[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] كان الشارع الملتوي التواء ثعبان ضخم ..فارغ في هذه الساعة المتأخرة من الليل ..إلا من أعمدة النور العملاقة التي تراقب سكون الشارع بفضول, متغامزة ربما مع النجوم التي تنقط وجه السماء المعتم باطمئنان ..أما الصمت فقد كان مهيمناً بوقار لا يشوبه إلا مواء القطط من حين لآخر في شجار دامٍ على فتات منسي في أحد أكياس القمامة الملقاة هنا وهناك بإهمال على خد ذلك الشارع الضيق من أحد شوارع العاصمة الفقيرة ..عندما ظهر من بعيد خيال رجل ما .. يترنح في منتصف الشارع .. لا يكاد يقوى على الاستقامة ..كان يمشي الهوينى فهو ليس في عجلة من أمره للوصول لأي مكان , بل ربما على العكس كان يحاول قتل الوقت و هو يمشي متثاقلاً ..لكن الحق أن لا أحد يعرف من منهما قتل الآخر , كان يتلفت و كأنه يودع الزقاق ..موزعاً نظراته التائهة من عيون أجبرتها قسوة الأيام و ضنك العيش على الاختباء في حفرة الأسى , لكلأنها خجلى من مواجهة الحياة ..انه صابر عرفته كل زاوية من زوايا الزقاق الحزين و عانقه كل جدار من جدرانه فهنا ولد و هنا ترعرع , و من يدري فربما هنا يموت أيضا , وأخذ كل حائط على عاتقه إسناد الرجل من حين لآخر ,عله يستطيع الوصول إلى منزله , فهنا في الشوارع الفقيرة يسري قانون وحدة الحال فيصبح الإنسان و الجدار و القمامة و القطط متشابهين حتى لكلأنهم شيء واحد ,انه قانون العدم , و ربما استمدت عقوبة الإعدام اسمها من هنا بالذات . (الله يرحمك يا أبي ) قال صابر بصوت غمس في مائدة الأسى حتى تشبع , و أكمل ترنحه في اتجاه ما كان في داخله يتعمد الابتعاد عن منزله و لو انه ليس لديه مكان آخر يقصده , لكنه لن يستطيع أن يواجه الأفواه الجائعة..وهي تجري إليه بمجرد وصوله متأملة بشيء من الطعام لا يحمله , فتنظر إليه مستغيثة أو ربما معاتبة ..بينما أنات أمه المريضة و التي تخرج من أعماق روحها المتألمة, تمزق سكون الخيبة وتضفي عليها مسحة مأساوية, و إن كانت لا تنقصها, و هو لا يملك ثمن الخبز لعياله, فكيف بثمن عملية لا تجرى إلا في مشافٍ خاصة من فئة الخمس نجوم. و كيف سينظر في عيون صغيراته الأربع و هن يجرين إليه حالمات بمذاق الخبز الساخن اللذيذ و بعض من الجبن أو حتى بدون الجبن, لا فرق أي شيء يسد الرمق , فقد أصبح الخبز الساخن الطازج, رفاهية لا يملكنها مذ فقد الأب عمله المتواضع منذ حوالي سنة , و بالرغم من انه اعتاد على تلك النظرات الجائعة من البنات , و على اللوم المتواصل من أمهن إلا أن للحظة دخول المنزل و اختراق كل هذه الحواجز طعماً يزداد مرارة كل يوم . كم تمنى أن يهبه الله بنيناً بدل البنات .., و لو صبي واحد ربما استطاع مساعدته بطريقة أو بأخرى ..لكنها مشيئة الله ..عندما ولدت له ثاني بناته قال لزوجته ..(كفاها الله ...لنتوقف بضع سنوات ريثما يرزقنا الله..لا أريد أن يموت أولادي جوعاً) إلا أنها لم تعره أذنا صاغية ست سنوات من الزواج حصيلتها أربع بنات ..لا يكاد يرى امرأته إلا حاملاً آو مرضعاً ..لم يرها يوماً امرأة ..أنثى... بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة.... لم يرها إلا حاملاً أو مرضعاً , اختارتها له أمه ..قالت له (أريد أن أفرح فيك قبل ما موت )..لكنه مات بعد أن فرحت به , مات في سعيه الدؤوب ..لعمل يستر به عورة الحاجة و يرد ديونه , و يشبع أفواهاً صغيرة ..لم يكن ذنبها أنها ولدت حاملة اسمه , حاول عبثاً أن يقنع أمه أن تؤجل مسألة زواجه..فما زال يرزح تحت وطأة الديون بعد أن زوج أصغر أخواته ..أخته تلك التي كانت مدللة لديه ..فبالكاد كانت تمشي حين توفي أبوه تاركاً له ميراثاً من الأفواه و الديون..خمس بنات و ديون مبعثرة هنا و هناك ..و مزيد من مرارة حنظل الفقر متناثرة على أيام عمره لا يكاد يفلت منها يوم واحد. و منذ ذلك اليوم و هو يجري جري الثور المربوط إلى الساقية ..تحمل عبء تربية الفتيات الخمس و تزويجهن ..فيما أمه كانت تنهار شيئاً فشيئاً..كان يحضر لها أدويتها كاملة و لو اضطر إلى الصوم ..لكن حالها كان يسوء يوماً بعد يوم ..فزوجته لتقر عيناً بأولاده ..لم يكن قد نفض غبار الديون عن كاهله عقب تزويج آخر أخواته ..حين وضعت على كاهله عبء الزوجة التي ما أن وطأت عتبة البيت حتى بدأت بالتفريخ لكلأنها تضع له نقوداً و جواهر ..آه نقود ..كم يتمنى أن يصبح غنياً ..و لو ليوم واحد في حياته و ليكن آخر يوم في عمره ..يموت بعده. لم يكن من عادة صابر مقارعة الخمر ..حتى انه لا يملك ما يشتري له كأساً واحدة ..إنما هذه الليلة ..و بينما هو يتسكع في متاهات الحواري و الأزقة ..باحثاً عن بقايا طعام ..عافته القطط أو لم تكتشفه بعد أو لم يوافق مزاجها "القططي" , و لو أن قطط هذه الأزقة مثل أهلها لا تعاف شيئاً (كله نعمة كريم ) ...إنه قانون العدم ذاته الذي يجعل القمامة وليمة تتنافس عليها القطط و البشر , صادف أحد أصدقائه ..الذي أصر على دعوته إلى شيء يسمى بالمصطلح ..حانة..وهي بالواقع أشبه ما تكون بكهف رطب, تفوح منه رائحة العفونة الممزوجة برائحة أنواع المشروب الرخيص, و رائحة العرق الصادر من أجساد كدت تحت الشمس حتى الهلاك ..و ما الفرق كله عرق..تكاد تكون ميزة هذا المكان الوحيدة انه يتقاضى أسعارا منخفضة تتناسب مع الجيوب الفارغة لمرتاديه..حانة بدون نجوم لأناس لا يملكون شمساً و لا حياة و الحقيقة أنهم لا يملكون شيئاً على الإطلاق ..أقل بكثير من أن ندعوهم أحياء..و أكثر بقليل من أن ندعوهم أشباحا. و هكذا ذهب صابر مع صديقه هذا و أفرغ في جوفه كل ما استطاع من العرق الرديء ذي الطعم اللاذع , كان يكابد شعوراً قاتلاً بالذنب و هو يروي ظمأه بالعرق و أمه تتلوى ألماً , و بناته ..يصرخون جوعاً , حاول مراراً أن يستجمع شجاعته ليطلب من صاحبه هذا أن يقرضه تلك القروش التي سيدفعها ثمناً للمشروب الذي دعاه إليه ,,فيذهب إلى منزله حاملاً بعض الخبز لأطفاله , لكن الشجاعة خانته في بداية الأمر , و ما هي إلا لحظات حتى دار الخمر في رأسه ..و لم يعد يفكر بذلك ..لكن ما حدث بعد ذلك جعله ينقلب على ظهره من شدة الضحك , فصديقه أيضاً لم يكن يملك قرشاً في جيبه , لكنه من الزبائن المداومين على تلك المقبرة الرطبة ..لذلك ما كان عليه إلا أن يضيف ثمن العرق الرديء ..إلى دفتر الحساب العفن , ضحك صابر كما لم يضحك منذ زمن بعيد , ضحك حتى هطلت دموعه مدرارا من عينيه , و بانت أضراسه المتآكلة السوداء ليس من تراكم الحلويات بل من تراكم الفقر و الإهمال ..ثم ما لبث أن بكى بحرقة طفل ضاع عن أمه. كم كان يحلم بالثراء ..