قيام دولة المرابطين بالمغرب
د. محمد بن العياشي
ينتسب المرابطون( ) إلى قبيلة لمتونة وهي إحدى قبائل صنهاجة الأم التي تشكل ثلث البربر( ) البرانس تقريبا .و تتعدد الروايات والأخبار حول أصل البربر وسبب قدومهم إلى المغرب: ومن ذلك رواية تقول بأن البربر قدموا إلى المغرب الأقصى على إثر نزاع حدث بين بني حام وبني سام. وكانت الدائرة فيها لسام وبنيه. وكان آخر أمر "حام" أن خرج نحو المغرب. وقدم مصر ومضى في طريقه حتى بلغ سوس الأقصى، ثم خرج بنوه في أثره يطلبونه، فكل طائفة من ولده بلغت موضعا، وانقطع عنهم خبره ، فضطروا للإقامة هناك. وفي رواية أخرى أنه لما تفرق أولاد نوح أقبل البربر نحو المغرب الأقصى، فقطنوه وتناسلوا، واتصلوا مع القبط من أرض مصر آل المغرب الأقصى. وتقول رواية ثالثة إن البربر كان مسكنهم فلسطين من أرض الشام مع الكنعانيين، وكانوا ملوكا. وكان كل من يملكهم يسمى جالوت، كتسمية الفرس: كسرى، والروم : قيصر، والترك :خاقان، إلى أن ملكهم جالوت الجبار فرعون داود عليه السلام. وجلت البربر نحو المغرب. وسكان المغرب يومئذ الروم، فقدم البربر مصر، فمنعتهم القبط والنوب من النزول في تلك البلاد. فصاروا نحو إفريقية، وحاربوا أهلها من الروم والأعاجم، وقطنوا إفريقية والمغرب بعد أن تصالحوا مع أهلها. وكان مذهبهم مذهب الأعراب إنما يسكنون الجبال والبراري. وقد شغلت صنهاجة أجزاء واسعة من شمال إفريقيا ، انطلاقا من تونس ووصولا الى حدود نهري النيجر والسنغال. وتختلف كتب التاريخ بشأن نسب صنهاجة، فبعضها يذهب الى أنهم من عرب حمير( )، وبعضها الآخر ينفي ذلك( ). وتعد لمتونة من أشهر القبائل الصنهاجية، كجدالة ولمطة ومسوفة وجزولة ودكالة وهسكورة( ). وقد أطلق المؤرخون على هذه القبائل صنهاجية - وبخاصةتلك الموجودة منها في الصحراء – اسم الملثمين( ). وأما عن ديانتهم فقد ذكر ابن خلدون أنهم " كانوا على دين المجوسية، إلى أن ظهر فيهم الإسلام لعهد المائة الثالثة "( ). وكان ظهوره على مراحل تمهيدية ساهم فيها الفاتحون الأوائل (عقبة بن نافع وموسى بن نصير)، إلى أن أعطت ثمارها في المائة الثالثة للهجرة ،حيث تحولت هذه القبائل إلى جهاد جيرانها من السودان من أجل الدين. إلا أن إسلامها – مع ذلك - ظل ضعيفا حتى أوائل القرن الخامس الهجري" عندما حدثت فيها تلك الانتفاضة الدينية الإصلاحية التي ألفت قلوبهم ووحدت صفوفهم على أسس دينية وأخلاقية، صحيحة"( ). ولقد شاع بين الدارسين أن فكرة ميلاد الدولة المرابطية تمت في طريق الحج( ) على إثر لقاء جرى بين يحيى بن إبراهيم الكدالي (ت 440هـ) عند عــودته من الحـج، وأبي عمـران الفاسي (ت 430هـ) الذي كان مقيما بالقيروان بعد أن أخرج من فاس بسبب موقفه المتصلب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومناهضة البدع والظلم والطغيان الذي مارسه أمراء زناتة، وهو الأساس الذي قامت عليه الدعوة المرابطية حين ابتدأت بالجهاد لإصلاح الوضع المنحط الذي كان عليه المغرب في ذلك العهد انطلاقا من الرباط( ) الجهادي الذي أسسه عبد الله بن ياسين على مصب نهر السينغال سنة 433هـ، القريب من مملكة غانة الوثنية، ومن ديار الملثمين، والذي