بين الموت والجنون وآلام الذاكرة تأرجحت مصائر أفراد طاقم الطائرة الأميركية التي ألقت القنبلة الذرية على هيروشيما / اليابان مؤذنة بانتهاء الحرب العالمية الثانية بعد إرفاقها بنسخة مشابهة على ناجازاكي بعد ثلاثة أيام من أكبر مجزرة جماعية صفعت ضمير العالم، بل وضمائر مرتكبيها.. لم يتفق الباحثون والمحللون السياسيون على مبررات منطقية دفعت الولايات المتحدة آنذاك للقيام بأبشع وأفظع عمل إجرامي في تاريخ البشرية.. فقد كانت اليابان على وشك خسارة الحرب بعد أن خسرت حليفاتها ألمانيا وايطاليا.. ويرى كثير من الخبراء أن الحرب كانت تسير إلى نهايتها، رغم عناد الجندي الياباني الذي تحطمت على صخرته كثيراً من قوى جيوش الحلفاء..
كثيرة هي المقالات التي كتبت والإحصاءات التي نشرت، عن الضحايا في هيروشيما وناغازاكي وعن الدمار الذي لحق بهما سواء الدمار المادي المريع، أو الدمار الإنساني والنفسي الأمر الذي جعل إحدى أكبر الصحف اليابانية تكتب في ذكرى القصف : إن اليابان لن تنسى أبداً ما فعلوه بها.. إننا قد تعلمنا معنى الخوف...
موضوع اليوم يختلف عن الكثير الذي كتب حول هيروشيما، فهو يتطرق للتفاصيل التي حدثت وكيف تحدًث الناجون وكيف وصفوا الحدث، كما يركز على القائمين بالفعل الإجرامي ـ بصرف النظر أنهم يمتثلون لأوامر قياداتهم ـ وعلى خلفياتهم الاجتماعية وصفاتهم الشخصية وما آلوا إليه.. لأن ما فعلوه يتجاوز حدود العقل البشري وطاقته على الاستيعاب والتبرير .. فما بالك بالصفح والتسامح..
لا تلقوا قنبلة ثالثة ـ حسب ما ظل يردده العالم في لندن ـ وحتى لا ننسى إلى أي مدى يمكن أن تتمادى آلة الدمار العسكرية في العالم أجمع.. نعيد هنا نشر هذا الموضوع الفريد بطريقة عرضه ومعالجته التي تدور حول مقولة باتت شائعة عن أن دم الضحية يظل يلاحق الجلاد إلى آخر الدنيا ومهما طال الزمن..
من مقال بعنوان "فاتورة حساب ملاحي طائرة الموت !" من مجلة الحرب العالمية الثانية، إحدى المجلات المتميزة الموجودة في مكتبة سيريانيوز، اخترنا هذه المقتطفات..
الحرب العالمية الثانية الجزء 30 عام 1961
"... اختفت هيروشيما يوم 6 آب 1945...
بعدها بثلاثة أيام ضاعت ناجازاكي..
بعد ذلك بأربع وعشرين ساعة أذاع إمبراطور اليابان نبأ التسليم...
وانتهت الحرب..
في ومضة انفجار القنبلة التي لا تزيد عن واحد على الألف من الثانية 80 ألف ياباني احترقوا، ولكن الذين أفلتوا من هذا الموت الخاطف عاشوا ليواجهوا ساعات أشد هولاً ذاقوا فيها أبشع ألوان العذاب قبل أن يتداركهم الموت برحمته..
في ثوان معدودات نشبت مئات الحرائق وامتدت إلى عشرات الأميال.. ونظر الآباء إلى زوجاتهم، وقد أصبحن زنجيات بعد أن شوى الإشعاع والحرارة وجوههن.. أما الأطفال فقد ذابت جلود وجوههم كما يذوب الشمع، وبرزت عظامهم محترقة ثم مصهورة !
لفحت النيران منازل 350 ألف نسمة.. هم سكان المدينة، فتساقطت شظايا سوداء متفحمة.. اختفت الشمس واندفعت في سماء المدينة كرات من النار تطارد 100 ألف من المصابين وتدفع بهم إلى نهر كيوباشي. كانت صرخاتهم ترتفع إلى السماء، ثم يتساقطون في النهر.. مئات فوق مئات .. كالجدار المنهار..
ثم أتت لعنة الله.. مطر أسود، مطر انفجرت به السحب السوداء الحالكة التي انتشرت في السماء بسرعة مذهلة، مطر كانت كل قطرة فيه بحجم البيضة، ولكنها بيضة سوداء..
دافيد انجلش، الكاتب الانكليزي الذي ننقل عنه هذا التحقيق المثير، تعقب طاقم طائرة الموت التي قذفت القنبلة الذرية على هيروشيما، تعقبهم واحداً واحداً وسافر إليهم وتكلم معهم وكتب يصف مصيرهم ..
كانوا اثني عشر رجلاً.. بل اثني عشر نموذجاً بشرياً..
