الاستقلال الفلسطيني وقيام دولة مستقلة يمكن أن يحلا جزءاً من القضية الفلسطينية، أي ما هو متعلق بالصراع مع الاحتلال الإسرائيلي الناشئ عن هزيمة حزيران 1967. وعلى الرغم من أهمية هذا الحل وضرورته للشعب الفلسطيني لتظهير وجوده كشعب مستقل على أرضه، فهو لا يحل جذر القضية الفلسطينية التي ولدت قبل هذا الاحتلال بعقدين، والتي تراكمت معطياتها على مدى القرن المنصرم بطوله.
بداية، يجب التحوّط عند معالجة الموضوع الفلسطيني بالقول: نعم هناك حل ممكن للقضية الفلسطينية وهناك حل تاريخي، ولكن مهما يكن الحل، فلا يمكن الحديث عن حل عادل، لأن العذابات والآلام والمعاناة الإنسانية لملايين البشر خلال عقود لا يمكن محوها بحل ممكن أو حتى بحل تاريخي. والمعطيات التاريخية للقضية الفلسطينية تُظهر أنها شديدة التعقيد والتشابك والعمق بحيث لا يستطيع حل الدولة المستقلة أن يكون قادراً على إنهاء القضية بالمعنى التاريخي. فقد حمل الصراع المحتدم منذ أكثر من قرن على أرض فلسطين من التعقيد والتداخل ومن الشحنات والحمولات ما يتجاوز القضايا الإجرائية في هذه القضية الجزئية أو تلك. وهذا لا يعني أن تحديد القضية الفلسطينية بوصفها قضية استقلال وطني، هو تحديد خاطئ، إطلاقاً، فهي قضية استقلال وطني بامتياز، إنما هذا الاستقلال الوطني وحده لا يحل المشكلة، بمعنى الحل الديموقراطي والتاريخي للقضية الفلسطينية.
يعتمد البحث عن حل ديموقراطي تاريخي للقضية الفلسطينية على رؤية طبيعة الصراع بين الأطراف والتمييز بين جذره وفروعه والتعامل مع كليهما. لأن العمل على القضايا الفرعية قد ينجز تسوية جزئية للصراع، لكنه غير قادر على إنجاز حل ديموقراطي للقضية الفلسطينية، مع قابلية تسوية من هذا النوع للحياة، إلا أنها عرضة للاهتزاز والانهيار، لأنها لم تقترب من جذور الصراع، الذي تتركه بلا حلّ.
ارتبط تاريخ الصراع بالأرض كمحور رئيس، وكشف مسارات الصراع على الأرض عن مصائر البشر التي سكنتها. ولأن المشروع الصهيوني لم يكن أصلاً مشروعاً للعيش المشترك على الأرض الواحدة، فقد وضع الصراع في سياق إلغائي: «نحن» أو «هم». فكانت المحاولات الصهيونية منذ البداية تقوم على صوغ المجتمع الصهيوني، كمجتمع غير متداخل مع المجتمع الفلسطيني، تمهيداً لحسم الصراع لمن تكون الأرض. وكي تكون الأرض للغزاة الذين امتلكوا القوة، كان يجب تطهير الأرض من البشر. لم يقتصر المشروع الصهيوني على احتلال الأرض وطرد السكان من خلال القوة، بل كان من ضرورات السيطرة على الأرض احتلال التاريخ أيضاً، تأكيداً للأسطورة التي استقاها إعلان بلفور من الدعاية الصهيونية عن «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض». لذلك لم تبرر إسرائيل نفسها كدولة استيطانية وكحالة استعمارية، إنما قام المؤسسون بصوغ مشروعهم كعملية تحرر مزدوج: تحرر من الشتات اليهودي من جهة، وتحرر من الاستعمار البريطاني من جهة أخرى. الأمر الذي استدعى إعادة النظر في تاريخ الأرض التي استهدفها المشروع الصهيوني، ليتوافق مع إعادة النظر في التاريخ اليهودي، وتحويله إلى تاريخ قومي يستعيد أرضه التاريخية، مغيباً تاريخ البشر الحقيقي على تلك الأرض، ومنكراً وجودهم أصلاً بحسب صيغة صهيونية تتلاعب بحقائق التاريخ بسخرية المنتصر.
لأن التاريخ «ملك المنتصرين»، فإن المنتصر يسيطر عليه بمفعول رجعي، ويعيد إنتاجه ليتوافق مع مصالحه وليبرر الحالة التي أفرزها الانتصار. وفي الحالة الصهيونية وبحكم تواطؤ الغرب المسؤول عن الكارثة التي حلت باليهود في الحرب العالمية الثانية، والتي رغب من خلالها وقبلها حل عُقده التاريخية مع اليهود على حساب الشعب الفلسطيني، كأقل الحلول كلفة وأكثرها فائدة. ومن هنا تمّ فرض الصمت واللاوجود على التاريخ الحقيقي لأرض فلسطين، وكانت ضرورة السيطرة على الرواية التاريخية لما جرى ويجري في فلسطين، ضرورة لا تقل أهمية عن السيطرة على الأرض ذاتها.
