بدت حمص أكثر اشراقا وحيوية، وبدا أهلها أكثر طمأنينة وسكينة. انهم يجنون ثمار تكاتفهم وتعاونهم فيما بينهم، في حين نرى دونهم من السكان والمدن يغرقون في حياة لا تراحم فيها ولا تواصل.
مع شروق الشمس تجولت عبر أروقة المدينة وأزقتها، اطالع بيوتها القديمة ذات الحجارة السوداء، اسعف ذاكرتي مستدرجا لحظات المراهقة التي تركتها ورائي منذ أكثر من ثمان سنوات مارست خلالها وطنيتي قسرا.
رأيت شارع الدبلان بحسناواته اللائي لايضاهي جمالهن جمال، وتناولت (البوظة) العربية اللذيذة المصنوعة من الحليب الطازج والقشدة البلدية، شربت القهوة على ضفاف العاصي حيث يقبع مقهى ديك الجن، ودخلت السوق المسقوف الذي بدا أكثر جمالا ونظاما من ذي قبل.
وقت الظهيرة قادتني قدماي المنهكتان الى مسجد ومقام القائد الصحابي الجليل خالد بن الوليد رضي الله عنه، ذلك المسجد المشهور بقبابه الفضية الضخمة المتلألئة وأحجاره السوداء العملاقة.
بالرغم من استعدادي للقاء صحابي جليل مُسجىَ على عرش من العزة والرفعة، غير أني لم أكن أعلم أن رهبة اللقاء ستكون شديدة هكذا، فما أن توضأت ودخلت المقام، وهنت قواي وتجمدت اطرافي وظهرت ارادة مغايرة تمنعني من الدخول، ارتبكت ودخلت في حالة من الحيرة، لم يخرجني منها الا صوت الآذان.
ما أن انتهينا من الصلاة توجهت الى المقام، وجلست واضعا رأسي على جدرانه، وأخذت أتأمل جماليات المسجد ووجوه المصلين التي تبعث على الشعور بالراحة والطمأنينة وهو شعور غريب عني.
سرت نسمة لطيفة باردة أشعرتني وكأنني أتكأ على ارائك الجنة حيث لا لغو ولا تأثيم، لقد سبتني صحب ابن الوليد وسباني جمال المسجد حتى اصبحت لحظتها جزءً من المكان فذبت في ملامحه المحيطة، وشعرت بالسكينة فأغمضت عينيي ونمت.
في الرؤيا أتاني القائد العظيم خالد بن الوليد رضي الله عنه بدرعه وسيفه ولباس المعركة، تقدم نحوي ببطئ فبدا عملاقا صلب الملامح عظيم الجسد، لكن رقيق النظرة جميل المبسم، توقف عندي وقال: أخيرا أتيت؟ انتظرتك طويلا.
بدت علي الحيرة وفتحت فاهي غير مصدق، نظرت نحوه وقلت: الست الصحابي الجليل خالد بن الوليد؟ فهز رأسه مؤكدا، فقلت: تنتظرني أنا؟لم؟، قال الست مثخن الجراح، الم تعد من هناك ذليلا مهزوما مظلوما؟ صمدت كل هذه السنين وحدك ولم اكن اعتقد انك ستصمد، لكنك فعلت، لذا تستحق المساعدة، سأعالجك وازيل الصدء الذي حل بمروءتك كذلك العلق الذي امتص بياض وجهك، سأبني أركان اخلاقك من جديد، مسكين انت، ذهبت لتعيش حيث لا تنفع النوايا الحسنة، فكنت فريسة سهلة لكلاب ضالة، سأزيل عنك غبار المعركة فتعال معي.
اجبته غاضبا: لمَ تعالجني؟ ما الفائدة؟ اني عائد ولا ازال دون سلاح..حتى النوايا الحسنة فقدتها فماذا افعل؟ وبما اقاتل؟ ولم اقاتل؟
تبسم ووضع يديه على كتفي ونظر نحوي بحسم وقال بنبرة باترة: هذه هي حياتك يا بني، عد من حيث أتيت، وعندما تثخنك الجراح ارجع الي، فستجدني انتظرك، فانا باق في حمص لا أريد مغادرتها.
ربيع البرغوثي
أديب فلسطيني