قيام الدولة الموحدية بالمغرب:
د. محمد بن العياشي
من الصعب حقا التعريف بهذه الدولة التي حط عليها طائر الجهاد على مدار قرن تقريبا، ولهذا سنكتفي بإطلالة مختصرة عليها، من خلال إلقاء الضوء على ظروف ظهورها في خريطة المغرب. أ- ظهور الموحدين: إن قيام الدول الموحدية قد تم في ظل دعوة التوحيد( ) التي قادها محمد بن تومرت الملقب بالمهدي انطلاقا من أجواء تنمل بمنطقة سوس منذ (سنة 515هـ) وسط قبائل مصمودة (من البربر البرانس)( ) التي ينتمي إليها الموحدون، حيث توسل بالجهاد للإعلان عن قيامها اعتمادا على نقطتين؛ تتمثل الأولى في دعوة المهدي الإصلاحية إلى تغيير المنكر استنادا على مبدأ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وقد ابتدأت هذه المرحلة –كما يزعم المؤرخون منذ وجود المهدي بديار المشرق. أما النقطة الثانية فتتجلى في دعوته إلى الجهاد القتالي من أجل تغيير المنكر الذي حصره في المرابطين، متهما إياهم بالمشاركة فيه، وتشجيعهم عليه، والتراخي عن التصدي له. كما اتهمهم بالجمود والاقتصار على علم الفروع دون الأصول، وبلغ به الأمر إلى رميهم بالكفر والتجسيم. وهي قضايا سنتعرض لها بالتفصيل من خلال معالجة رسائل الباب الأول من هذا البحث. ب- التوسل بالجهاد لتغيير المنكر: لقد خاض المهدي وأتباعه( ) عدة معارك داخلية لتغيير المنكر في ضوء فهمهم لهذا المبدأ وهي مرحلة أولى من جهادهم يمكن تسميتها بمرحلة الثورة أو مرحلة المهدي( ) بن تومرت (من 515 هـ إلى 524هـ). وهناك مرحلة ثانية من المعارك يمكن نعتها بمرحلة الدولة (ابتداء من سنة 541هـ) التي قادها عبد المؤمن بن علي الكومي وأبناؤه( ) الذين زاوجوا فيها بين الجهاد الداخلي ضد عدد من الفتن والثورات المحلية، والجهاد الخارجي ضد العدوان المسيحي على الأندلس؛ معتبرين جهادهم وبخاصة ما كان على المستوى الداخلي جهادا مشروعا لا ينفصل عن جهادهم الخارجي، ومسوغهم في ذلك هو أن الفتن والثورات الداخلية تعوقهم عن مواصلة جهادهم ضد العدو الخارجي المسيحي. وفي ضوء تصورهم الجهادي، هذا استطاع الموحدون إنجاز سلسلة من الفتوح الداخلية والخارجية أفضت إلى توحيد المغرب والأندلس والشمال الإفريقي تقريبا، تحت راية الدولة المغربية. وهكذا سار الموحدون على هذه الحال من الجهاد والنضال إلى أن أخذت بذور الضعف تنمو عقب هزيمة العقاب( ) في الأندلس، حيث اتسعت مساحة الخلاف والتشتت والضعف بين عناصر الموحدين إلى أن انفلتت السلطة من أيديهم؛( ) لتقوم على أنقاضهم دولة بني مرين( ) (أو بني زيان) التي واصلت حمل راية الجهاد رغم تقلص مساحته في عهدها، وذلك بسبب ظروف قيامها ومعطيات أوضاعها الخاصة( ). هذا، وبالاستناد إلى مقارنة طافية بين الدعوتين، يبدو أن هناك اختلافا بينا بينهما وخاصة فيما يتعلق بظروف قيامهما، فالمرابطون قاموا بدافع إصلاحي ديني، واضح في حين قام الموحدون على أساس ملتبس، اصطبغ بالصبغة السياسية والدينية المعارضة. ولعل هذا ما دفع الأستاذ كنون إلى اعتبار الدعوة الموحدية ثورة انقلابية ضد حكم قائم ومستقر( ). ولكننا –مع ذلك- نجد عددا من أوجه التماثل بين الفريقين؛ كتوسلهما معا بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإصلاح الوضع الداخلي. وكلاهما جاهد ضد العدوان المسيحي بالأندلس، واعتبر أعماله العسكرية سواء في الداخل أو الخارج جهادا في سبيل الله. وعلى هذا الأساس، يشكل ترادف صيحة الإصلاح بصيحة الجهاد، نقطة تقاطع أساسية بين الدعوتين، وذلك بالرغم من حدة الخلاف الذي افتعله الموحدون ضد المرابطين. الهوامش: ( ) لعل اللفظ مستمد من المعاني الدينية المقتبسة من القرآن الكريم والحديث الشريف كقوله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) سورة محمد آية 20، وقوله سبحانه: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) سورة الأنبياء الآية 25. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قلبي لا إله إلا الله وحده لا شريك له" أخرجه الترمذي. (وقد اكتسبت عقيدة التوحيد عند الموحدين طابعا فلسفيا يستلهم بعض أصوله من المذهب الأشعري، ويظهر من الرسائل المتعددة التي وضعها ابن تومرت في عقيدة التوحيد ومنها رسالته المشهورة (المرشدة). انظر كتابه أعز ما يطلب، فقد خص التوحيد بسبعة أبواب ابتداء من ص: 312 (تحقيق عبد الغني أبي العزم، ط. 1997م). ( ) انظر مقال : أصول المغاربة للتقي العلوي، مجلة البحث العلمي، ع : 31، السنة 1980، ابتداء من ص: 20 ( ) نذكر منهم عبد المؤمن بن علي الكومي، وعمر الهنتاتي، وأبا محمد البشير، وغيرهم. ( ) كانت مشاركة المهدي بن تومرت من خلال التخطيط للمعارك واختيار قادتها ولكن "دون أن يحارب فيها". انظر الدولة الموحدية، أثر العقيدة في الأدب لحسن جلاب : 25. منشورات الجامعة، الدار البيضاء، ط 2، 1985م. ( ) أشهرهم جهادا ثلاث خلفاء، وهم بالتتابع الأب عبد المؤمن (33 سنة حكما)، والابن يوسف بن عبد المؤمن (22 سنة حكما)، والحفيد يعقوب بن يوسف الملقب بالمنصور (15 سنة حكما)، ونشير هنا إلى أن تاريخ الموحدين يربو على خمسين ومائة سنة (من 515 هـ إلى 668هـ) علما بأن سنة 515 هـ هي بداية دعوة ابن تومرت، أما البداية الرسمية للدولة الموحدية فكانت سنة 54هـ، أي تاريخ الدخول الموحدي الفعلي إلى عاصمة المرابطين مراكش. ( ) أدت هذه الهزيمة –حسب ابن الأبار- إلى خراب الأندلس (انظر التكملة لكتاب الصلة: 165 عني بنشره وصححه عزت العطار الحسيني، مطبعة السعادة، مصر 1955م، كما كانت سببا أساسيا وراء تحيف الروم بالبلاد واستيلائهم عليها (انظر الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية، لمؤلف مجهول : 51، ط. الجزائر). ( ) ذكر العروي أن السلطة انفلتت من أيدي الموحدين أكثر مما انتزعت منهم انتزاعا، وهو يرى أن هذه ظاهرة جديدة في تاريخ المغرب. (انظر مجمل تاريخ المغرب : 2/185). ( ) بنو مرين أسرة زناتية ملكت المغرب من سنة 669هـ إلى سنة 869هـ، واستمر المـلك فـي أحـد فـروعها (بنو وطاس) إلى عام: 954هـ. (انظر عنها الذخيرة السنية: 25، روض القرطاس 205، العبر: 7/206). ( ) تتمثل هذه الخصوصية في أن الدولة المرينية لم تقم على دعوة كالمرابطين والموحدين، ولم تحاول فرض اختياراتها في مجال العقيدة والفقه، بل تركت كل ذلك للفقهاء، (انظر محمل تاريخ المغرب: 2/188). ( ) النبوغ المغربي : 1/99.