بقلم أ . د سلطان المعاني
ما بين معان والجنة بوابة فتح ، وسنابك خيل واقتراب موعد ، ودم مهراق على عتبات عفرا. وما بينها وبين التاريخ طيب حكايا وقصص مجد لا نخبئ سطرا واحدا فيها. وما بينها وبين الوصل غير المقطوع حضارة وحدو عيس ووشم أزمنة ما تعج فيه بواديها من حكايا ثمود والأنباط وقافلة التجارة بين الشام واليمن.
معان إذا الخيلاء تنادى اصطفاها واكتفى ، تتجلى روضة حور ، وفضاءات شعر ، وَتَنَفُّسَ صباح دغدغ مساءاته عليلُ النسم وندى السحر.
وعندما يغتال الانتظار على المفارق والدروب لهفة اللقاء تغدو محافظة معان أرض الرؤى وأحلام العارفين ، ودنيا من الأوصاف ما شاءت ، وشاء لها الزمان ، فهي بتلالها وأوديتها فضاء طائر الشوق المُعنّى بتسابيح التلاقي ، وهي التي تُشْعًلُ في فضاء الصمت أريج الحكايا عن باير ، ومرابض الإبل في طرقات وادي السرحان ، وريح الصهباء في مضارب بني مرة.
إنها معان وقد تماهت في القريب البعيد ، وفي الحاضر الغائب ، في سويداء العين واختلاج الحنايا ، هي معان ، دون غيرها ، موطن الأجداد مذ كانت ، على مفرق المجد ، كما الأمس والحاضر ، وقف ابنها فروة الجذامي ، وهو يقرأ على أهلها سورة الإباء ، وهو المهيب في حضرة المكان ، الذي أسكنه أهله قوة الروح وشريان الحياة.
ومعان ، إيقاع القلب المسكون بالرفعة والقوة والآفاق ، وهج الشمس ، شبم السيوف ، سنان الرماح ، اقتراب الجنة ، "طيبة وبارد شرابها" ، حدو عيس الهواشم ، وقدح الموريات ، وصبح المغيرات.
في معان تهمي فوق ورد الصخر بركات السماء ، ويعبق فيها أريج المساءات منسابا من وردها يكسو سهوب الوطن على طول المدى ، وتعدو سهب الخيل النبطية من خليج لينتيز في الجنوب إلى الشلالة في شمال الوطن ، تحمل نوارس الغسق مراسيل عز وفخار ، فالشمس التي تولد كل يوم في الشراه ، تشرق على سيدة النزل في الحمى ، وماذا كان على ديودوروس أن يكتب غير ما كتب عن عيش لا قفار فيه ولا توحش ، حين كان غيرهم يرعى قطعانه في الصحراء الآبدة ، الخالية من الإنس.
من فضاء الوطن الرحب تعدو مدينة معان التاريخية كل مساء صوب القمر ، ننشدها أغنية الزمان اليعربي ، فمن مملكة النور والصباح والندى تنساب تراتيل الأمكنة رقراقة صراحا.. تقرأ سور الفجر الجديد. معان ، ومدينتها البتراء ، حتف آخر الجنود الغرباء ، لم تغادر في أزقة الوحل والطين ، وما لانت تحت أقدام سراتها وحماتها ، فليسأل التاريخ إثنايوس وجيشه الغادر المسلوب عمن أثخن في جيشه وجرعه علقم الهزيمة،.
ومن غير عاصمة الزمان قد أفردت للحرف مساحات الصخر الوردي جدار كلمات ، وبسطت الطرقات بالحرير ، وانثالت من أباريقها نفحات العطر والبخور ، وظلت قوافل الخير تقرع الأبواب في دروب الشرق من أقصاه إلى أدناه.
فوق ذرى الشراة ورأس النقب والبتراء تسكر النسمات ويطيب الهوى ، وتقترب المسافات من شواطئ بحر طال انتظار البدر والعشاق فيه ، يرقبون رحيل قراصنة بحر ، رست سفنهم غفلا عن التاريخ ، وألقت مراسيها الثقال في عبابه ، فيا لوحشة المكان وفزع الحلم ، خواء تلك الشواطئ دون قافلة الحرير وحدو العيس ، فيا قافلة الخير بددي هذا الظلام ، وكوني بين الحارث وعبدالله العروة الوثقى ، واركبي الصبح هودجا ، وارقبي ذاك الملاذ والمرتجى ، الهاشمي طيًّبً المنهل.
وها هي البتراء ، عاصمة الصخر والحجر المعاني ، وأعجوبة الدنيا ، تجمع ورديتها تآلف الصلد والندى ، واختلاط الحاضر بالغائب ، عَوْدَ قاماتها واحتشاد تاريخها ورابط فكرها وأحقابها ، مبثوثة الوَدْقً ، ناطقة بالآتي للأردنيين بكوفياتهم وصدورهم الواسعة ، ما جلاهم الطيُّ ولا ارتابهم شكّ فحيثما قلّبت ناظريك كانت وكان الوطن. فأين كان حدُّ التوق عند الأردنيين وهم ينحتون صخر الشراه؟ وعلام كان الرهان في عصر تكالبت فيه القوى الخارجية على الجغرافيا والمكان ، اليونان والرومان والفرس وإمبراطوريات ميزوبوتاميا وأسر مصر القديمة الفرعونية ، وظل الأردنيون يبددون التردد واليأس.. فاستحكمَ الحُلمُ في تطويع الصخر والفضاء والدروب فكان المنجز يكبر مُبهًتاً ملامح اللامعقول،.
