العهد الملكي - جريدة العاصمة – شباط 1920 سنبدأ في اول حلقات هذه السلسلة بالمملكة السورية التي نشأت بعد انسحاب الجيش التركي من دمشق وباقي المدن السورية امام تقدم جيش الثورة العربي ( الشمالي ) الذي كان يقوده الامير فيصل بن الحسين شريف مكة في تشرين الاول من العام 1918 .
وتم تشكيل حكومة عربية يرأسها علي رضا الركابي ، كما شكل ما عرف باسم " المؤتمر السوري الاول " وهو تجمع سياسي اقيم بمشاركة ممثلين عن كل المناطق ( سورية الكبرى ) التي كانت تضم مناطق واسعة من لبنان بالاضافة الى سورية الجنوبية ( فلسطين ) وشرق الاردن.
المصدر الذي سنعتمده اولا في عرض وقائع الحياة السياسية والاجتماعية في ذاك الوقت هو جريدة "العاصمة" وهي الجريدة الرسمية للحكومة العربية آنذاك ، تصدر مرتين في الاسبوع ، تأسست في بداية العام 1919 اي بعد تشكيل الحكومة العربية في دمشق بحوالي الشهرين.
العرب طلاب سلام ورفاهية
سنبدأ بعرض محتويات العدد 104 منها ، الذي نرى فيه افتتاحية لمحب الدين الخطيب مدير الجريدة ، وهو علامة دمشقي ولد في العام 1886 وتوفي في العام 1969.
افتتاحية محب الدين الخطيب تثبت ان العرب منذ بداية تأسيس اولى دعواتهم القومية وتجسيدها على ارض الواقع بعد عقود من التنظير للفكر القومي ولنهضة العرب ، تثبت انه منذ بدايتها كانت تقوم على دعوة لتحقيق السلام والرفاهية للشعوب.
ويرفض الخطيب في مقالته الافتتاحية كما سترون فكرة "المنفعة" على مبدأ "ماكيافيلي" ، ويرفض مبدأ الصراع والحرب ويدعو لتحويل "الاسلحة لمحاريث و ليتخذوا رصاص البنادق حروفا للمطابع"..
هذا الفكر الذي كان سائدا في تلك الفترة والذي يمكن ان تشكلوا صورة ادق عنه من خلال تتابع المواد التي سننشرها والتي توصف مرحلة دقيقة غاية في الاهمية تلك المرحلة التي سبقت مباشرة عهد "الانتداب" الفرنسي على سوريا.
في العدد المرفق ستجدون ايضا ، الكثير من القرارات ومنها ترفيعات ومنح اوسمة للمشاركين في الثورة العربية ، وستجدون ذكر لكلمة مكررة "الامير" ويقصد بها الامير فيصل ، الذي لم يسمى ملكا الا بعد قرار المؤتمر التأسيسي السوري في 8 اذار 1920 والذي اعلن استقلال سوريا وتنصيب فيصل ملكا علي عرشها.
كما ستجدون الكثير من المواد التي تساعد على رسم اجزاء من صورة طبق الاصل للواقع المعاش في بلادنا في ذاك الزمن الذي يبعد عنا قرابة قرن كامل ، من قرارات ، اخبار ، ومواد صحفية ، منافصات واعلانات مبوبة..
نرجو ان يستحوذ الملف على اعجابكم وينال اهتمامكم ، مرحبين باية تعليقات او مساهمات تعقب على ما ورد في مضمون هذا العدد من "جريدة العاصمة".
العاصمة العدد 104 - 26 شباط سنة 1920
المثل الأعلى للعرب
عذيري على قوم يصمون هذه الأمة بوصمة الغباوة والعداوة للحضارة ووسائلها , يغضون أبصارهم عن الخطوات التي خطوناها في هذا السبيل في العشرين سنة الأخيرة زاعمين إننا محتاجون إلى من يأخذ بيدنا ليسرع خطانا ويسددها .
يرسلون هذا الصوت في جهة ثم يلتفتون إلى جهة أخرى فيقولون ولكن بصوت خافت لتسمعه بعض الآذان دون غيرها: احذروا ليلة تمخض بيوم مشحون بالخطر واستقبلوه بفنون الحذر قبل أن لا ينفع الحذر .