قائدهم، أصغر كولونيل في الجيش، رجل جليدي الأعصاب، كرس نفسه للتدمير كمهنة... ورجل آخر دوًن رؤسائه في ملفه أنه لا يصلح للترقية ولا لأي منصب قيادي من أي نوع كان.. وكان بينهم المقامر المحترف الذي يعتبر أن عمله الأساسي في الحياة هو لعب البوكر، وهناك الرجل الذي يحمل مسدسه لينهي به حياته إذا فشل في تلك المهمة.. وأخيراً كان بينهم صبي لم يبلغ التاسعة عشرة من عمره بعد..
لقد كانت الحقيقة الأولى التي عرفها عنهم، أنهم أرسلوا جميعاً، عقب هذه العملية بشهور، إلى العيادات النفسية التابعة للجيش الأميركي..
وتولت هذه العيادات النفسية غسل عقولهم وتطهيرها من آثار تأنيب الضمير ووطأته.. فهل نجح الجيش الأميركي في استئصال ضمائرهم ؟
وفي الوقت نفسه حرصت الحكومة الأميركية على ألا توليهم أهمية خاصة.. مثلاً واحد منهم فقد هو الذي نال نيشاناً.. وهو تيبتس قائد الطائرة.. وفيما بعد رقي إلى جنرال... ولم يحظ الباقون بأي شيء... ولما أبدوا تذمرهم، منحوا نيشان (النجمة الفضية) وهو نيشان عادي جداً..
ولقد سرحوا جميعاً من الخدمة العسكرية بعدها مباشرة فيما عدا شخصين اثنين لا يزالان يخدمان سلاح الطيران الأميركي حتى الآن، وهما الوحيدان من بين أفراد الطائرة اللذان لا يبدو عليهما ـ ظاهرياً على الأقل ـ أي ندم على ما فعلوه، وهما يقولان أن الذي أصدر أمر إلقاء القنبلة الذرية هو ترومان رئيس الولايات المتحدة إذ ذاك، فإذا كان هناك لوم فليقع عليه..
أما تيبتس ـ قائد الطائرة ـ فقد طلقته زوجته الأولى.. لم تطق أن تعيش معه بعد هيروشيما، وتزوج للمرة الثانية، ثم دخل مصحة عقلية بعد أن أصيب بانهيار عصبي..
وهناك الماجور ايثرلي ضابط الأرصاد الجوية الذي أفتى قبل الكارثة بدقائق، بأن الجو صالح لضرب هيروشيما بالذات.. وهذا فقد عقله، وقبض عليه في تكساس وأودع مستشفى الأمراض العقلية..
وروبرت لويس مساعد قائد الطائرة، أصيب بحالة هستيرية تلازمه في كل حركاته وسكناته، فهو يضحك ضحكة تشبه العواء بلا سبب، ويصرخ لأتفه الأسباب، ويأكل بشراهة.. ولما دعي لزيارة هيروشيما ليرى ما أحدثه فيها رفض ومكث ثلاث ليال بعدها يبكي بكاء هستيرياً لا ينقطع..
أما بيرنز المهندس الالكتروني، فقد حاول أن يهجر ديانته اليهودية إلى المذهب الكاثوليكي ثم إلى البروتستانتي لكنه لم يجد قسيساً يضمن له الجنة.. فانتهى بأن خرج من دينه اليهودي، ولم ينضم إلى دين من الأديان..
أما روبرت شومارو الذي ظل ثلاث سنوات كاملة يصرخ في نومه : السحابة .. السحابة.. ثم توقظه زوجته والدموع تملأ عينيها، فإذا استيقظ انخرط في بكاء مرير، بينما يهذي بأن سحابة الدخان الأسود التي ملأت سماء هيروشيما، إنما هي مجموعة أرواح الضحايا التي صرعتها القنبلة..
أما المقامر فان كيرك، فإنه كان قد تماثل للشفاء من كابوس مماثل، ولكن حدث أن عرض التلفزيون الأميركي برنامجاً عن ضحايا هيروشيما، فعاد إليه الانهيار العصبي ولم يشف منه حتى الآن..
وحدث أن زار أميركا بعض القسس اليابانيين الذين نجوا من قنبلة هيروشيما، فسعى فان كيرك إليهم وكان يتمنى أن يشتموه أو يصفعوه.. ولكن الذي حدث أنهم قالوا له أنهم يسامحونه، فازدادت وطأة العذاب عليه !
وريتشارد نيلسون، أصغر ملاحي الطائرة سناً، أصبح الآن ـ رجلاً ـ في الخامسة والثلاثين من عمره، شارد العينين، زائغ النظرات، يعاني كثيراً من خطابات الشتائم الغفل من الإمضاء التي تصله.. وزوجته يضنيها الأسى وتقول لكل من يقابلها : إن شبح هيروشيما لا يزال يطارد روحي !
وهناك بارسونز، العالم الذي ركب الجزء الذري الفعال في القنبلة، لقد صرعه التفكير فمات..
أما مساعده جيبسون، فقد تركته زوجته هو الآخر.. قالت أنها لا تريد أن تعيش مع قاتل، ويعيش الآن وحيداً في نيوجرسي ويرفض أن يتكلم عن أي شيء له صلة بالذرة..
وفي مثل هذا اليوم من كل سنة، يجتمع أهالي لندن طوال 24 ساعة ويرددون في نداء محموم : لا تلقوا الثالثة !.."
سيريا نيوز