في بداية تشرين الثاني عام 1950 توفي الكاتب الايرلندي الساخر برنارد شو*، وبعد عدة أيام كتبت مجلة الستار المصرية تنعيه" لقد توقف أضخم ذهن في أوربا عن التفكير" .. وبعد مقدمة مؤثرة نشرت بعضاً مما يعبر عن فكره ... وفي ألم وحسرة وجلد للذات تساءلت لماذا لا تلد مصر مفكراً مثله؟ وذهبت إلى أن مصر لم تنجب إلا حفنة من مفكري الصالونات...
صحيح أن مصر عانت من الصراعات السياسية وكبت الحريات والرقابة على المطبوعات وغيرها من مظاهر القمع والقهر، إلا أنها أنجبت الكثير من العقول النيرة المكافحة التي حفرت أسماءها في ذاكرة الأجيال، وليس أدل على ذلك من كمية المطبوعات والجمعيات التي ظهرت في مصر..
لكن اللحظة السياسية الضاغطة هي التي حملت المجلة إلى تعنيف المصريين ومثقفيهم، فقد تابعت المجلة في أخبارها ورسومها الكاريكاتيرية تداعيات نكبة فلسطين (من الشهداء إلى اللاجئين) وعمليات تهريب البضائع إلى "اسرائيل".. وانشغال الحكومة المصرية بالخلافات في ظل ضعف الحكم الملكي، وتجاهلها لمعاناة الشعب واحتياجاته ومطالبه..
وكعادتها كانت المجلات والمطبوعات حتى منتصف القرن الماضي، تعنى بتعريف القراء العرب على ما يجري في الغرب والعالم عموماً من أحداث وصراعات، وأفكار وإبداعات..بغية توعيته وشحذ همته.. وها هي مجلة الستار تنقل أهم أفكار المفكر الايرلندي محرضة على التفكير والتساؤل ..
ونحن إذ نعيد نشر هذا المقال نهدف إلى تسليط الضوء على كل ما كان يعتمل في وجدان المواطن العربي وكل ما غذى فكره ورفد سعيه ، كما إلى إحياء ذكرى مفكرين ساهموا برفع سقف تطلعات الإنسانية وآمالها بالتحرر والرفاه.
تحت عنوان " أخطر وصية في القرن العشرين وصية جورج برنارد شو " ورد المقال التالي :
مجلة الستار* العدد 13 تشرين الثاني 1950
"... في مصر لا نستطيع أن نرثي برنارد شو بأكثر من أن نعرض في بساطة وإيجاز هذه السطور القليلة التي اعتصرناها من مؤلفاته العديدة، والتي نعدها خلاصة أفكاره السياسية وفلسفته الخاصة بالحكومة والمجتمع.
هذه السطور نرجو من أعماقنا أن يقرأها الشعب المصري والحكومة المصرية وألا يتثاءب كلاهما بعد قراءتها !
" إن الذين يضطلعون بأعباء الحكم لابد أن يدركوا فوراً أن عليهم إما أن يتنحوا عنه بأسرع ما يمكن، وإما أن ينتحلوا لأنفسهم ـ قدر الإمكان ـ كثيراً من صفات الله.
إن عليهم أن يقرروا وحدهم ما هو الخير وما هو الشر... وما عليهم أن يجبروا الناس على القيام بأعمال معينة أو الامتناع عن القيام بأعمال أخرى سواء رضي الناس بذلك أم لم يرضوا على الإطلاق.
إن سلطة الحكومة وكافة حقوقها ينبغي أن تزول من تلقاء نفسها.. إذا هي لم تدرك هذه الحقيقة الأولية البسيطة.. وهي أن الحكومة قد وجدت من أجل الشعب، وليس الشعب هو الذي وجد من أجل الحكومة. إن الحاجة ماسة دائماً إلى الإصلاح والتطوير، وكل فرد في الدولة محتاج إلى العمل، وإلى الفراغ والراحة. وهذا يتطلب أن يكون الدخل متساوياً بين الأفراد لئلا تقل حاجة الغني إلى العمل.. ولئلا يقل نصيب الفقير من الراحة. ليس هذا فقط.. بل أن كل فرد في الدولة أيضاً محتاج إلى التعليم، وإلى العناية الصحية، وإلى العيش في أحسن الأحوال الممكنة. ولهذا يجب أن تقدم الدولة لكل فرد وبلا مقابل، المدرسة والمشفى ووثيقة التأمين.
إن الأحزاب السياسية المنظمة تتلخص أهدافها في منع خير الرجال من الوصول إلى الحكم. ومن أسوأ الأشياء طريقتنا الحالية في إعطاء الأصوات للجهل وتسمية ذلك ديمقراطية !
إن الحكم عمل يحتاج إلى إدراك إنساني شامل.. وأنا لا أنصح بإعطائه للشعراء مثلاً أو للمهندسين، لأنه حتى يجيء اليوم الذي يعرف فيه الشعراء كل شيء عن الهندسة ويعرف فيه المهندسون كل شيء عن الشعر.. لن تكون هناك فائدة لا للشعراء ولا للمهندسين !"
هذه وصية برنارد شو للمجتمع الإنساني. وهي وصية قد تكفي لو أن أحداً كتبها في مصر، للقبض على ورثته جميعاً وترحيلهم إلى المعتقلات..
ولعل هذا هو السبب الوحيد في أن ايرلندا ـ لا مصر ـ هي التي أنجبت برنارد شو، وفي أن مصر لم تستطع أن تنجب حتى اليوم غير حفنة من مفكري الصالونات أصحاب النظارات المذهبة والكتب المبطنة بالحرير، المكسوة بجلد الثعبان، حفنة يحلو لها دائماً كلما قرأت لبرنارد شو أن تمصمص شفاهها حزناً ثم تقول : لماذا لا تلد مصر مفكراً كهذا ؟!
لماذا ؟
لأن هناك فرقاً كبيراً جداً بين مصر وانجلترا.. فمصر ليس فيها " هايد بارك" .. وانجلترا ليس فيها بوليس سياسي، ولا إدارة مطبوعات !"
*جورج برنارد شو (1856 ـ 1950)
مؤلف ومفكر ايرلندي شهير، ولد في دبلن عاصمة ايرلندا
عمل في النقد الموسيقي والأدبي
ألف ما يزيد عن خمسين مسرحية، وأصبح أحد أشهر الكتاب المسرحيين الساخرين في العالم
حاز على جائزة نوبل في الأدب عام 1925، وتبرع بقيمة الجائزة لتأسيس مؤسسة تشجع نشر أعمال مؤلفي بلده.
حاز على جائزة الأوسكار لأحسن سيناريو عن مسرحية بيجماليون 1938
من أشهر مسرحياته ، جان دارك ، الإنسان والإنسان الأعلى ، ـ قيصر وكليوباترا ، تلميذ الشيطان ، بيت القلب الكسير ، الأسلحة والإنسان ، بيوت الأرامل ، الإنسان والسوبرمان.
** الستار
مجلة أسبوعية منوعة مصورة، احتوت على الكاريكاتير
صدرت في مصر عام 1949 في سبعين صفحة من القطع المتوسط
رئيس تحريرها : شفيق مرشاق
مديرا التحرير : مأمون الشناوي ، ابراهيم الورداني
تناولت الأخبار السياسية السريعة إلى جانب المقالات العلمية، وتنوعت زواياها بين الرياضية والأدبية والتسالي والطرائف وهل تعلم..
برنارد شو