انفردت ليبيا بين الدول العربية التي كانت تابعة للسلطنة العثمانية بوقوعها تحت السيطرة الاستعمارية الإيطالية نظراً لقربها الجغرافي، ولم تكن السياسات الاستعمارية تتمايز عن بعضها في طرق السيطرة وأساليب الحكم ونهب الثروات وحرمان أصحاب الأرض من حقوقهم ... إلا أن نشوب الحرب العالمية الثانية ووقوف إيطاليا إلى جانب ألمانيا فيما سمي بدول المحور، وضعها في مواجهة دول الحلفاء ليس عسكرياً فقط بل وسياسياً واقتصادياً واعلامياً..
وعلى هذه الخلفية يمكن النظر إلى دموع (التماسيح) البريطانية التي ذرفت على الليبيين ومعاناتهم من المستعمر الإيطالي، رغم أن الوصاية والانتداب البريطاني والفرنسي كانا مفروضين على بقية الدول العربية التي جندت أرضاً وشعباً خدمة لمصالح الحلفاء في الحرب مقابل وعود بمنحها استقلالها بعد النصر..
كلام حق يراد به باطل، هذا أقل ما توصف به الدعاية البريطانية ضد ايطاليا ـ رغم أنها ساهمت في كشف جرائم ايطاليا تجاه الشعب الليبي ـ الأمر الذي يفسر تعاطفها مع البطل العربي الشهيد عمر المختارـ بعد إحدى عشر عاماً على استشهاده ـ وكذلك اهتمامها بجهاد السنوسيين ـ خاصة بعد أن عقدوا اتفاقاً معها ـ ضاربة الصفح عن ممارساتها هي وحلفائها بحق العرب أجمعين.. بل لقد وصل الأمر بالدعاية البريطانية حد الدفاع عن الإسلام والمسلمين وحقهم في البحر الأبيض.. وحمايته من نوايا ومآرب الايطاليين !
هكذا هو التاريخ، يكتبه الأقوياء، خاصة وأن كفة الحرب كانت تميل ـ آنذاك ـ بوضوح لصالح الحلفاء.. فمنذ احتلال ليبيا عام 1911 لم يرفع الإعلام " الديمقراطي "عقيرته إلى هذا الحد إلا بعد أن تقاتل الأخوة وأصبحوا أعداء..
ولقد استطاعت ليبيا أن تفرض على ايطاليا اعتذاراً وقبولاً بالتعويض عن فترة الاستعمارـ الأمر الذي يمكن أن يسجله التاريخ على أنه أحد لحظات القوة الليبية التي استثمرها القذافي لمصلحة هذا البلد ـ كما سجل أنه أهدر الكثير من السنوات التي كانت كفيلة بأن ترفع ليبيا إلى مصاف البلدان المتطورة نظراً لغنى مواردها وصلابة شعبها..
ليبيا التي تعاني منذ ما يقارب نصف قرن لم نعرفها. لأنها كانت مهزومة وضعيفة ومكبلة روحاً وموارد. وليبيا التي تنتصر الآن، تكتب تاريخها بالدم والموقف والإرادة وشهادة العالم أجمع لحظة بلحظة وصورة إثر صورة.. ودونما حاجة لانتظار خلافات "الكبار" وصراعهم..
من مجلة المستمع العربي، انتقينا هذه المقتطفات التي تحدثت عن ليبيا، التي تحثنا اليوم على التعرف إليها وقراءة تاريخها .. منوهين أن المجلة وفي غير مرة كتبت اسمها (لوبيا).
المستمع العربي* العدد 15 عام 1942
"...تتألف لوبيا من مقاطعتين طرابلس وبرقة. وجلها أراضي صحراوية، وإن كان فيها منطقة ساحلية خصبة تشبه الواحة تقع فيها مدينة طرابلس عاصمتها. وأهم زراعة هذه المنطقة أشجار البلح. وفي برقة يقع الجبل الأخضر الذي كان قبل الاحتلال الإيطالي مأهولاً بالعرب الذين عنوا بتربية المواشي. وهذه هي المنطقة التي كانت مسرحاً لجهاد السنوسيين المجيد وجهاد البطل العربي المعروف المغفور له عمر المختار ضد الايطاليين المغيرين. وقد هلك نحو نصف سكان لوبيا خلال الفتح الإيطالي. كما هلكت أكثر مواشيهم التي كانت تجارتهم الرائجة. إذ استعاض الإيطاليون عنها بزراعة القمح والفواكه وإحلال المستوطنين الإيطاليين للقيام بهذه الزراعة. وبهذه المناسبة نذكر أن الحكومة البريطانية قطعت على نفسها عهداً بألا يخضع السنوسيون بعد الحرب إلى السيادة الإيطالية.
وصفوة القول أن شمال افريقيا يشبه ـ بصفة عامة ـ سوريا من حيث خصوبة منطقتها الساحلية ووجود منطقة صحراوية شاسعة داخلها. وفي هذه المنطقة الصحراوية يوجد عدد من الواحات المهمة...