كان "منارة شع نورها في ظلمة الصحراء"( ). و من أهم أسسه: الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتزام أحكام الدين وإقامة الحدود والحق، فقد تصدى المرابطون المجاهدون لعدد من الحركات المارقة، والمذاهب الضالة، والديانات المنحرفة التي ظلت منتشرة حتى عهدهم؛ كبدع الزناتيين ( ). والبرغواطيين والغماريين، هذا بالإضافة إلى تحملهم مسؤولية الدفاع عن الأندلس، وحماية المسلمين بها من العدوان المسيحي. ولم تكن المهمة يسيرة، حيث اقتضت من المرابطين إنشاء دولتهم على أساس من دمائهم وأرواحهم، واستنفار كل إمكانياتهم للجهاد على واجهتين (في الداخل وفي الخارج)( )، وهي صورة "لم تعهدها دول المغرب من قبل، إذ ولأول مرة في تاريخ المغرب نجد دولة تجند المجتمع كله من أجل الجهاد، وتسخر موارد الدولة كلها له، وتجعل من البلاد معسكرا ضخما يتجاوب بأصداء القتال"( ). أجل، لقد حمل المرابطون صخرة الجهاد على عاتقهم، وذلك طيلة أيامهم بالمغرب( ) حتى ذهبت ريحهم في سبيله( )، حيث حصدت المعارك زهرة رجالهم ومواردهم، فضعفت دولتهم، وكثرت معارضتهم، واضطربت أحوالهم( )، إلى أن كتب لهم الزوال، لتقوم دعوة مغربية جديدة تتبنى الخطوات نفسها لتصحيح الوضع الداخلي انطلاقا من المبدأ ذاته، مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومواصلة الجهاد لنصر الملة وإنجاد المسلمين بالأندلس، وإن اختلفت مع سابقتها في الدوافع والمنظور المذهبي.
ــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) انظر عن قيامهم بالمغرب والأندلس، روض القرطاس : 151، والبيان المغرب ابتداء من: 4/7 تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة بيروت، ط 2، 1980: والعبر: 6/89، وقيام دولة المرابطين: 49. (2) انظر: مفاخر البربر لمجهول 254 و255. (3) العبر : 6/90 ، روض القرطاس : 75 ، المختصر في أخبار البشر : 174 ، وفيات الأعيان : 7/128 ( ) ذكر صاحب الترجمان المعرب أبو القاسم الزياني (ت 1833م) أن " من زعم أنهم من حمير فقد أخطأ . والصحيح أنهم من البربر. قال ابن خلدون " تأبى البربر أن تخرج صنهاجة منها " . انظر الترجمان المعرب ، مخطوط الخزانة العامة بالرباط رقم : 658 د . ( ) عدها ابن الخطيب 70 قبيلة. (انظر: أعمال الأعلام: 3/225). ( ) الملثمون نسبة إلى اللثام، وقد اختلف المؤرخون في تفسير سبب اتخاذ المرابطين له. فهناك من ذهب إلى أن صنهاجة وفدوا إلى المغرب من اليمن بعدما فروا بدينهم من الكفرة الذين تغلبوا عليهم ، فتلثموا إخفاء لوجوههم. وهناك من قال بأنهم اتخدوه وقاية من عواصف الصحراء الرملية ، وبردها وحرها . وقيل بل هي عادة أسياد حمير فكثر ذلك حتى صارت تفعله عامتهم. وقيل إن سببه أن طائفة من لمتونة خرجت غازية فخالفها العدو وهاجم بيوتهم التي لم يكن بها إلا المشايخ والصبيان والحريم ، فلبست النساء اللثام حتى لا يعرفن . وقيل إن المرابطين لجأوا إلى اللثام للانتقام من المهاجمين، وذلك بإشارة من أحد مشايخهم الذي طلب منهم أن يبعثوا بالنساء ، فإذا أتاهم العدو وظنوهم نساء خرجوا عليهم ، ففعلوا ذلك، وثاروا عليهم بالسيوف فقتلوهم، فلزموا اللثام تبركا به