الحكامة في ممارسة التدبير التربوي الحديث
السياق العام :
يعتبر مفهوم الحكامة من أكثر المصطلحات تداولا في المرحلة الراهنة ، بالنظر إليه كوسيلة لتجاوز فشل تدابير سابقة على جميع الأصعدة ، سياسيا و اقتصاديا و إداريا و تربويا .
و هو من هذا المنطلق يصعب ضبط تعريف محدد له . و بما أن المجال هنا ليس من أجل تحديد مفاهيم ، بقدر ما هو محاولة بحث عن العلاقة بين الحكامة و بين فعالية الأثر على المستوى الإداري و التربوي ، تصبح الحكامة التي ارتبطت في فترات سابقة بالمقاولة الصناعية ، نمطا جديدا لتدبير السلطة في كل حقول التنمية على مستوى أوسع، وفي الحقل الإداري و التربوي على الأخص ، في إطار تحديد صياغة جديدة لرسم حدود العلاقة بين كل المتدخلين المعنيين على أساس منظور شامل لإرساء فلسفة متميزة للتعاقد و التشارك و التوافق .
المرتكزات الأساسية للحكامة :
إن أهم المرتكزات الأساسية التي بدونها لا يمكن الحديث عن الحكامة كأسلوب تدبير معقلن اتخذته الدولة خيارا استراتيجيا لإعادة بناء و هيكلة دواليب الإدارة المغربية في إطار المفهوم الجديد للسلطة ، هي :
• * إقرار مبدأ اللامركـزية ( التقليص من سلطة المركز بنقــل و توسيع و تفعيل سلط الجهة كخيار حداثي لا محيد عنه في إطار استكمال البناء الديمقراطي الحديث ) .
و بناء على ذلك يصبح ضروريا العمل على :
• إعادة هيكلة الإدارة التربوية ( جهويا و إقليميا : الأكاديميات و النيابات ) ، لضمان استطاعة مسايرتها للتوجه الجديد .
• نهج و اعتماد مقاربة تعيـين المسؤول الفاعـل و المنـخرط ( اعتماد معايير مضبوطة لانتقاء المسؤولين وفق مقاربــــــة العمــل بالمـشروع القابــل للتحقـق و القيــاس و المساءلة ) .
• الترشيد المعقلن للموارد البشرية و المالية .
• تفعيل مجالس التدبير بالمؤسسات التعليمية و توسيع صلاحياتها للنهوض بالإدارة محليا ضمانا للنهوض بها إقليميا و جهويا و مركزيا .
• استغلال التراكمات الايجابية و توظيفها لجعلها في خدمة المنظومة التربوية انطلاقا من حاجيات المتعلم الذي هو في حد ذاته محور هذه المنظومة .
مبادئ الحكامة :
إن الحكامــة تكريس للمشاركــة و المحاسبـة و الشفافيــة و الديمقراطية ، و هي من هذا المنطلق تصبح الطريق الوحيد لإحداث التغيير العميق لأساليب التدبير ، و ذلك بإرســـاء ثقافــة التدبـير المرتكـز على النتائــج و الفعاليــة والتقويم ، و اعتماد مقاربة تشاركية متجددة تشكل قطيعة مع المنهجيات السائدة ( المقاربة بالمشروع ) .
إن تدبير المنظومة التربوية يقتضي النظرة الشمولية لها و هو الأمر الكفيل للخروج بها من النفق في سبيل كسب رهانات المخطط الاستعجالي الرامي في كليته إلى تخطي الأزمة وفتح الآفاق أمام الجودة و الإنتاجية و الفعالية و الاستقلالية ، ارتكازا إلى تبني الحكامة كأسلوب جديد في ممارســة التدبـير الحديث ، و كآلية تساعد على التأطير العملي للجهوية في المنظومة التربوية عن طريق ضبط و توظيف الوسائل الحيويـة البشريــة و المادية و التقنية و المؤسساتية و القانونية التشريعية المتاحة لبلوغ الغايات المتوخاة بهدف إقرار و ترسيخ نظام تربوي عقلاني ممنهج و شفاف و مندمج .
و إني لأرى أن مشاكل المنظومة التربوية لا يمكن حلها إلا بمنظور ثلاثي الأبعاد مستمر و متغير وفق كل مستجد .
و هذه الأبعاد الثلاث هي :
1 - الموارد البشرية
2 - المناهج التربوية
3 - الموارد المادية و المالية
1 - الموارد البشرية :
وعيا بقيمة الإنسان هدفا و وسيلة في المنظومة التربوية ، باعتباره رأس المال الأساسي بها ، ينبغي تنميته و ذلك بزيادة عملية المعرفة و المهارات و القدرات للعنصر البشري كي يكون قادرا على العمل و الإنتاج وفق منظور مسبق و دقيق و استراتيجي للدولة .
و أبعاد هذه التنمية هي :
الاستثمار الأمثل للموارد و الأنشطة الاقتصادية لتنمية القدرات البشرية عن طريق الاهتمام بتطوير الهياكل و البنيات المؤسسية لضمان الانخراط و المشاركة .