فالمعلوم أن قسماً من ليبيا يخضع إلى الإشراف الألماني الإيطالي المزدوج. وإذن كان من المنتظر أن تفرد إذاعات المحور شطراُ من برامجها للتحدث عن نظام المعيشة في هذا القطر العربي وإتحاف المستمع بتفصيلات عن الرقي الذي قطعه في سبيل الحكم الذاتي أو على الأقل عما أعدته له في هذا الصدد ولكن شيئاً من هذا لم يحدث بتاتاً. ولم تشر إذاعات محطة باري لشمال افريقيا بكلمة واحدة إلى هذا كله. والواقع أن الصورة التي يستخلصها المستمع لإذاعات المحور عن عرب ليبيا لهي صورة مقبضة محزنة. فهم محرومون من حق تصريف شؤونهم. يتحكم فيهم الأجنبي كيفما شاء فيرغمهم في بعض الأحايين على إرسال برقيات يعربون فيها عن شكرهم على ما نالهم من حيف وجور وعنت وإرهاق.
وفيما تمتنع الدعاية الألمانية من تعضيد الروح الوطنية العربية في شمال إفريقيا، يعمد الإيطاليون الذين يطمحون إلى استعمار تونس إلى الإطالة في التحدث عن نشاط الوطنيين في هذه البلاد. على أن كلاً من الألمان والإيطاليين متفقون على معاملة ليبيا كما لو كانت جزء من ايطاليا لا قطراً عربياً منفصلاً.
وفي افتتاحية العدد الثالث عام 1942 قالت المجلة :
" أذاع الراديو الإيطالي أخيراً مقتطفات من مقال نشرته صحيفة ايطالية... أثار امتعاضاً عظيماً بين أبناء العروبة. فقد زعم كاتبه أن لإيطاليا حق السيطرة على البحر الأبيض المتوسط. وضمان حرية الملاحة فيه. ولم يسبق للإذاعات الإيطالية الموجهة للعرب أن تضمنت مثل هذه الأقوال الصريحة عن مطامع إيطاليا الاستعمارية. وإن كانت الصحف الإيطالية كثيراً ما رددتها في كتاباتها لقرائها داخل بلادها. ولا يبعد أن بعض موظفي الإذاعة الإيطالية من العرب ـ الذين لم ينسوا واجبهم نحو اخوانهم في الأقطار العربية ـ قد تمكنوا من دس هذه المقتطفات ذات الصبغة الاستعمارية في بعض نشرات الإذاعة بقصد إشعار الأمم العربية الخطر الذي يهددها من الخطط الإيطالية الرامية إلى التوسع في جميع سواحل البحر المتوسط... وقد رأينا كيف أغار المستوطنون الإيطاليون على شواطئ لوبيا إغارة الجراد، فجردوا العرب من عقارهم وما تملكه أيديهم وسدوا الآبار ونهبوا المواشي وألقوا الزعماء الأبطال من طائراتهم .. ولم يبقوا حتى على النساء والأطفال أو يرحموهم. هذه هي الفظائع التي تريد الفاشية أن تتناول العالم العربي بأسره.. وتأتي هذه التصريحات في الوقت الذي ترنو فيه عيون الفاشية الجشعة إلى أرض مصر الغنية الخصبة.."
والبحر المتوسط (أو بحر الروم كما كانت العرب تسميه) كان محاطاً بالبلاد الإسلامية من ثلاثة جوانب وكانت الأساطيل الإسلامية تسيطر عليه سيطرة لا ينازعها فيها أحد. فالسفن الحربية الإسلامية كانت تمخر عباب البحر على الدوام من الشام ومصر وإفريقيا واسبانيا لحماية التجارة الإسلامية، ولكي تحمل ألوية الإسلام إلى ما وراء هذا البحر.
ورغم تقلص ظل العرب السياسي من صقلية، لكن أثرهم الثقافي استمر زمناً طويلاً، فنشروا المدنية والحضارة في جميع أنحاء مملكتهم، وأخذوا يقربون علماء العرب منهم، ويشجعون الجاليات العربية على الإقامة في جنوب ايطاليا، خاصة بالقرب من باري حيث نجد جالية عربية كانت لا تزال مقيمة هناك . والحق أن جنوب ايطاليا ظل إلى أمد طويل أرقى جهات أوربا بأسرها ومنه انتشرت الفلسفة العربية وعلوم الطب والفلك والفنون الإسلامية إلى جميع أنحاء أوربا، ولا يسع الذي يجوب أنحاء ايطاليا الجنوبية اليوم، إلا أن يلاحظ أثر العرب في البناء والعمارة وفي عادات الناس وملابسهم أيضاَ."
*المستمع العربي
مجلة سياسية ثقافية منوعة
صدرت في لندن باللغة العربية مرتين في الشهر منذ عام 1939
أصدرتها : هيئة الإذاعة البريطانية التي كانت تبث برامج إذاعية موجهة للدول العربية
مجلة موجهة للبلدان العربية، هدفها توثيق العلاقات البريطانية العربية خاصة في ظل انشغال بريطانيا في الحرب العالمية الثانية، وحاجتها إلى الهدوء على الجبهة العربية التي كانت تعللها بالآمال بمنحها الاستقلال عند انتصارها في الحرب.
دافعت عن دول الحلفاء، ونشرت بكثير من العطف قصص وأخبار العرب والمسلمين في مختلف الأزمنة..