نعم بلفور صاحب الوعد المشؤوم زار المنطقة وابتدأ جولته في فلسطين ومن ثم اتجه الى سوريا بواسطة القطار ومكث فيها يومين ، كانا يومان حافلين بالاحداث .. فكيف استقبل اهل دمشق "بلفور" .. سورية كانت تحت وطأة الاحتلال الفرنسي ، وبالطبع كانت دولة حديثة التكوين بعد انفكاكها عن الاراضي التي كانت خاضعة للدولة العثمانية لمدة تقارب الـ 400 عام ، ومع ذلك تظهر المادة التي نكشف عنها اليوم ، مدى ادراك الجمهور السوري لابعاد الوعد المشؤوم ، ومدى غضبهم وحنقهم على صاحبه.
وتعتبر الرسالة التي بعث بها وزير الخارجية البريطانية عام 1917 إلى اللورد روتشيلد أحد زعماء الحركة الصهيونية في تلك الفترة والتي عرفت فيما بعد باسم وعد بلفور، أول خطوة يتخذها الغرب لإقامة كيان لليهود على تراب فلسطين. وقد قطعت فيها الحكومة البريطانية تعهدا بإقامة دولة لليهود في فلسطين.
ورغم ان الكثير من الصحف السورية في تلك الفترة كانت تمالئ حكومة الاحتلال وتكتب فيما يخدم سياساتها ، الا ان المادة التي بين ايدينا اليوم والتي نشرت في صحيفة الفيحاء في عددها الصادر يوم الثلاثاء 14 نيسان من العام 1925 ، يبين بان الصحيفة التي كانت تراعي في كثير من اعدادها سياسة المفوضية الفرنسية في دمشق ، نشرت مادة ساخنة امتزج فيها الخبر بالرأي لوصف الاحتجاجات التي حدثت اثناء وجود بلفور في العاصمة السورية.
بلفور في دمشق
الفيحاء* – 14 نيسان - 1925
لم يكتف اللورد بجنايته التي جناها وبتعديه على حقوق فريق كبير من بني البشر وانتهاكه حركة استقلالهم ومنحه بلادهم التي مزجت كل ذرة من ذرات ترابها بدم شهيد من شهدائهم نقول لم يكتف بذلك كله, بل أراد أن يشاهد ضحيته التي حكم عليها بالموت ويراها رأي العين فجاء إلى فلسطين في أحرج الأوقات ليشهد افتتاح الجامعة الصهيونية, ولو كان اللورد ممن يأخذه الخجل لآثر أن ينزوي في سرب من الأرض على ا نياتي بنفسه ليشهد ذلك المشهد المريع مشهد القطر الذي نحره على مذبح الأطماع بلا شفقة ولا رحمة .
ولكنه جاء فاستقبلته فلسطين بما يليق به من الاشمئزاز ونفرت في وجهه نفرة المظلوم من ظالمه بل نفرة المسروق من سارقه إلا انه لم يقنع ولم يكتف به بل أراد أن يزور سورية أيضا وان يقذي عيون أهلها برؤية وجهه المشئوم.
وبلغ سكان دمشق عاصمة سوريا نبأ تلك الزيارة المكروهة فارتجت لها أنحاؤها وأضطربت إرجاؤها وعولت على أن تلقي على اللورد درسا لن ينساه وأمثولة يعتبر بها وتوقعت السلطة أن يقوم الاهلون الموتورن بما لا يحمد عقباه, ولكنها لم تشاء أو لم يشأ أدب المجاملة لها أن تمنعه من الحضور واكتفت بعمل الاحتياطات اللازمة فملأت القطار الذي يقل اللورد بالشرطة المسلحين ولم تشأ أن تنزله في محطة دمشق بل أنزلته في محطة القدم ثم اركب سيارة خاصة تحرسها الجنود وأرسل إلى الفندق الذي تقرر إقامته فيه.
فلما جاء القطار ورأى الجمهور المترقب أن اللورد غير موجود فيه أدرك حقيقة الأمر ويمم نحو الفندق صارخا بأصوات تشق عنان السماء بسقوط وعد بلفور المشئوم فلما وصل الفندق رأى رجال الشرطة والدرك مصطفين على أبوابه كأنهم يحمون قلعة من القلاع . وقد شاء بعض المتهوسين من التراجمة الذين لا نعرف ما هي علاقتهم بالأمر أن يفرقوا الجمهور بشدة وفظاظة فادى ذلك إلى الضرب بالعصي والحجارة ثم اعتقل عدد من الشبان يزيد عددهم عن العشرين .
وفي الصباح أغلقت حوانيت المدينة كلها وازدادت يقظة الحكومة فضاعفت عدد الحرس على فندق اللورد واجتمعت الجماهير حوالي الظهر للتظاهر , ولم يصدها رجال الشرطة والدرك من مشاة وخيالة وسارت في طريقها لا تعيقها قوة ولا يرهبها بأس , وهي تنادي بسقوط وعد بلفور ووعده وحياة فلسطين وبلاد العرب ورأت الحكومة عجزها فاستعانت بجنود الصباحيين من المغاربة وبالسيارات المصفحة والدبابات وقد نقل إلينا أن رجال الدرك اعتدوا على الجمهور الأعزل وهو سائر في تظاهره السلمي , فاغضب الجمهور ذلك العمل وإساءة ثم كان التلاحم , وأطلقت النيران وأعملت السيوف في الصدور والنحور , ودامت المعركة أكثر من ساعة كاملة أسفرت عن جرحى كثيرين وهكذا أراد الله أن يسجل أبناء دمشق صفحة جديدة مجيدة في تاريخ جهادها المقدس يرقشونها بدمائهم الطاهرة الزكية , وشاء أن يضاف إلى جلائل أعمال بلفور المشئوم بعض الجرائم الجديدة .
وأخيرا, خجل اللورد من نفسه بعد فوات الأوان فغادر دمشق قبل أن يقضي المدة التي كان ينتظر أن يقيمها في دمشق مودعا بصرخات الصارخين بسقوطه وأنات الجرحى وحشرجة المحتضرين !
نظم العاملون في دمشق مضبطة تتضمن الاحتجاج على وعد بلفور وقعها مئات من العلماء والأطباء والأدباء والصحافيين والزراع وسواهم لتقدم إلى اللورد بلفور خلال زيارته.
*الفيحاء صحيفة صدرت في دمشق في العام 1924 ، لصاحبها قاسم الهيماني وهي صحيفة اسبوعية اخبارية مصورة تقع في 8 صفحات من القطع المتوسط "تابلويد".
صور خاصة منشورة في مجلة الفيحاء المحفوظة في مكتبة سيريانيوز
الخيالة الذين استدعوا للمحافظة على الامن . |
منظر عام لجمهور المتظاهرين الذين خرجوا من الجامع الاموي الى ساحة الشهداء ( المرجة ) |
منظر لدبابة من الدبابات الفرنسية التي استدعيت لتفريق المتظاهرين. |
سيريا نيوز