بالنساء بما حصل لهم من الظفر بالعدو. وقيل بأنه يرجع إلى أصول دينية قديمة. (انظر عن اللثام : العبر: 6/181 ، الحلل الموشية: 19 ، المختصر في أخبار البشر 175 ، قيام دولة المرابطين 49). ( ) العبر: 6/215 ( ) في التاريخ العباسي والأندلسي لأحمد مختار عبادي : 480، دار النهضة العربية، بيروت، 1972م. ( ) لم يكن قيام الدولة المرابطية وحده وليد الرحلة والحج، بل تعدى ذلك إلى المذهب المالكي الذي اعتنقه المغاربة دون غيره من المذاهب، والذي يعزى في أحد أسبابه إلى تردد الحجاج المغاربة على الحجاز أكثر من أي جهة أخرى، وبخاصة مع مجيء المرابطين، حيث كثرت رحلات المغاربة إلى الحج، ويمكن أن نستدل على هذا بمن ذكر منهم في معجم السفر؛ فقد بلغ عدد الحجاج المغاربة الذين ذكروا في هذا الكتاب أكثر من مائة حاج. انظر: معجم السفر للحافظ السلفي (ت 576هـ): 512-654، تح: عبد الله عمر البارودي، ط. دار الفكر بيروت 1993م. ومما يدل على ذلك أيضا "أن المغرب أصبح له وجود رمزي في الحرم المكي، فقد ورد في كتاب الاستبصار ذكر حطيم علي بن يوسف بن تاشفين داخل المسجد الحرام مع حطيم صاحب بغداد وحطيم شاه شاه، وغيرهما من ملوك ذلك الوقت". (انظر الاستبصار في عجائب الأمصار لمؤلف مراكشي مجهول عاش في القرن الثامن هجري: 12-13. وانظر أيضا: "الأمير المرابطي ميمون بن ياسين" محمد شريفة، مجلة دعوة الحق، ع: 10، سنة 2002، ص: 25). والحطيم هو بناء قبالة الميزاب من خارج الكعبة، المعجم الوسيط: 183. قام بإخراجه: إبراهيم أنيس وعطية الصوالحي وعبد الحليم منتصر ومحمد خلف الله أحمد، القاهرة، ط 2، 1972م. ( ) لعل اللفظ مقتبس من قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) سورة آل عمران : 199، وقوله تعالى : (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل) سورة الأنفال : 62. الرباط حصن حربي يقام في الثغور المواجهة للعدو للذود عنها. وكانت الرباطات في الإسلام مركزا لتخريج العلماء والمفكرين والمجاهدين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. انظر عن هذا الرباط، العبر 6/212، وروض القرطاس 79، والبيان المغرب : 4/16. ( ) انظر رياض النفوس للمالكي : 172. ( ) كانوا على عدة أديان، فمنهم من كان على دين المجوس، ومنهم من كان على دين اليهود. (انظر البيـان المغـرب: 1/252 وروض القرطاس : 102). ( ) إن الملاحم الجهادية التي قام بها المرابطون جعلت منهم –كما قال العروي- أول دولة من دول المغرب ذات الأهمية العالمية؛ إذ ورد ذكرها ضمن الحوليات الصينية (مجمل تاريخ المغرب : 108). ( ) انظر قيام دولة المرابطين : 326. ( ) هي ثمانية وسبعون سنة حسب ابن الخطيب، (أعمال الأعلام 3/265). ( ) نوه شوقي ضيف بجهاد المرابطين قائلا: "وبحق ظلت هذه الدولة –طوال عهدها- دولة رباط وجهاد في سبيل الله" (انظر: عصر الدول والإمارات: 275، دار المعارف، ط، 1995م). ( ) راجع مظاهر هذا الضعف والاضطراب كما قدمتها عين عبد الواحد المراكشي المشايع للموحدين في "المعجب في تلخيص أخبار المغرب" 260 و261، تحقيق، محمد سعيد العريان ومحمد العربي العلمي دار الكتاب، الدار البيـضاء، ط 7، 1978م.