ومن أين تبدأ حكاية المعماريين والحرفيين الأنباط؟ ومن الذي ألهم صاحبه هذه المغامرة الإبداعية الجميلة؟ الصخر وتناسقه مع فضاءاته ، أم الحضور الأسطوري لأهل الرقيم؟ وقد تملكتهم عبقرية الفضاء الممتد نحو عنان السماء في بيدائهم التي نفروا منها مع اتحادهم القيداري نحو عرائش الصخر وصخب اللون بامتزاجه مع ذهب الشمس ليحيل الأفق وردياً.. فتماهى الخزافون والصاغة والنجارون الأنباط مع كيمياء المكان الذي وهبه إكسير الخلود ، ومنح البتراء سطوة الإلحاح على الوعي الكوني منذ قرون ، وهي تتلو على الحضارات والثقافات درس التفوق البشري ، وأن منهجا مركزيا يجب أن يمارس الإزاحة الانطباعية أمام تجليات الإبداع الرباني في فضاء الصخر والشراه وبين انتصار العرب الأنباط على جدلية تفوق الفكر المادي الغربي أو الروحاني الشرقي.. حيث أوغل الأنباط في ممارسة سحر التجلي التوليفي المنسجم بين معطيات الشرق والغرب وانصهاره مع سطوة المكان وطغيان فتنته.
تنوع البيئة الأردنية يمنحها عمقا متجذّرا ، متعذرا غير مسبوق في سواها ، يقتسم لها شمولا يستوعب الإفصاح عن سر تعدد الأمم والشعوب وتعاقبها على جغرافيته. وَلَستَ تَعْدَمُ وسيلةَ تناول تاريخه من أي زاويةْ شئتَ ، أَو أَن ترسم ملامح أيًّ مقطعْ تاريخي يَعُنُّ على البال. وقد كانت البادية الأردنية الجنوبية المترامية محافظة معان والممتدة شرايين وأوردة تتصل بالوادي الأم ، وادي السرحان ، حتى شمال غرب الحجاز تزخر في عين الراصد بسمات تكشف نوازع أهلها وهمومهم ، وترصد بكثير من الاكتناز صور الطموح المسكون في العقول والمعتلج في الحنايا.
بادية شرقي الجفر في معان سكن الروح المتحفزة للكشف والوصل مع وقع خطى أقدام من مروا ومن سكنوا ، وما كانت مفازتهم تلك إلا جبر انكسار ، أو ردًّ لهفة كل من تأزم بهم مقامهم ، واعتمل في نفوسهم اختناقهم بالمكان ، فكانت بوادي الأردن الجنوبية مكان انعتاقهم في عوالمهم ، وحلًّهم بعد أن يلمُّ الزمان أثوابه ويمضي، ولم تكن النقوش العربية الشمالية التي تم الكشف عنها في بادية معان وبوادي الوطن إلا تكريسا لحضور المكان ، تحفر على ظاهر الصخر والحجر مكنون النفس ، وتقبض فيه على المنطوق من أفعال ومن تأملات ، ولستَ تملك وأنت تقلب حجارة النقوش في رجومها غير استرجاع ما كتبوا ، وتستنطق النقش رؤيا تستحضر الروح التي سكنت الآباء والأجداد فتستشعر قداسة المكان وسطوته.
ويذهل المرء وهو يشهد فاعلية العربي في البادية الاردنية في إحلال عامل الوقت إطاراً واعياً لإرادته وفعله ، وهو إذ يمتلك هذه المهارة فإنه يحتمى بها خشية النهايات والغرق في زحام العموم. ويخال لي أنه حَرًصَ غاية الحرص على ألا يكون غفلاً يتشبث بتلابيب الخيال والسراب راكبا بحر الأمنيات ، فهو يرجو المشاركة في صنع العالم من حوله ، ولا ينوي ترك مكوناته تتبعثر من حوله فتسقط من يده. فلقد أسهمت البرية في رسم ملامح الحياة الاقتصادية العامة من مراعْ وواحات وأماكن تجمع المياه وتساقط المطر ، وشعاع شمس يهب الدفء حينا ، ويذهب بالأخضر النادر في غير حين.
إن تسمية معان مدينة للثقافة الأردنية حدث مهم ، وإقرار وطني بدور المحافظة وأهلها على الإسهام في النسيج الثقافي الأردني والعربي والإنساني ، ثم إن رجالات معان على كافة الصعد الثقافية والفنية والرياضية والأكاديمية والبحثية ، وما يتوفر في المحافظة من هيئات ومؤسسات ، وما فيها من بنى تحتية كل هذا وغيره مؤثثات فعل ثقافي رائد يكمل مسيرة نجاح تجربة المدن الثقافية.. إنها سنة تحتاج من الجميع تشمير السواعد وإعمال الفكر وتطويل البال والنفس والصبر والتمحيص لتكون أجندة العام ملأى بالفعل النافع الذي يمكث في الأرض ويرتقي بمعان المدينة والمحافظة إلى ما هو مأمول منها إسهاما في الفعل الثقافي وكسبا للرهان في إنجاح التجربة ، وليبدأ المعانيون باسم الله سنتهم الثقافية.. "وقل اعملوا".
منشور بتاريخ 27/1/2011 في جريدة الدستور