخرج عليهن، فيبهرهن جماله، ويقطعن أيديهن دون أن يشعرن بذلك، فكيف بيوسف عليه السلام وهو يتعرض للمراودة مرة أخرى، ويسمع هذا الوصف من النسوة، ويسمع هذه المرأة تصرح بالسوء وتعلنه بكل جرأة ووقاحة.
الأمر الثاني عشر: التوعد بالسجن والصغار؛ فإنها قالت (لئن لم يفعل ما آمره به ليسجنن وليكوناً من الصاغرين) وهي تملك ذلك؛ فهي زوجة العزيز، والأمر بيديها، وهي ممن وصفت بالكيد العظيم وقد ثبتت قدرتها على ذلك فدخل يوسف عليه السلام السجن ولبث فيه بضع سنين.
- الأمر الثالث عشر: أن الزوج لم يظهر الغيرة والنخوة التي تليق بالأزواج، فحين شهد الشاهد واتضح الأمر أمامه. قال هذا الزوج الديوث ليوسف عليه السلام (أعرض عن هذا) وقال للمرأة (استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين) وانتهى الموضوع، فليس هناك ما يدعو لإثارة الموضوع ولا إثارة المشكلات((ينقل كلام سيد قطب رحمه الله))
وهناك أمر رابع عشر: يمكن أن نضيفه إلى ماذكر الحافظ بن القيم رحمه اللّه : أن يوسف نشأ في هذا البيت، بيت أحسن أحواله على الأقل أن يقول إن قضية الفاحشة قضية سهلة. وحتى الرجل الذي يفعل الفاحشة لا يمكن أبدأ أن يقبل أو يرضى أن يكون هذا في أهله. بل مجرد التهمة تدعوه إلى قتل زوجته أو مفارقتها لكن يوسف عليه السلام قد حفظه الله، فلم يتأثر بهذا المجتمع الذي يعيش فيه.
هاهو يوسف عليه السلام يعيش هذا الموقف بظروفه وملابساته، وتجتمع عليه هذه المثيرات، فينجيه الله تبارك وتعالى منه ويثبته على طاعته.
إن الشاب المسلم اليوم ليتطلع إلى هذا النموذج ويتخذه مثلاً له يسير عليه، كيف لا وقد أخبر الله تبارك في مبدأ هذه السورة بشأن هذه القصة بقوله تعالى :(نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذه القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين). وقال: (وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين) وقال :(أولئك الذين هدى اللّه فبهداهم أقتده فل لا أسألكم عليه أجراً إن هو إلا ذكرى للعالمين).
وشهد النبي r ليوسف عليه السلام بأنه من خير الناس، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قيل يا رسول الله: من أكرم الناس؟ قال :"أتقاهم" فقالوا: ليس عن هذا نسألك، قال:"فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله" ، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال:"فعن معادن العرب تسألون؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". متفق عليه.
هذه نماذج يتطلع إليها الشاب المسلم اليوم، وهو قد لايصل إلى هذه المنزلة ولن يصل إليها، وأنَّى لامرئ أن يصل منزلة أنبياء اللّه، لكنه يجعل هؤلاء مثلا وقدوة يقتدي بهم.
وقفات تفسيرية:
ليس الحديث عن تفسير السورة وآياتها مجال حديثنا هنا، لكن هناك بعض الآيات تحتاج إلى وقفة عاجلة وذكر لما قاله المفسرون فيها، ومنها: