عندما كنت طفلا، رجوت والدّي ألا يعبرا بي ـ أثناء التجول ـ من أحد الشوارع قرب كاتدرائية «سان بافون».
شارع صغير ريفي هو، ببيوت صغيرة وبائسة برائحة البخور والحوامض التي ترافق موسم الصوم الأربعيني، رفع والداي كتفيهما بلا مبالاة، ثم انهما ـ ما داما لا يعيران أي اهتمام لمخاوفي ـ قاما بدفعي أمامهما للسير في الشارع البغيض. صامتا كسمكة، كنت اشعر بخوف وتوجس كبيرين.
بعد هذا، اختفى ذلك الرعب. لكنني مع ذلك كنت أتحاشى الشارع بشدة. وفي أحد الأيام، وكنت وقتها في أوائل العشرينات، كنت أسير قرب «الالكريكية»، وإذا بي أفاجأ بوابل من المطر. كان ذلك، اعتقد، في أحد مساءات العيد، وكنت متعجلا للعودة إلى المنزل، حيث تنتظرني متع كثيرة هناك. هكذا اختصرت الطريق: عبر الشارع الكريه بالطبع.
هناك لاحظت أن أحد المنازل البورجوازية قد تحول إلى مخبزة. ياه! كم أحب الكعك المحلى.
كان هناك بريق يتحرك كبندول الساعة مسقطا قوسا ذا ألوان متعددة فوق الطوار. وفوق الرفوف تتربع أنواع من الحلوى المتعددة الأشكال. هرم من الكعكات الصغيرة آثار انتباهي بشدة. دفعت الباب، فانتشر في المكان صدى القطع النحاسية الصغيرة المعلقة في خيوط عدة لتعلن مجيء الزبون. لكن، لم يحضر أحد.
ناديت: «هل يوجد أحد هنا؟». لكنني لم أتلق إلا الصمت كجواب. كانت هناك ستارة بنفسجية تفصل المكان عن صالة أخرى. رفعتها لأكشف عن صالة أنيقة وصغيرة للأكل الخفيف. كانت النافذة مقفلة بإحكام بدفتين زجاجيتين ملونتين. كانت مضاءة من الخارج بواسطة ستارة حمراء شفافة، اعتقدتها في بادئ الأمر نارا كبيرة متأججة.
أطلقت نداء ثانيا لم يكن ذا جدوى.
كان هناك ـ أيضا ـ باب جانبي يفترض أن يؤدي إلى ممر داخلي. كان مغلقا ولم استطع فتحه. في الخارج، ازداد المطر حدة وتكاثف الظلام. فجأة اتخذت قراراً في لا مبالاة لم أعهدها في نفسي.. كشفت عن هرم الكعكات ذاك وحشوت كيسين من الورق بها وأنا أقول لنفسي: «سأعود غدا لأؤدي ثمنها».
الجميع قالوا بأنها ـ الكعكات ـ ممتازة، كل من ذاقها اعترف انه لم يذق مثلها في حياته، وقد كان هذا صحيحا إلى حد بعيد.
لم اعد في الغد إلى المخبزة، لكن بعد أيام من ذلك. لم تكن هناك أية مخبزة! بل وجدت نفسي أمام ذلك المنزل البورجوازي الذي كنت أراه دائما.
اتجهت إلى حلاق مجاور للمنزل واستفسرته عن الأمر..
ـ مخبزة؟! لم توجد هنا أبدا ـ قال الرجل الطيب ـ منذ عشرين سنة وأنا اعمل هنا. أؤكد لك أنك مخطئ.
لكن، هناك ثلاثة شهود يؤكدون لي أنني لم أكن ضحية حلم أو هلوسة، فعندما فاجأني المطر، كنت رفقة «فيليكس ويدني» أحد أصدقاء الدراسة. وعندما خرجت من الشارع، وفي نقطة التقائه مع شارع «ميروار»، قابلت جارتي «مدام بون» التي قالت لي: إن أكياسك الورقية ستبتل وتتمزق. أعطنيها، سأضعها تحت معطفي.
ثم إننا ـ نحن الاثنين- تابعنا الطريق معا.
والكعكات الصغيرة.. لقد أتينا عليها عن آخرها، وقد كنا ثمانية أو عشرة أشخاص ممن شهدوا بمذاقها اللذيذ جدا!! كيف حدث ما حدث إذن؟ لن أستطيع أن اعرف أبدا.
ــــــــــــــــــــ
قصة قصيرة مترجمة من الأدب العالمي لكاتبها "جون راي "*
** «(جون راي) كاتب بلجيكي (1887 ـ 1964)، كتب نصوصا عديدة باللغة الفرنسية والفلمانية، كان يعشق السفر والمغامرة. نشر الكثير. لكن احدا لم يلتفت إلى نتاجه إلا بعد موته. ليعد ـ بعد هذا ـ من بين اكبر الكتاب البلجيكيين المعاصرين»
**ترجمة: عبد الواحد استيتو - المغرب