رســــــائل حبيبــــــة
* قبل عشر سنوات كانت تسكن بجوارنا هنا في العريش
أسرة فلسطينية.. كانت هذه الأسرة صديقة لأسرتنا بحكم
الجيرة.. و كانت تربطني بابنتهم الوحيدة صداقة حميمة ـ
رغم أنني أكبرها بسنوات.. كانت تحبني بشدة وتحب
أولادي ـ وكنا نبادلها نفس الحب والشعور... سعت هذه
الأسرة الصديقة إلى السفر للوطن بشدة ـ للانضمام
لعائلتهم التي يقيم معظمها هناك... وسافروا..!
بحق إفتقدناهم وافتقدنا عشرتهم الطيبة..
* تألمت لفراق صديقتي الجميلة( حبيبة ) التي لا تغني
الرسائل المتبادلة بيننا عن رؤيتها والجلوس معاً..
لقد افتقدتها بشدة ـ خاصة أنها كانت صديقتي الوحيدة..!!
* على الرغم من أن رسائلنا متباعدة ـ إلاّ أنها تحكي
لي فيها عن كل أخبارهم ـ خاصة ً أخبارها
هي الخاصة.. وأنا بدوري أحرص على أن أبعث
لها في رسائلي ما يؤنسها ويؤازرها في تلك الظروف
الصعبة التي يعيشونها .. رسائلنا نبعثها عن طريق
عمتها التي تقيم في مدينة رفح المصرية ـ وترسلها
هي بواسطتها عن طريق التجار الذين يتبادلون البضائع
مع الفلسطينيين عن طريق (السلك) الذي يفصل بين رفح
المصرية ورفح الفلسطينية.. أو حين تأتي العمة لزيارة
ابنتها المتزوجة في العريش تأتي لي برسائل ( حبيبة )
وتأخذ رسائلي إليها..!!
(( وهذه مقتطفات من بعض رسائلها إلي ))..!!!
* وصلنا يا صديقتي بالسلامة ـ وأقمنا في بيت
عمي الكبير..!
* أشعر بخوف شديد ـ وأفتقد الأمان... !!
* شعرنا ببصيص من الأمل بعد الاجتماع الأخير ...!!
* لم يمر يوم بدون قتل واعتقال ـ وتهديم بيوت..!!
* أخاف على أخي وابن عمي اللذان يخرجان تقريبا ً
كل يوم للاشتراك في التظاهرات والاشتباكات مع
العدو الذي لا يرحم كبيرا ً أوصغيرا ً...!!
* الليالي هنا يا صديقتي طويلة ـ أطول منها في أي مكان
ولا ينقشع سوادها بشروق الشمس ونور النهارـ
بل يظل السواد والخوف يملأنا أكثر من خوف الليل ـ
ففي النهار يكثر القصف والإصابات والقتل.!
* إقترب الاطمئنان مني ـ والحب طرق باب قلبي
لأول مرة ـ طرقه (جهاد) ابن عمي.. !
* الحزن يلف عائلتنا ـ فقد سقط منها ثلاثة شهداء في
لحظة واحدة مع غيرهم وهم يؤدون صلاة الجمعة
في السجد الأقصى ..!!!
* صديقتي ـ لقد خطبني جهاد ابن عمي..!
* علمتي طبعا ً من عمتي أن والدي قد توفي متأثرا ً
بإصابة في رأسه أن وعمي اعتقلوه في نفس اليوم ..!!
جهاد صار هو المسئول عني وعن أمي
وأخي ـ بجانب مسئوليته عن أمه وأشقاءه ..!! .
*** *** *** ***
** وهذه رسالة جميلة من صديقتي أسعدتني للغاية..
* بالأمس كان عرسي على ابن عمي وحلم عمري (جهاد) .
** هذه أيضا ً رسالة أخرى جميلة..
* أنتظر حادثا ً سعيداً بعد ثلاثة أشهر ...
قضينا وقتا ًجميلا ًـ نسينا فيه همومنا
وأحزاننا بعض الوقت ونحن نختار اسما ً للمولود الذي
يتمناه جهاد ولدا ًـ وأنا أريد بنتا ً.. لكني تنازلت له عن
رغبتي في إنجاب بنت ـ بشرط أن يكون مثله
قلبا ً وقالبا ً..!
