إلام تشير ألوان المدن، وهل تختلف الألوان من مدينة إلى أخرى... أسئلة لا يطرحها إلا فنان أو سائح... فأهالي المدن ألفوا مدنهم كما هي وشيدوا على منوالها، فهي الأجمل والأغلى لارتباطها بوجدانهم وذاكرتهم الجمعية. لمَ تبدو المدن العربية سمراء شاحبة، هل لأنها معجونة بالحزن والقسوة، هل لأن الصحارى تشغل حيزاً من جغرافيا المنطقة ومخزونها النفسي والجمالي...أم أن الشمس المبهرة تغنينا عن ضجيج الألوان وتشعرنا بالميل إلى اللون الهادئ .. هل لأن ثقافتنا تغلب الرصانة على الاحتفال بالحياة ومباهجها.. وما دور توافر مواد بناء معينة دون غيرها في تكريس لون واحد للمدن؟! ..
المؤكد أن لمدننا لوناً كامداً يختلف عن ألوان المدن الخضراء أو الزرقاء .. ولعل السائح (الأجنبي) هو أول من يلاحظ ويفتقد ويحن إلى اللون من حوله.. لكن اللون ثقافة وحضارة ونمط حياة، وإذا ما أسيء استعماله ينتج تلوثاً بصرياً نراه آخذ بالامتداد في بلادنا الراغبة في محاكاة البلدان الأخرى دون دراية أو تروي.
من مجلة الفكر الحديث مقال بعنوان " الألوان في المدن " لمستشار المتحف العراقي المستر سيتن لوبر، يبين فيه نظرته إلى ألوان المدن وأسباب لون مدينة بغداد، وأمنيته بأن تغير الأصباغ لون المدينة...
الفكر الحديث* العدد الثاني 1945
" وصف كاتب فرنسي العراق مرة بالقطر الأعفر أي الأسمر الصافي غير المشوب بأي لون آخر، وهذا وصف في غاية الدقة والإبداع.
ففي القرى تشاد الدور باللبن (الطين المجفف بالشمس) ويتناول هذا اللون الطيني القصب المطين الذي تسقف به الدور المذكورة، وتألف العين السمرة الشائعة في كل مكان بحيث يتميز أي لون آخر مهما كمد سواء كان ذلك في لباس الفلاحين أم في أضيق الرياض بأهمية وبهاء مفرطين. وفي العاصمة لا تختلف الأمور عما هي خارجها إذ يستعمل الصلصال أو الطين في صنع الآجر الذي تشاد منه تسعة أعشار مباني المدينة والتي لا يشاركها في تغير لونها الكامد شيء سوى الاسمنت ولونه الرمادي الأبعث على الكآبة من لون الآجر. ويستعمل الخشب إلى جانب ذلك بكميات وفيرة إذ يدخل في صنع إطارات الأبواب والنوافذ وتشابيك الخشب... والخشب يتطلب الصباغة ويمكن الاهتمام بتخير الصباغ الملائم من تغيير مظهر بناية من هيئة زرية متداعية إلى هيئة أنيقة تتسم بالبهجة والوجاهة، ومع ذلك فقد اقتصر لون صباغ الخشب في بغداد منذ سنوات على صنف من اللون البني الأعفر يذكرنا بطين العراق. وتفسير هذه الظاهرة أن الخشب الشائع استعماله في بغداد ينقسم إلى نوعين هما خشب الساج البني اللون المستجلب من الهند وخشب الشوح الأبيض المعروف، ولعل هاتين الصفتين اللتين تنمان على الوجاهة والثراء قد أكسبتاه قيمته المادية والاعتدادية الخاصة، وعليه لم يجنح الناس إلى إخفاء حقيقته بطبقة من الصباغ فصار يلمع حرصاً على إظهار جوهره النفيس... فقد شاع هذا الصنف المقيت من الصباغ الأسمر وأصبح استعماله في بغداد عرفاً فألفه القوم وكلفو به حتى كادوا يحملون استعمال الألوان الزاهية محمل النزق وعدم اللياقة. وقد بلغ هذا العرف من القوة والذيوع مبلغاً لم يقف عند صبغ المباني فحسب، فقد أتاحت الباصات الجديدة التي استجلبتها أمانة العاصمة قبل بضعة أشهر فرصة سانحة لبعث البهجة والإشراق في شارع الرشيد (في بغداد) وإن المرء ليتذكر لندن في يوم صاح من أيام السلم والسيارات اللماعة والباصات القرمزية والخضراء تروح وتغدو زاهية الألوان أمام واجهات المخازن المصبوغة بألوان بهيجة فتبعث الغبطة والطمأنينة في النفوس. إلا أن شيئاً من ذلك لم يحدث هنا فقد ظهرت باصات بغداد في الشوارع معفرة بسمرة بغداد المنسجمة مع لون الطين وبوابات الساج الزائف وعلى هذا النحو بقي التشاكل والتلائم البغيض على حاله.لا شك أن المدن تكتسب شخصيتها وطابعها الخاص إلى حد كبير من مواد البناء ووفرة الأشجار والأزهار أو ندرتها... وبغداد عارية من الفن ومواد بنائها مقتصرة على الآجر، وأشجارها القليلة ما زالت تعجز عن تغيير طابع الشوارع الرئيسية.
إن الأصباغ بمفردها قادرة على تحقيق هذه المهمة وقد استؤنف استيرادها كالسابق ببراميل كبيرة، فهل لنا يا ترى أن نعقد الآمال على هذه البراميل التي نرجو أن تبعث النور والأمل في شوارع بغداد ويكون سيل الألوان المنساب منها أحمر قانياً وأخضر وسندسياً وأزرق سماوي بدل سمرة الصحراء الأزلية."
*مجلة ثقافية أدبية كانت تصدر عام 1945
مجلة عراقية صدرت في 64 صفحة من القطع الصغير
صاحبها ورئيس تحريرها : جميل حمودي
مديرها المسؤول : كاظم حلاوي المحامي
شعارها : آن يا شعب أن تعيش كريماً أو تموت الغداة حراً أبياً
تعبر المجلة عن التجديد داخل الفنون وتدعو إلى قراءة جديدة لأصول الإبداع بالاحتكاك الدائم بمناهج الأداء التشكيلي والمسرحي والأدبي في العالم الحديث. لم تستمر المجلة طويلاً لضعف التمويل المالي.