لو أن السماء تمطر ذهباً لمرة واحدة..لو آن ورقة اليانصيب تفوز ..حتى تغرقه و تغرق أمه و زوجته و بناته الأربع..فيستيقظ في اليوم التالي ..و هو يرتدي بدلة أنيقة ..و يضع ربطة عنق و يلبس حذاء لامعاً..ويجري العملية لأمه في أحسن مشافي البلد ..مشفى خمس نجوم كما يقال ..و يشتري لزوجته رداء أحمر للنوم ..ناعماً..شفافاً..و زجاجة عطر من تلك الزجاجات الأنيقة التي تزدان بها واجهات محلات العطور..كم كان يشتهي أن يستنشق العطر النسائي الناعم مسكوباً على جسد زوجته ..و يقتني منزلاً كبيراً و سيارة فارهة ..و يشتري لبناته ألعابا و ثياباً و يطعمهم همبرغر..كان يشتهي أن يطعمهم همبرغر ..لقد تذوقه مرة واحدة ..في فترة النقاهة من المسؤولية التي حظي بها أيام الخطوبة ..كان لذيذاًً ساخناً و رائحته تبعث الشهية في نفس المتخم فكيف ببناته الجائعات..كم يتمنى لو يحضر لهن وجبة كهذه ..و يراقبهن و هن يلتهمن الطعام بشهية .. لكن شيئاً من هذا لن يحدث . .تنهد صابر قائلاً في نفسه (الله يرحمك يا أبي ) لم يغب أبوه عن ذهنه في هذا اليوم ..فقد رآه في الحلم الليلة الماضية آتياً إليه ..و بادره بالسؤال معاتباً (ليش تأخرت عم استناك من الصبح ) و أفاق من النوم و منذ ذلك الوقت و هو يفكر بأبيه ..حتى و هو يترنح سكرا و يرتمي على الجدران الوسخة فتتلقفه بحنان و تسنده مشفقة على حاله و كأنه ولدها و كيف لا و قد عاشوا سنوات تحت ظل قانون العدم ..و كيف لا و قد راقبته هذه الحيطان مذ كان طفلاً يلعب مع خليل ابن الجيران و بقية أصحابه على صفحة خد هذا الشارع ..إيه يا زمان لو تتركنا صغاراً ..صحا صابر فجأة على ضوء شديد بهر ناظريه ..بينما ثقب أذنيه صوت حاد لمكابح سيارة .. فاجأها شيء ما أمامها..بينما هي تسير بسرعة جنونية ,,كان آخر ما خطر في بال صابر (لو أنني أمتلك مثل هذه السيارة يوما واحداً آخذ فيه أسرتي في نزهة ليروا ما أجمل الحياة من خلف هذه النوافذ المغلقة.........)عندما ضربته السيارة بقوة , و أسرعت هاربة من قتل كائن ما, ربما كان الموت هو أرحم ما قد يصيبه, لم يستطع أن يعرف صاحب السيارة ما الذي ضربه تماماً ففي هذه الأزقة تتشابه الجدران و القطط و الناس ,كما أن الزجاج القاتم يمنع روائح هذه الأزقة العفنة و شكلها المزري من التسرب إلى الداخل لئلا تؤذي عيون أصحاب السيارات الفارهة فيصابون بنوبة رحمة أو إنسانية أو على الأقل بعض الاكتئاب أو التعاطف , ترنح صابر مجدداً لكنه هذه المرة صفع خد الشارع بقوة بعظامه البارزة , و غرق في بركة من الدم , فتح عينيه ليجد أباه واقفاً فوق رأسه يمد له يده ..ليساعده على النهوض , قال صابر في نفسه( كنت أعلم انك ستأتي ), أما قال انه ينتظره منذ الصباح ... بدأت قوى صابر تنهار دفعة واحدة بينما كانت الأفكار تتدافع في رأسه المدمى ... تذكر انه لم يحضر الخبز و لا الدواء ..و تذكر أيضا انه قد طرق كل الأبواب لأجل ذلك لكنه مني بالفشل ..أخذ صابر يتفوه بكلمات متباعدة و كأنه يهذي من أثر الضربة التي تلقاها : بعدها ..أمسك صابر بيد أبيه و سار معه في اتجاه ما ليس من الاتجاهات الأربعة التي نعرفها ...فتح أبوه باباً فإذا وراءه نور شديد أعمى عيني صابر فلم يعد يرى أو يسمع و لم يعد يشعر بأي شيء .. و هكذا مات صابر. مجلة نور الادب
|