* جاءني جهاد وقال لي وهو سعيد للغاية أنه سيزور
والده في السجن لأول مرة منذ اعتقاله .. قال أنه
سيذهب بعد صلاة الجمعة ـ هو ووالدته وعمته
للزيارة التي طال انتظارها ..!!
** إنقطعت رسائل حبيبة مدة.. !! .. ثم أرسلت
لي بهذه الرسالة القاتمة.!!
* في اليوم المشئوم ـ ودعني وجنيني بحرارة ـ وخرج
لصلاة الجمعة في المسجد كعادته.. وودعته
بالدعاء.. وواصلت عملي في تجهيز طعام الغذاء لحين
عودته من الصلاة وقبل موعد زيارة والده...
يومها لم يعد.. طال الانتظار.. ولم يعد.. لم يزور والده
الذي يشتاقه.. ولم يودع أهله وأحبابه.. ولن يكون في
استقبال ابنه الذي سيولد بعد أسابيع قليلة.. لم يمهله القدر
ليرى تحرير القدس حلم عمره.. عمره
الذي قصفته يد آثمة برصاصة اخترقت قلبه ـ وقلبي..!!
وأكملت حبيبة باقي رسالتها بدموع حارقة عكست تلك
النيران التي اشتعلت المسكينة في قلبها ..!!
** وهذه رسالة فيها أول ابتسامة منذ استشهاد
زوجها خصت بها وليدها الذي أخذ كما قالت كل ملامح
أبيه كما تمنت.. عينيه الواسعتين الثاقبتين.. وأنفه الطويل
الشامخ.. وقبضة يده القوية ..!!
*** *** *** ***
** وبعد فترة جاءتني منها رسالة..!!
* اليوم زرنا قبر جهاد.. قلت له: قم يا جهاد يا أبو جهاد..
إحمل طفلك ـ الذي أسميته باسمك ـ
أقسم يا صديقتي إنني رأيت قبره يتحرك أمامي.. يعلو قليلا ً
ويهبط .. لم أخف ولم يقشعر بدني ـ بل شعرت بسعادة ـ لأن
بذلك أنه يسمعني ويشعر بوجودنا أنا وجهاد
الصغير... وفي الطريق كنت أصب اللعنات على هؤلاء
القتلة المغتصبين لأراضينا وأرواحنا .. وأحتضن صغيري بقوة ـ
** وفي رسالة تصف لي فيها مدى سعادتها بصغيرها
الذي كبر و صار يحبو .. و يمسك بالحجر.!!
قرأت رسالة صديقتي الأخيرة لي .. ونمت..!!
** وهذه رسالة تختلف عن كل رسائلها السابقة ـ بلونها
الأخضر الزاهي.. قالت لي فيها والسعادة تكاد
تنطق من بين السطور .. تقول أن ابنها قد كبر وصار
صورة طبق الأصل من والده ـ حتى شاربه ـ و نظرة الصقر
في عينيه.. وقوة الصخر في ذنديه.. وإصراراً يرعش
شفتيه..!!! * قبل جهاد يدي أمه.. و.. وضع اللثام على
وجهه حتى لم تظهر منه سوى عينيه اللتان تمتلئان
بالإصرار .. ! . إنتظرته .. طال الانتظار..
تذكرت انتظارها لوالده.. عانت ثانية
نفس عذاب الانتظارـ ومرارة الخوف إن لم يكن أكثرـ فليس
أغلى على الأم من فلذة كبدها ـ لكن الله كريم.. عاد الابن..
عاد والحنة تزين كفيه.. تزين ذنديه وصدره ..
إنقبض قلبها حين رأت الدماء تملأه..
لكنه سارع واحتضنها بكل الفرحة.. إحتضن الخوف
بداخلها.. طمئنها.. وقفز يرفع يده بعلامة النصر
وقال بصوت متحرر.. النصر تحقق
يا أمي.. وفلسطين عادت لنا.. عادت لنا... و..) !!!
** لم تكن تلك الرسالة الخضراء الزاهية سوى حلمي.!!
حلمي الذي صحوت منه على الواقع المرـ
أو على مر الواقع..!! فمازالت فلسطين محتلة..
ومازالت الجرائم البشعة تقع كل يوم..
و.. ومازال العالم يتفرج .. والحكام ..!!!!
ــــــــــــــــــــ
فاطمة أحمـد[center]