ويمكن بناء مخطط تنمية العنصر البشري ب :
• إرساء و تفعيل مراكز التكوين المستمر و التجريب المخبري للقضايا الآنية
• الانتقـــال من التفتيــش و المراقبــــة إلى أفــق المصاحبـة و التقويم المبني على التجريب و المقابلة
• خلق مواصفات مدرس الفئة لتجاوز مدرس القسم
• إحياء و تعزيز روح الخلق و الإبداع لدى المعلم و المتعلم
• معالجــة القضايــا المعــــــاصرة بشكــل يعزز المســاواة بين الجنسين
• الاهتمام بالديمقراطية و حقـــوق الإنســان و تكـــريس روح المواطنة
• دمج ذوي الاحتياجات الخاصة بشكل انتقالي تمهيدا لإدماجهم اجتماعيا
• نبذ التعصب و النزعة القبلية و التفرقة و التمييز العنصري
2 - المناهج التربوية :
تعتبر المناهج التربوية واحدة من المشكلات التي تعتري القطاع مثلها مثل البنيات التحتية ، و قدرات المدرسين على التفاعل مع المادة التعليمية قبل العمل على إيصالها و كذا مستواهم الثقـافي و المهني ، إضافـــة إلى مختلف الظروف المحيطــــة بالتلميــــذ و الوضعية الاقتصادية للأسرة عموما ، فالمناهج إذن قضية إستراتيجية لا تظهر آثارها إلا على المدى البعيد .
لذا ، ينبغي تطوير و توسيع المناهج التربوية في اتجاه تحديد المعلومات و ذلك بالخروج من الموروث التعليمي عن طريق الانتقال إلى فلسفة التعلم و ليس التعليم ، و هو انتقال يقتضي امتلاك نظرة نوعية إلى صياغة المناهج و إعادة تبويبها من خلال توسيع دائرة المفاهيم في المناهج وفق التصورات والاختيارات الإستراتيجية
هذا واعتبارا إلى كون أغلب المدرسين ممن يفوق سنهم الخمسين سنة، فقد أصبح لزاما إعادة تكوينهم وفق فلسفة جديدة لمفاهيم أخرى ثقافية و تربوية تنحو في اتجاه خلق المواطن المندمج ، ناهيك عن الضرورة المستعجلة إلى تشبيبب الأطر .
3 - الموارد المادية و المالية :
في إطار التوجهات العامة للبرنامج الاستعجالي الهادفة إلى ترسيخ ثقافة اللامركزيـــة و اللاتمركــز و ذلك بنقــل السلطــات و المسؤوليات من المستوى المركزي إلى المستوى الجهوي كمرحلة أولى ، بغية فسح المجال في اتخاذ القرارات على المستويين الإداري و المالي في إطار تدبير الشأن التربوي جهويا و إقليميا و محليا ، تعزيزا لدور المؤسسة التعليمية باعتبارها أهم ركائز إصلاح منظومة التربية و التكوين .
وضمانا لإنجاح اللامركزية المالية خصوصا ، ينبغي التحكم في كيفية صرف ما يحول من اعتمادات من المركز إلى الجهة باعتماد الحكامة أسلوبا ممنهجا في ممارسة التدبير الحديث المعقلن في سبيل عقلنة القرارات لدمقرطة المنظومة التربوية بنــاء على التنسيــق و التكامــل بين الشــأن التربــوي الجهوي و الوطني من جهة ،و بين الشأن الجهوي و الإقليمي و المحلي من جهة أخرى .
خلاصة :
إن الرهـــان الكبيــر الملقى على عاتــق المنظومــة التربويـــة ،
و المتمثل في تحقيق الجودة لضمان الانخراط في المسيرة التنموية المجتمعية ، ليقتضي منا – أطر المنظومة التربوية ، بل و كل فعاليات المجتمع المدني – كل من موقعه الانخراط الفعلي و الفعال في ما سطره البرنامج ألاستعجالي من مشاريع تقارب المجالات الأربع الأكثر حيوية و الأنجع للنهوض بالمنظومة برمتها ، ألا و هي :
• التحقيق الفعلي لإلزامية التعليم إلى غاية 15 سنة
• حفز روح المبادرة و التميز
• مواجهة الإشكالات الأفقية لمنظومة التربية و التكوين
• توفير وسائل النجاح
و لعل المتأمل بل المحلل لهذه المجالات الأربع السالف ذكرها ليلمس منذ الوهلة الأولى على أن كل مسؤول كيفما كانت حدود مسؤوليته ملزم بنهج أسلوب جديد في التعامل الإداري /التربوي يتمثل أساسا في اعتماد مقاربة العمل بالمشروع ، و أيا كان هذا المشروع فلن يحيد عن هذه المجالات الأربع نفسها ، التي هي في أول الأمر و آخره أهداف المنظومة التربوية التي بها ستدشن عودة المدرسة إلى ممارسة دورها الريادي داخل المشروع المجتمعي الأكبر ، و الذي هو تحقيق التنمية على جميع المستويات : سياسيا ، اقتصاديا ، اجتماعيا ، ثقافيا و تربويا ...
و ما مقاربة العمل بالمشروع إلا ألف باء نهج الحكامة في التدبير التربوي الحديث .
حسن مزهار