سمعت في الأمس شابا من بني قومي يتذمر من مفعول هذين اللسانين ويقول : كيف يتسنى لأناس من العقلاء أن يجمعوا بين النقيضين فيلصقون بنا عار الجمود والوقوف وفي الوقت نفسه يتخوفون من ثبات كوثبات الجن نفاجئ بها العالم طفرة بلا مقدمات ولا نذر ؟
لا يا صاحبي أن القوم أكثر منا علما بالتطور الذي طرأ علينا في العشرين سنة الأخيرة وهم يعدون خطواتنا واحدة واحدة, ويقيسون كل خطوة إصبعا إصبعا وهم يعملون أيضا أن الطفرة محال وان ثبات الجن من بقايا سيرة الأساطير وإما العصور التاريخية التي نعيش فيها فليس لأساطير سلطان عليها .
واني أقول مع ذلك أن القوم عقلاء وان الوجه الجامع بين مفعول هذين اللسانين هو المنفعة وان خالفت الحق والفضيلة وهذا هو الأساس الذي قامت عليه السياسة العتيقة كما عرفها ماكيافيل الايطالي Machiavel 1469 -1527 - وقد جرف تيار هذه السياسة فردريك الكبير 1786-1712 أيام سلطانه رغم تأليفه كتاب اثني ماكيافيل في ولاية عهده ناقدا عيوبها ومعربا عن سيئاتها وبعد فأن المثل الأعلى للعرب في نهضتهم الجديدة هو إعداد جيل عربي نشيط يأنس بحياة السعادة والسلام ويعمل لخدمة الحضارة بالأساليب الملائمة لروح الزمان المنتظر ليس للعرب مصلحة من استمرار سياسة ماكافيل فقد أرهقتهم سيئاتها وآذتهم مداخلها ومخارجها لذلك هم يردون أن يكونوا عضوا في الكيان السياسي الجديد الذي يبنى الآن بروح الزمان الجديد .
يريد العرب أن يأمنوا على كيانهم القومي ليحولوا هذه الأسلحة محاريث وليتخذوا من رصاص البنادق حروفا للمطابع وينتقلوا من التفكير فيما ينصب لهم من مصائد السياسة إلى التفكير فيما يجب أن يتصفوا به من صفات الكياسة .
السعادة والسلام هما المثل الأعلى للعرب ولا سلام على الأرض ما دامت فيها تلك السياسة العتيقة العفنة سياسة ماكيافيل المبنية على أساس الأثرة والطمع إننا نطلب السعادة لقومنا ولمن تأتي بعدنا من انسالنا وأي سعادة لأمة تبصر بعين غيرها وتسمع بأذن غيرها ولو كان في هذه الطريقة خير لأمة من الأمم لما نشبت أكثر الحروب التي ركبت الأمم مركبها الفظيع خوفا من ذلك الشر الذي هو أدهى وأفظع.
وإننا نطلب السلام لقومنا ولمن يأتي بعدنا من انسالنا لأننا قانعون بحقنا شاعرون بضرر سياسة الأثرة والطمع عالمون بأن الفوز بعد الآن في المصانع لا في المعامع وبالتربية لا بالمدافع .
كان زمان تستطيع أن تتحكم فيه الأمم بالأمم وتسطو فيه الأقوام على الأقوام وأما الآن فقد قضت روح الزمان على تلك السياسة السخيفة وتشبعت الشعوب بكلمة مونور على أمريكا فصارت هذه الكلمة شعار كل امة في كل وطن .
المثل الأعلى للعرب السعادة والسلام فالسعادة تخطوا بنا خطواتها إلى الأمام في سبيل المدينة والعمران والسلام يرفرف بأجنحته فوق حدود حقوقنا المقدسة فلا نتعداها إلى غيرها ولا نرضى بحال من الأحوال أن يعتدي الغير عليها.
يظلمنا من ينكر علينا الخطوات التي خطوناها ويظلمنا من يشغلنا عن الاستمرار في هذا الطريق بالدفاع عن كيانا القومي وحياتنا الوطنية والظلم أمر تشمئز منه النفوس وتنفر منه القلوب ولا سيما في هذا العصر الذي استيقظت فيه روح القوميات حتى تغلبت على الزمان فصارت روح هذا الزمان.
لقد تشبعت نفوس العرب بعربيتهم فلن يتنازلوا عنها بعد الآن وهم يريدون أن يعيشوا عيشة السعادة والسلام التي اتخذوها مثلا أعلى لحياتهم القومية ويرون أن من يساعدهم عليها هو من أنصار السعادة والسلام ومن الواجب على العرب أن يحفظوا له هذه المكرمة وإما من يحاول الوقوف بينهم وبين مثلهم الأعلى فهو في نظرهم عدو لهم وللسعادة والسلام جميعا .
محي الدين الخطيب