الكارثة الفلسطينية كانت الوجه الآخر الغائب عن تاريخ الأرض الفلسطينية، حسب الرواية الإسرائيلية، وكان إعلان دولة إسرائيل ذروة الكارثة التي أعلنت الهزيمة المدوّية للفلسطينيين، والتي تجسدت بالمذابح الجماعية وبعملية اقتلاع الشعب من أرضه. لم يدرك الفلسطينيون في العام 1948 أن مصيرهم سيكون ما أسفرت عنه حرب ذلك العام، وأن يجدوا أنفسهم قد تحولوا إلى سلسلة متقطعة من التجمعات البشرية الهامشية المعزولة في مخيمات مبعثرة في الدول العربية، والى أقلية محاصرة في وطنها. لقد استتبع كارثة الطرد الجماعي، تغييب للفلسطينيين عن الخريطة السياسية للمنطقة. فمنذ الكارثة، غابت فلسطين وشعبها، وما عادت تظهر إلا بوصفها مشكلة لاجئين إنسانية لا أكثر ولا أقل، تحتاج إلى مساعدات إنسانية، وتم تجاهل الأسباب السياسية للمأساة الفلسطينية بوصفها مأساة شعب فقد وطنه.
كان الغياب الفلسطيني عن الخريطة السياسية الخطر الأكبر الذي هدّد الفلسطيني. ففي الوقت الذي ظهرت إسرائيل على جزء من فلسطين التاريخية، غابت الأجزاء الأخرى، عبر الضم كما كانت الحال في الضفة الغربية مع الأردن، أو كما كانت الحال في غزة تحت الإدارة المصرية. وبحكم طبيعة الشتات كحالة تمزيق للتجمعات البشرية، فإن الشتات يعمل على تفكيك الروابط بين البشر، إلا أنه في الحالة الفلسطينية عمل على خلق الوحدة بفعل الضغط الكبير الذي تعرضت له التجمعات الفلسطينية في جميع المواقع. وكانت الوحدة الوسيلة الوحيدة لتغيير وضع يهدد وجودهم في الصميم، فأصبح «الفلسطينيون ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم البدائل الحية عن بلادهم» المغتصبة على حد تعبير الياس صنبر. فلم يكن أمام الفلسطينيين في مواجهة حروب الإلغاء والتشرد والاقتلاع، إلا أن يعيدوا إنتاج وحدتهم كشعب، لأن سؤال الوجود هو السؤال الرئيس الذي تعرّض له الفلسطينيون منذ العام 1948.
مع الاحتلال الإسرائيلي لما تبقى من الأرض الفلسطينية، أخذ المشروع الصهيوني يقضم الأرض الفلسطينية الجديدة التي وقعت تحت الاحتلال. والفلسطينيون الذين بدأوا ينجزون شيئاً على مستوى الهوية الوطنية قبل أعوام، وإعادة الاعتبار لوجودهم كشعب من خلال انطلاقة الثورة الفلسطينية ومن خلال تأسيس منظمة التحرير، وجدوا أنفسهم في مواجهة احتلال جديد، ما دفع الأمر باتجاه وحدة الثورة والمنظمة، ليبدأ ظهور الهوية الوطنية الفلسطينية من جديد، يمثلها كيان معنوي هو منظمة التحرير.
تعرض الشعب الفلسطيني خلال العقود الستة المنصرمة إلى عمليتين تاريخيين مترابطين، يفصل بينهما ثلاثون عاماً:
ـ العملية الرئيسية التي تشكل جذر الصراع الصهيوني ـ الفلسطيني، وهي الاستيلاء على وطنهم وإلغاؤهم عن الخريطة السياسية وتشريدهم. وعلى أنقاض هذا الشعب تمّ بناء دولة إسرائيل بإمكاناتها العدوانية، ووظيفتها في قمع المنطقة.
وكان لا بد للطبيعة العدوانية لدولة إسرائيل من أن تقوم بالتوسّع على حساب الآخرين. ولأنها ولدت كدولة بلا حدود، فإن ذلك كان يعبر بشكل حاسم على ضرورة توسعها من جديد، وهذا ما جرى في حرب 1967، الذي كان حدثاً حاسماً انطلقت من جذور المشروع المتمثل بدولة إسرائيل. وهذه هي العملية التاريخية الثانية التي خضع لها الفلسطينيون.
لكن للمشكلة الفلسطينية مستويين، الأول، يتعلق بتأسيس إسرائيل والكارثة الفلسطينية في العام 1948، الثاني، يتعلق باحتلال إسرائيل للأرض الفلسطينية في العام 1967. وتحتاج تعقيدات الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي إلى معالجة من طبيعة خاصة، تحمل سمات التعاقبية، فالحل الديموقراطي التاريخي للقضية الفلسطينية ذو طبيعة متناقضة، يقوم على أساس الانفصال من جهة، وعلى إعادة بناء الروابط الفلسطينية ـ الإسرائيلية لحلّ جذر الصراع على أسس ديموقراطية، بعيداً من السياسات العنصرية.
إن ما تعرّض له الفلسطينيون في إطار الصراع من سياسات الإلغاء المتضامنة بين إسرائيل والوضع الدولي، جعل النضال الفلسطيني يتمركز بشكل أساسي حول إثبات الوجود والحفاظ على الهوية الوطنية التي تعرّضت لمحاولات المحو والإلغاء. بذلك يكون الحق في الاستقلال الوطني عبر دولة فلسطينية تقوم بالتعبير عن الهوية الوطنية الفلسطينية، هو الحل للمشكلة الوجودية للفلسطينيين التي عانوا طوال تاريخهم المعاصر المعاق، وفي الوقت ذاته تشكل مدخلاً للحل الديموقراطي للمشكلة الفلسطينية. والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني بدولة، هو التعبير عن تراجع الصراع وإمكانية دخوله في أطوار أخرى، وبالتالي فهو يحتاج إلى تغيرات داخل إسرائيل نفسها، تقوم بشكل رئيسي على إلغاء صهيونية الدولة ويهوديتها، من أجل الاعتراف بالشعب الآخر على الأرض الواحدة، ويتمّ وضع الصراع على سكة الحل التاريخي للمشكلة الأكثر تعقيداً. إن السياسة الإسرائيلية كما يمكن قراءتها من خلال المفاوضات والاتفاقات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، تتعامل مع المشكلة الفلسطينية بوصفها قضية داخلية إسرائيلية، تجب معالجتها على قاعدة تخفيف خطرها إلى الحد الأدنى، وليست مشكلة شعب له الحق في تقرير مصيره، لذلك تظهر تجليات التسوية على الأرض الفلسطينية كحل أمني عنصري، يقوم على حل مشكلة إسرائيل مع سكان الأراضي المحتلة من خلال حصرهم في معازل بشرية عبر تطويقها، بالشروط الإسرائيلية وبالطرق الالتفافية. أي أن إسرائيل تعمل على حل المشكلة على قاعدة الخلاص من السيطرة على البشر بوصفهم مشكلة إسرائيل، والاحتفاظ بالأرض بوصفها حق إسرائيل. لذلك يحتاج حل الاستقلال الفلسطيني إلى تغيرات داخل إسرائيل، تمس طبيعتها الأيديولوجية وعقليتها السياسة الأمنية الالغائية، ليقوم الحل الاستقلالي على أساس الاعتراف بفلسطينية الشعب والأرض معاً.
مدخل الحل الاستقلالي، يجب أن يرافقه اختبار التعايش، للعمل على إعادة بناء الحل الآخر، الذي ينبغي أن يعالج جذر الصراع، وهذا الحل يجب أن يدمج الدولتين في دولة واحدة على أرض واحدة على أسس ديموقراطية، وهي وحدها الكفيلة بترميم الظلم التاريخي الذي وقع على الفلسطينيين في العام 1948. فبناء دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، يعمل على حل فروع أساسية في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، لكنه لا يحل جذر الصراع. بذلك يكون الحل الديموقراطي بدولة واحدة مدخلاً لحل المشكلات العالقة من جذر الصراع. لكن هذا الحل وفي الظروف الحالية يبدو أقرب إلى الحلم، فهو يحتاج إلى شروط أخرى من أجل إنجازه يتعلق بإسرائيل وبإعادة تعريف هويتها كدولة، وإلغاء يهودية الدولة، ما يعني إلغاء الدور الوظيفي لإسرائيل في المنطقة.
إن الدولة الديموقراطية الموحدة للشعبين، هي الحل الديموقراطي التاريخي للقضية الفلسطينية وللمشكلة الإسرائيلية، وهي وحدها الكفيلة بالقضاء على جذر الصراع. وأي حل آخر للقضايا الفرعية المنبثقة من الصراع الرئيسي، هو حل قابل للحياة، ولكن لا يمكن للسلام أن يأخذ طابعه المستقر والدائم إلا بالعمل على جذر الصراع، وهو ما يحتاج إلى العمل طويلاً، ليس من جانب الضحية فحسب، بل من جانب الجلاد أيضاً. لأن تنازلات الضحية تحت ضغط القوة والضعف لا تنتج إلا تسوية غير متوازنة، وبالتالي فهي عرضة للانهيار. ولأن التاريخ المشترك هو ذاته تاريخ الضحية وتاريخ الجلاد، فلن يستطيع الجلاد أن يتقدّم نحو السلام من دون الاستماع إلى صوت الضحية والإقرار بحقها، والاعتراف بالجريمة التي ارتكبت بحقها، والعمل على التكفير عنها، ليس بالمعنى الأخلاقي فحسب، بل الاعتراف بالحقوق الكاملة للضحية. وهنا يكمن الفارق الأساسي بين التسوية على أساس القوة، وبين السلام بين الشعوب.
ــــــــــــــــــــ
السفير
سمير الزبن
كاتب فلسطيني مقيم في دمشق